تميزت
الشخصية المصرية على مر العصور بصفات وسمات أصيلة في وعي المصريين بأنفسهم (الذكاء/ التدين/ الطيبه/ السخرية البريئة/ الميل للاستقرار)، وهي الصفات التي تكاد تكون أبرز ملامح الخريطة الأساسية لهذه الشخصية الفريدة في وعي المصريين بأنفسهم ووعي غيرهم بهم، لكن كثيرا من الباحثين يرصدون تحولات عميقة ومقلقة في هذه الصفات والسمات.
فذكاؤهم تحوّل إلى نوع غريب مما عُرف بــ"
الفهلوة"، هذا الداء العياء الذي سيعاني منه المصريون كثيرا، وهو ما استرعى انتباه المستشرق الفرنسي جاك باركن؛ واصفا الفهلوة بأنها السلوك المميز للشخصية المصرية، وأن هذا السلوك مكّن مصر من ألا تضيع أبدا لكنه جعلها تخسر كثيرا. ويصدق على ذلك الراحل الكبير دكتور حامد عمار، عميد التربويين المصريين، محاولا قطع شوط طويل في المسافة الشائكة بين كون الفهلوة سلوكا أنقذ مصر على طول تاريخها من الضياع، والخسارة التي ما زالت مصر تتكبدها بسبب هذه الفهلوة.
تعددت نماذج "التدين" لدى المصريين، بعضها أصيل وعميق وسمح، وبعضها غير ذلك.. الدين جزء لا يتجزأ من طبيعة الشعب المصري، وهو يعيشه في تسامح يندر أن يكون له نظير في العالم. وهو عند المصريين شديدة العمق والتجذر، وهذا أمر لا تخطئه العين في التاريخ المصري القديم والوسيط والحديث، بل ويقولون إن تاريخ مصر في كل مراحلها وتتطورها ما هو إلا تاريخ أديانها. والبعض يرجع تكون "الدولة المركزية" إلى الحالة الدينية في المجتمع، وما نتج عن ذلك من فكرة المؤسسات والاستمرار والاستقرار، فأصبح عندنا مجتمع محكوم من مؤسسات سياسية وإدارية وقضائية ودينية.
قلّت درجة "الطيبة" بوضوح وحل محلها الميل للعنف والعدوانية والشراسة، وزادت حدة "السخرية" وأصبحت قاسية وأحيانا فجة وجارحة، أما "الاستقرار" فقد اهتز كثيرا بعدما أصبحت الحالة العامة طاردة، وأصبح السفر والهجرة حلم الجميع، بعد أن أصبح متعذرا تحقيق الآمال والأحلام في حضن الوطن.
* * *
من العوامل الرئيسة التي أدت إلى تلك التغيرات في الصفات والسمات الأصيلة للشخصية المصرية؛ طريقة قيام الجمهورية ومساراتها التي اختارت 1952، وما أحدثته طوال هذه المسارات والمحطات من تغييرات جذرية؛ بعضها إيجابي، وهو ما يتصل بأدبيات التحرر والاستقلال الوطني، وأكثرها سلبي في الحقيقة (الحكم الشمولي وتأميم المجال العام..).
تغيرات حادة وعميقة أصابت البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمصريين وحياتهم، صاحبها اهتزاز عنيف في البنية
الأخلاقية والطبع المصري وأعرافه الأصيلة.. يقولون إن الأخطاء الصغيرة يضاف إليها عامل الزمن فتتحول إلى كوارث كبيرة.. سنرى سلوكيات الاعتمادية والسلبية والفهلوة وادعاءات البطولة الزائفة، وسنرى الأعين التائهة والأصوات الهاتفة (الجماهير الغفيرة) بلا دليل أمين ولا وعي راشد، ثم أتت أم الهزائم (حزيران/ يونيو 1967)، والتي كانت نموذجا أسود للخداع والكذب والتضليل، وأحدثت صدمة عاتية وتغيرات جذرية عميقة في الشخصية المصرية.
ثم جاءت معاهدة السلام مع إسرائيل وما تبعها من تغيرات سريعة ومفاجئة لكثير من المفاهيم التاريخية والوطنية والقومية حول إسرائيل كعدو "استراتيجي"، واستمرارا لـ"عقيدة الصدمة" التي أتقنها الرئيس السادات جاء الانفتاح الاقتصادي، وما صاحبه من تنامي سلوك استهلاكي غريب على المصريين الذين استولت عليهم أوهام الثراء السريع، جنبا إلى جنب مع انتشار ثقافة الخفة والانتهازية و"الهمبكة".
أيضا يقف كثير من الباحثين عند موجة السفر إلى البلدان العربية في وقت ارتفاع أسعار النفط من منتصف السبعينيات، ودوره في تغيير ملامح الشخصية المصرية. كانت مصر لدى المصريين "الكون كله" كل الشعوب تعتز بأوطانها. لكن المصري بشكل عام له خصوصية؛ أنه يحمل الشمس بين ضلوعه والنيل في عينيه.. وهو يفخر بذلك دون مبالغة، ورغم كل المنغصات التي عاشها، كان دائم التمسك بهذه العاطفة وهذا الوجدان تجاه وطنه.
على أن أخطر ما حدث للشخصية المصرية هو شيوع حالة الخوف وانعدام الثقة واليقين، وغياب الحلم العام والهدف العام والمشروع العام. وانطلقت المراقبة في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس (تعيينات الوظائف على كل المستويات والترقيات، واختيار الوظائف القيادية والانتخابات والبعثات.. وزد ما شئت).
خفّت، أو قل اختفت الأصوات الأمينة الحقيقية على المستويات السياسية والفكرية والدينية والاجتماعية، ما أتاح الفرصة لتغلغل الفساد العام المحتمي بالنفوذ في كل هذه المجالات (وليس في مجال المال والأعمال فقط)، ووصول عناصر تفتقر إلى الكفاءة والضمير إلى مراكز الإدارة العليا، في نفس الوقت ابتعدت واستبعدت العناصر الموهوبة والمتميزة عن مراكز التأثير والتوجيه.
أما بقية الناس فقد تحولوا إلى أغلبية تسعى إلى تحصيل لقمة عيشها وعيش أبنائها، ولجأت إلى وسيلتها التاريخية في الرفض: التحايل والكذب والالتواء والتخفي والخنوع والخداع والنفاق ومد اليد.. بكل أشكال المد، والتنازل عن أشياء طالما اعتز بها المصريون: الكرامة والضمير والصدق والشهامة.
تاريخيا.. معروف عن المصريين قدرتهم الهائلة على التكيف مع الظروف، ويبدو أن هذه القدرة اكتسبوها من تاريخهم الطويل في التعامل مع أنماط متعددة من الحكام والحكومات، وتغير الظروف والأحوال التي يعيشون تحت وطأتها، فلديهم قدرة كبيرة على قبول الأمر الواقع أيا كان هذا الواقع! والاستسلام له والتسليم به إلى درجة الخضوع الغريب، ولديهم صبر طويل في ذلك، ولديهم أمل في رحيل من يظلمهم بشكل قدري! لا دخل لهم فيه.
هناك ضرورة تامة لبناء الثقة واليقين في أهمية وضرورة العمل العام ونشر ثقافته وقيمته بين الشعب، في محاولة جادة ومخلصة وصادقة لتحقيق النفع العام ولم شمل الوطن. علينا أن نغرس عميقا وبقوة في الأرواح؛ أن "الشخصية المصرية" جديرة بالعيش الكريم والحرية والعدل الكامل.