قضايا وآراء

المال كعبة السيسي المقدسة

ماهر البنا
1300x600
1300x600

بعد غياب عن متابعة تصريحاته و"تشويحاته" للأتباع من الوزراء وأكياس الحاشية، تعثرت بالصدفة في كلام عبد الفتاح السيسي خلال إطلاق ما يسمى "المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية"، ولفت نظري أن الرجل يعاني من أعراض عصابية تستحق الدراسة، فعدت إلى تسجيل الفيديو لمتابعة التصريحات بدقة، وملاحظة تشنجات عضلات الصدغ ونظرات العيون وحركة الجسد التي تكشف عن مكنونات النفس، فيما يعرف في علم النفس بمخزون "السبليمنتال" أو مكنون الوعي الباطني اللا إرادي.

وباختصار كانت أبرز تصريحاته هي أن الناس خرجت في 2011 (يقصد 25 يناير من غير أن يسميها ثورة أو مؤامرة) عشان مفيش رضا مجتمعي، وكان قد بدأ كلمته قائلا بالعامية إنه لا يتحدث كمسؤول، ولكن كمواطن زي كل المواطنين، وأكد أن كلامه "مش للفئة اللي هي المفكرة والمثقفة والمعنية.. كلامي لكل الناس".


ثم سأل الحاضرين، وكأنه ينسف كل ما قالوه وينسف فكرة المشروع الوهمي الذي يتحدث في احتفالية إطلاقه، فقال: "هل الهدف هو تنمية الأسرة أم تنمية الدولة المصرية؟

هل الهدف هو عمل حالة رضا للأسرة؟ أم حالة استقرار للدولة اللي انتو أمنتونا عليها، وقلتوا لنا خلوا بالكم من مصر.. حافظوا عليها.. وطلعوها قدام.

صحيح الأحوال صعبة لكن ده تراكم خمسين سنة قبل كده، وأنا نفسي كنت بسأل زمان: احنا ليه كده؟.. ليه المستشفى بتاعتنا بالمستوى ده؟".

ثم اتضح بعد قليل أن الدافع وراء هذا المدخل هو النفقات التي يتطلبها البعد الاجتماعي لتنمية الأسرة، فالفلوس هي الهاجس الذي يطارد السيسي وتتمحور حوله كل سياساته وقرارته، لذلك أشار إلى تكلفة علاج المرضى المحتاجين على نفقة الدولة، معاتبا الوزارة أنها قفزت من بضعة آلاف إلى أكثر من مليون مريض. وأكد أن ذلك يعد استنزافا لموارد الدولة، لأن طوابير انتظار المرضى لن تنتهي، والمضحك المبكي أن هذه التصريحات تأتي في الوقت نفسه الذي تحتفي فيه وسائل الإعلام بقرار السيسي علاج الفنان سمير صبري على نفقة الدولة، وهو من غير المحتاجين، وغيره قائمة طويلة من أصحاب الشهرة والمال والنفوذ.

بل إن النفقات الإمبراطورية التي يعتمدها السيسي لنفسه في مظاهر الاحتفاليات والحركة والملبس تتناقض مع حديثه الدائم عن عدم قدرة الدولة "المسألة إني مش عاوز أديك، المسألة إني مش قادر أديك". ويقر بأن مرتب الطبيب غير لائق وكذلك المعلم، لذلك يسافرون إلى دول أخرى بحثا عن فرصة عمل أفضل.. المسؤول الأول والأوحد لا يستطيع أن يقدم لهم "اللائق"، ومع ذلك يطلب أن يحصل على مستوى لائق في الخدمة الطبية وناتج التعليم. وعلى سبيل المثال حكى أن رئيس الوزراء أخبره مرة بأن هناك فرص عمل يحصل فيها خبير التكنولوجيا على عشرات الآلاف من الدولارات في الشهر، من غير أن يسافر خارج مصر ولا يخرج حتى من بيته، حيث يكفي أن يجلس أمام شاشة الكومبيوتر ويعمل في البرمجة لدى شركات دولية.. وبالطبع برقت عينه طمعا في العائد الوفير من العملة الصعبة، فأمر رئيس الوزراء بالإعلان عن فرص تدريب وعمل لخريجي كليات الهندسة والاتصالات والحاسب الآلي، وبخجل قال له رئيس الوزراء إن تكلفة تأهيل الطالب حوالي 30 ألف دولار وتحتاج إلى عام ونصف من الدراسة الجادة، ومعظمهم لا يمتلك هذا المبلغ، فقال له: الدولة هتكفل بيهم، ده استثمار حديث ومضمون.

وبعد الإعلان عن المشروع وتقديم آلاف الطلاب واختبار الأكفأ منهم شعر السيسي بالإحباط، لذلك سأل الحضور في المؤتمر: تخيلوا لما نعمل اختبار لحوالي 200 أو 300 ألف طالب تكون النتيجة كام، ورد أحدهم من القاعة: حوالي 50 في المائة يا افندم.

قال السيسي يعني المفروض يكون عندنا 150 ألف شاب جاهز للتأهيل؟ ثم وجه كلامه للدكتور مدبولي: النتيجة كام يا دكتور؟ فقال مدبولي 111 ألف طالب.

وبعدها أنشد السيسي حملة هجوم على مستوى التعليم، ليس بغرض إصلاحه، لكن انتقاما من الإحباط الذي شعر به لما فشلت حسبة 150 ألف طالب في 100 ألف دولار عائد شهري، وهبطت إلى 111 ألف فرصة فقط!

