قضايا وآراء

روافد التديُّن المصري

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600
ثمَّة مقولة شائعة في الإعلام والثقافة "المصريَّة"، وهي أن الشعب المصري "مُتدين بطبعه"! بيد أنه ما من باحث جاد حاول تفكيكها، وإدراك أصولها وحمولتها، واختبار مصداقيتها، ودع عنك محاولة الوقوف على سبب شيوعها، أو حتى تمييز "تديُّن الطبع" المصري هذا. ومن ثم؛ فسنجتهد -في هذا المقام- لتتبُّع بعض روافد هذا التديُّن، تطلُّعاً إلى إمكان تعيين بعض الخطوط العريضة لخارِطة التديُّن الإسلامي المصري إبَّان القرن الأخير، مع تجريد بعض سماته، إضافة إلى محاولة فهم حركياته، وأهم التغيُّرات التي طرأت عليه وطبيعتها -في سلسلة من المقالات- فربما صار هذا باباً ينفتِح لنا لنُدرِكَ ماهية "تديُّن الطبع" المشار إليه!

وسيتعيَّن على الباحث الجاد -الذي يُحاول مُعالجة المسألة تفصيلاً- أن "يَصِفَ" الملامح الرئيسة للوجود السكاني المصري الحالي، وأصوله وتركيبته؛ وصفاً عامّاً يتسنَّى لنا معه فهم طبيعة تديُّنه، وبعض أسباب اتخاذ هذه المجموعة السكانية أشكالاً مُعينة من التديُّن. لكنَّه لن يستطيع أن يُدرِك أثر التنوع المذهل في الخلفية العرقيَّة والمذهبيَّة، للمجموعات السكانية المختلفة، التي صارَت تَقطُن القُطر المصري(1)؛ بغير أن يأخذ بعين الاعتبار الطبيعة الجغرافية الفذَّة للموقع المصري، والآثار السياسية والثقافية والاقتصادية لهذا الموقع -داخليّاً وخارجيّاً- التي انعكَسَت بدورها على حالة التديُّن وطبيعته داخل القُطر، وصولاً إلى الخصائص الثلاث المميزة لهذا التديُّن، والتي سنبسطها في مقال تال؛ إذ تَعكسُ خصائص الإقليم الجغرافي كما تعكس التنوع الكبير في الروافِدِ الإثنيَّة والمذهبيَّة.
أوقات مثَّلَت فيها مصر ملاذاً حقيقيّاً، و"قيادة بديلة" لعالم الإسلام، بفضل موقعها المتوسط ورحابة بيئتها كما سنُبين. بيد أن الغلو القومي والعلماني -المستعْبَد للحداثة الغربيَّة- قد عمد إلى القطع بين مصر وأصولها المسلمة، وعُمقها الاستراتيجي

وثمَّة خلفيَّة يلزمنا تثبيتها، بادئ ذي بدء؛ وهي أنه إذا كان هذا التنوع سمتاً حقيقيّاً من سمات "الوجود المصري" على مر التاريخ، وهي بدهيَّة يسع الباحث التأكُّد منها بحصر بعض الهجرات الكُبرى إلى هذا القُطر وعبره، خصوصاً منذ الفتح الإسلامي؛ فإن المؤكد أن موجات هذه الهجرات كانت تفيضُ فتُغرِقُ القُطر في أوقات بعينها (سقوط بغداد في يد المغول، وسقوط الأندلس في أيدي الكاثوليك، وهيمنة المماليك على طُرق التجارة القديمة، والنهضة الاقتصاديَّة لأسرة محمد علي.. إلخ)، وهي أوقات مثَّلَت فيها مصر ملاذاً حقيقيّاً، و"قيادة بديلة" لعالم الإسلام، بفضل موقعها المتوسط ورحابة بيئتها كما سنُبين. بيد أن الغلو القومي والعلماني -المستعْبَد للحداثة الغربيَّة- قد عمد إلى القطع بين مصر وأصولها المسلمة، وعُمقها الاستراتيجي؛ فضخَّم حجم موجات الهجرة المتتابِعة منذ تسلُّط محمد علي الكبير، حتى صارَت في روع كثيرين حدثاً فذّاً لا مثيل له -رغم أنها الأصل!- وقد فعلوا ذلك ليُسلطوا بؤرة عنايتهم على مآل هجرات المغامرين والمرتزقة الأوروبيين (كأنها بداية للتاريخ!)، إذ غصَّ بشذوذهم القُطر المصري آنذاك؛ بحثاً عن الثروة، التي هيأ محمد علي وأسرته أسبابها؛ فاتخذ غُلاة المحدَثين وجُهَّالهم هذه الجاليات من أراذِل الأوروبيين قبلة، ودليلاً على "الرُقي المصري"، و"بداية" محاولة عبثيَّة لقطع مصر عن مُحيطها العربي المسلم، ووصلها بأوروبا!