المال يعمي الرجل عن الحقيقة وعن الواقع، فهو يهمل التعليم ويقول: يعمل إيه التعليم في وطن ضائع، وعندما يحتاج مستوى جيدا من الخريجين، يلومهم ويلوم العملية التعليمية، ولا يلوم إخفاق نظامه في رعاية التعليم لكي يحصل على المنتج الجيد، لذلك يستخدم المثال لتأكيد عدم أحقية الخريجين في أي فرص عمل داخل مصر ولا خارجها، لأنهم نجحوا بالغش ولا يصلحون لسوق العمل، مقللا من الدراسة في كليات مثل الآداب وغيرها، لأن الوطن لن يستفيد من خريجي قسم الجغرافيا أو علم النفس!!

وبنفس الطريقة الكاشفة يحكي أنه حضر اجتماعا في بلجيكا للنقاش في ملف حقوق الإنسان، و"من ضمن الحاجات اللي اتكلمت فيها قلت للمسؤول هناك: انت ليه ماسألتنيش الناتج المحلي بتاعك كام؟

تعجب وقال لي: ما علاقة هذا بحقوق الإنسان؟

قلت: عشان أنا ممعيش فلوس، الناس في مصر مظلومة، ما بتاكلش كويس، وما بتتعلمش كويس، وبالنسبة للكلام أنا مش مانع حد يتكلم، بس المفروض يتعلم ويعرف القضية، لأن اللي بيتكلم ويعارض معندوش إدراك للقضية".

وفي نفس السياق عاد السيسي إلى متلازمة الأب السكير الفاسد الذي ينفق المال على الملذات والمزاج الشخصي ويضيق بطلبات أولاده وبيته: انتو بتاكلوا كتير.. بتصرفوا كتير، ويقرر عرضهم للبيع أو الخدمة في بيوت الأثرياء لقاء أجر. وهي الفكرة المشينة التي كرسها المقال الملعون لمالتوس عن السكان، والذي استهوى الحكام من عيّنة السيسي الذين يرددون في تصريحاتهم كلمات عن الحياة الكريمة للناس، وعن الثروة البشرية، بينما يكررون الشكوى من الإنجاب والزيادة السكانية، منطلقين من أنهم آباء فقراء يعولون أطفالا كثيرين، وليسوا مسؤولين عن شعب له الحق في الحياة والعمل لتحقيق التنمية المبكي عليها من قاتلها.

يقول السيسي: مرة قابلتني واحدة ست في الشارع وشكت من الحال وأنها أم لا تستطيع أن تنفق على أولادها، فسألتها: عندك كام؟

قالت: ستة.

قلت لها أنا عندي 100 مليون.

وكأن سكان مصر يستيقطون ليطلبوا مصروفهم في الصباح ومشاريب القهوة في المساء من بابا عبد الفتاح الحاني الحنون، وهو عاوز يديهم بس مش قادر.

وفي خطبة مهترئة يتقمص مرافعة عبد الفتاح القصري في فيلم "الأستاذة فاطمة" ويقول: يا مصريين اصحوا.. القضية كبيرة.. قضية اننا نبني مواطن حقيقي (يقصد ينفع يجيب دولارات للدولة).. روحوا المرج والمطرية والخصوص وشوفوا العشوائيات والفقر، أنا عشان افتح شارع بهدم ألف بيت. ثم يضيف كاشفا عن جهله السياسي: مفيش حاجة اسمها "نظام سياسي" في مصر.. محدش يتكلم ان النظام مسؤول.. فيه "دولة" كلنا مع بعض مسؤولين.

ومع ذلك لا أحد ينطق حتى من وزرائه إلا بإذن، ولا أحد ينطق في إعلامه إلا بما تمليه رسالة من موبايل سامسونج، ولا أحد (حتى الأزلام من نوع وحيد حامد وعادل إمام) يجب أن ينقد الدولة، ويجعل منها "خصما" كما حدث في فيلم "الإرهاب والكباب"..

والخلاصة أن فكرة العود الأبدي إلى المال كإله يعبده السيسي، هي العقيدة التي تتخذ مظاهر متعددة منها محاربة الرشوة، بينما الحقيقة هي المصادرات وفرض الإتاوات على رجال الإعلام واقتسام المال مع الفاسدين من الجهاز الإداري الساقطين من خدمة التغطية الأمنية والحصانة والسياسة، ومنها ترويع رجال الأعمال: "الدفع أو الحبس"، ومنها رفع أسعار الخدمات وامتصاص الأموال من جيوب المواطنين، ومنها تبرير القمع وإهمال الدستور، لأن حصالة مصر المالية الضعيفة لا تسمح لها بأن تكون دولة كدول العالم الحديث ولا تسمح للمواطن بأن يكون صاحب حقوق.

وأخيراً أختم مقالي باقتطاف لا يهم السيسي ولا حاشيته، لكنه يهم الفئة اللي هي مفكرة ومثقفة ومعنية:

سيظل ذو الوجهِ الكئيبِ وأنفُه ونيوبُه
وخطاه تنقر في حوائطنا الخراب
إلا إذا..
إلاّ إذا مات.
سيموت ذو الوجه الكئيب
سيموت مختنقاً بما يلقيه من عفنٍ على وجهِ السماء
في ذلك اليوم الحبيب
ومدينتي معقودة الزنار مبصرة سترقص في الضياء
في موت ذي الوجه الكئيب.


التعليقات (0)