الشاهد أن الأدب والفن والدراما قد تَبنَّوا هذه الرؤية الاختزاليَّة بالكامل، وتغافَلوا عن أن أسرة محمد علي كانت أسرة ألبانية مسلمة في الأصل، وأن محمد علي نفسه قد استقدَمَ عدداً كبيراً من الشركس والتُرك، والكُرد والألبان، وغيرهم(2)؛ لأنه لم يكُن يَثِقُ في المصريين! فقد فتحت دولة محمد ذراعيها لهجرات كثيفة لشتى سكان الأقاليم المسلمة -خصوصاً الأعجمية- بوصفها جماعات وظيفيَّة، ومنها مثلاً هجرات شيعة إيران، وهجرات صوفيَّة الأقاليم العثمانية. ولهذا مثلاً، تكوَّنَت طليعة "الثقافة المصريَّة" من أبناء لآباء أتراك وأكراد وشركس؛ أمثال: أحمد شوقي وتوأمه البارودي، وعباس العقاد وشيخه فريد وجدي، والأسرة التيمورية، وقاسم أمين، وأحمد رامي.. إلخ.

بل إن بروز "المصريين" من أبناء الفلاحين آنذاك في المجال الثقافي -من محمد عبده(3) إلى طه حسين مروراً بلطفي السيد- ظلَّ استثناءً محدوداً لا يُعوَّل عليه (ما يُفسر تحولهم لاحقاً إلى أصنام!)، وهو الأمر الراجع -بطبيعة الحال- لأسباب طبقيَّة في المقام الأول؛ فإن الفلاح المشغول بلُقمَة لا يحصل عليها إلا بشق الأنفس، لن يَسعه الاشتغال بالعلم والفقه والأدب والثقافة -قديمها أو حديثها- اللهم إلا إذا نبغ نبوغاً يلفتُ الأنظار؛ فحظي بتقدير الحكام ورعايتهم الماليَّة. ويُضاف إلى تلك "الروافد البشريَّة"، هجرات القبائل الحجازيَّة (والأمازيغيَّة!) التي تتابَعَت زمناً طويلاً -خصوصاً على صعيد مصر- والهجرات الكثيفة لأبناء الحَضَر من الشوام، خصوصاً إلى القاهرة والإسكندرية.
التنوع في التركيبة السكانية المصرية، وآثاره الثقافيَّة؛ لم يَكُن استثناءً حداثيّاً مُجرَّداً، وإنما اطرادٌ لنمط تاريخي ثابِتٍ قديم؛ فرضته الطبيعة الجغرافيَّة، وانعكس على طبيعة التديُّن؛ إذ أن موقع مصر -بوصفها مُلتقى قارات العالم القديم (آسيا وأوروبا وأفريقيا)- جعلها مُلتقى حقيقيّاً للتيارات الدينيَّة والثقافية والعلمية والسياسية، كما كانت مُلتقى لطُرق التجارة قبل رأس الرجاء الصالح

هذه الإشارة السريعة، تُبين أن التنوع في التركيبة السكانية المصرية، وآثاره الثقافيَّة؛ لم يَكُن استثناءً حداثيّاً مُجرَّداً، وإنما اطرادٌ لنمط تاريخي ثابِتٍ قديم؛ فرضته الطبيعة الجغرافيَّة، وانعكس على طبيعة التديُّن؛ إذ أن موقع مصر -بوصفها مُلتقى قارات العالم القديم (آسيا وأوروبا وأفريقيا)- جعلها مُلتقى حقيقيّاً للتيارات الدينيَّة والثقافية والعلمية والسياسية، كما كانت مُلتقى لطُرق التجارة قبل رأس الرجاء الصالح؛ فحجَبَ عنها إمكانات "التقوقع السياسي" مثل إيران، كما نفى عنها تُرهات "النقاء العرقي" التي قد تتمتَّع بها القبائل المعزولَة في البوادي، وأخيراً؛ جعلت بوتقة الصهر هذه من "الاستعلاء القومي" -مثل تركيا- أكذوبة بلهاء، لا يمكننا الولوغ فيها وإلا صرنا أضحوكة. أما الأعظم أهميَّة؛ فهو أن هذا الموقع قد حَرَمَنا بخصائصه من الانغلاق الديني المفضي إلى هيمنة كاملة لتيارات الغلو(4)، بما أن التيارات التي تلتقي في هذا القلب المنفَتِح؛ يُعيد بعضها تقويم بعض.

هذا الإقليم نفسه -والمنفَتِح بطبعه- قد أكسَبَ كل ما يَعتَمِلُ فيه خصائص معينة، جعلت الانغلاق عليه أمراً شبه مستحيل، مهما كان الدافع أو المسوِّغ. بل جعَلَت أي انغلاق مؤقَّت، موعودا بمآلٍ انفجاري كارثي، لسببٍ بدهي: أن الموقع الجغرافي قد جعل من هذا القُطر قلباً حقيقيّاً تلتقي عنده -وتمر عبره- شتَّى التيارات العالميَّة، وهو مرور يحتاجه أي تيار يبغي التخلُّص من عناصر الغلو فيه؛ ليستطيع الاستمرار والتجدُّد والانتشار. ولهذا، فإن أي محاولة للانغلاق القُطري المصري؛ تعني انسداد الشرايين والأورِدَة، الموصِّلَة بين أطراف الحركة الدينية والثقافية، والاقتصادية والسياسية، وتحديداً في عالم الإسلام. وهو انسدادٌ يؤذِن بانفجارٍ حتمي لهذه الشرايين، كما قد يُفضي إلى تيبُّس هذا القلب نفسه (كما نرى اليوم!)، بعد إذ انقطع عنه المدد!

وللحديث بقيَّة إن شاء الله تعالى..
__________
(1) لاحظ أن عُمر الحدود السياسية الحالية، وقانون الجنسية المصري؛ حوالي القرن فحسب، بينما يبلُغ عُمر الإسلام في مصر أربعة عشر قرناً كاملين!
(2) هذا عدا تمصُّر واستقرار أفواج ضخمة من أبناء هذه الأعراق -وغيرها- منذ الدولة الطولونية التركية، مروراً بالفاطميين، والأيوبيين الأكراد، والمماليك الذين تحدَّر أكثرهم من القوقاز ومن الخانات التُركيَّة.
(3) كان رفاعة الطهطاوي شريفاً من آل البيت النبوي؛ فهو مُتحدِّرٌ من أسرة من الأسر العربية (ومثلهم آل عزام) الكثيرة التي هاجرت من الحجاز إلى صعيد مصر. أما الشيخ العباسي المهدي -أول من جمع الإفتاء إلى مشيخة الأزهر- فكان ابناً لرجل "قبطي"، أسلم وتفقَّه في الأزهر؛ فحظي برعاية إبراهيم باشا -ابن محمد علي- وأنجاله. 
(4) كما حدث في نجد مثلاً أو حتى في بادية الشام.

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry

التعليقات (0)