نظم مركز القاهرة لحقوق الإنسان مؤتمرا في العاصمة البلجيكية خصصه للحديث عن الموجة الثانية من الربيع العربي، ودعا فيه عددا من الفاعلين في كل من السودان والجزائر ولبنان، دون أن يهمل التوقف عند تونس ومصر وليبيا. والحديث عن الموجة الثانية مؤشر في حد ذاته عن استمرار الربيع، رغم حجم المآسي والخسائر التي ترتبت عن الموجة الأولى.
لم يكن ممكنا التوقف عند هذه الظاهرة دون طرح السؤال التالي: هل الإسلام السياسي مسؤول عن جزء هام من التعثر والانسداد الذي حصل هنا وهناك؟ والأهم من ذلك هو الإجابة عن سؤال أصبح تقلديا إلى حد كبير: هل الحركات الإسلامية تتجه نحو الموت والانقراض أم لها القدرة على العودة والتجدد؟ هل استنفدت أغراضها وهي تعيد نفسها رغم تغير الأحوال والمراحل، أم لا يزال لها قول في السياسة والفكر والتربية؟
باستثناء الحالة التونسية التي انتعشت فيها حركة النهضة وأصبحت جزءا لا يتجزأ من الحكم ومن المشهد السياسي، يلاحظ أن الحركات الإسلامية في بقية التجارب تعرضت لخسائر بالجملة، وفقدت الكثير من أعضائها وأيضا من سمعتها السياسية. لا يعني ذلك أن الذين عادوها وحاربوها وانتصروا عليها سلميا أو عبر القوة والإقصاء كانوا أفضل منها، وتمكنوا من تحقيق نتائج أرقى، وقدموا بدائل أحسن، لكن ذلك لا يقلل من حجم المسؤولية، ولا يبرر سوء إدارة المرحلة. فالعبرة في الحالة المصرية لا تقف عند محاسبة الذين انقلبوا على المسار الديمقراطي، ولكن أيضا بالبحث عن الأسباب الموضوعية التي أدت إلى الوقوع في العجز، وسمحت للخصوم بالتخطيط والقيام بالهجوم المضاد، وسحب البساط من تحت أقدام من كانوا يمسكون بالسلطة والعمل على إخراجهم من اللعبة بتأييد شعبي واسع.
العبرة في الحالة المصرية لا تقف عند محاسبة الذين انقلبوا على المسار الديمقراطي، ولكن أيضا بالبحث عن الأسباب الموضوعية التي أدت إلى الوقوع في العجز، وسمحت للخصوم بالتخطيط والقيام بالهجوم المضاد
موضوعيا، خسر الإسلاميون المعركة، وكانت خسارتهم هذه المرة مختلفة نوعيا عن سابقاتها. فهي لم تكن في مصر مجرد خسارة سياسية لحزب فقد ثقة ناخبيه، بقدر ما كانت أكثر من ذلك وأثقل. لقد بلغوا قمة الهرم بعد حوالي قرن من الزمان، وفي اللحظة التي ظنوا بكونهم قد حققوا مشروعهم، وأصبحوا يحكمون مصر، تداعى بنيانهم بكامله ومن أساسه، ووجدوا أنفسهم مرة أخرى يتخبطون في رمال الصحراء، وينطلقون من الصفر للعودة من جديد إلى التيه في الصحراء قبل أن يشرعوا من جديد في زحف طويل وبدون دليل واضح.
حتى في الموجة الثانية، وجد الإسلاميون أنفسهم في معظم التجارب الجارية إما متهمين وفاقدي الأهلية وثقة المواطنين، مثلما هو الشأن في الحالة السودانية حيث ثار الشعب على نظام سانده معظم
الإسلاميين حتى آخر الرمق رغم ظلمه وفساده وجهل قادته، أو أنهم في وضع الأقليات السياسية وبعيدين عن مراكز القرار، مثلما هو الحال في التجربة الجزائرية حيث انقسم الإسلاميون بين من بقي وفيا للمنظومة الحاكمة وبين من التحق بالحراك الشعبي.
سيكون من الظلم تحميل الإسلاميين مسؤولية فشل تجارب الانتقال السلمي والديمقراطي لمعظم التجارب في المنطقة العربية. لقد سُخرت للإطاحة بهم جهود ضخمة لا طاقة لهم بمواجهتها. فشلوا هم في تقديم البدائل الصحيحة لتحقيق أهداف الثورات، وفي مقدمتها تحقيق مطالب الشعوب في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، لكن خصومهم لم يكونوا في عديد الحالات والتجارب ديمقراطيين، ولم يفكروا أصلا في تلبية حاجات الفقراء والجماهير الكادحة. كانت المعركة ولا تزال من أجل السلطة والحكم واحتكار الدولة فقط، وكانت القاعدة هي البقاء للأقوى، دون احترام للقانون أو تقيد بقواعد الصراع الديمقراطي.
لن تستسلم هذه الشعوب من جديد لمستبديها، وستواصل نضالاتها بمختلف الوسائل السلمية المتاحة لها رغم المخاطر والصعوبات، في انتظار أن تبرز قيادات جديدة
التحدي الرئيسي الذي لا يزال يحول دون أن تؤدي الثورات العربية أهدافها المشروعة هو العجز الاقتصادي الذي واجهته جميع التجارب، والذي لا يزال يخلف وراءه حالات إحباط جماعية. المنطقة غير قادرة على تجاوز القيود الكثيرة التي تربطها بالنظام الدولي المهيمن. لم تتمكن أي دولة (بما في ذلك تونس) من أن تتحرر من عشرات الالتزامات والاتفاقات التي تربطها بصندوق النقد الدولي وبمختلف مؤسسات التمويل الاقليمية والدولية، وهو ما جعلها عاجزة حتى الآن عن بناء اقتصاد مستقل وفق خيارات وطنية صلبة ومتينة. فتونس مثلا غير قادرة على رفض الديون التي كبلتها ولا تزال. هي حاليا تقترض من أجل خلاص فوائض الديون التي حصلت عليها قديما، وبالأخص الديون التي سعت إليها خلال السنوات القليلة الماضية. مجرد التفكير في التوقف عن دفع الديون يضع المسؤولين السياسيين والخبراء الاقتصاديين في كابوس وفي حالة خوف شديد من النتائج التي يمكن أن تترتب عن ذلك. فتونس غير قادرة على الدخول في حرب من هذا القبيل، وتفضل أن تواصل لعب دور المخلص للدائنين.
لن تتوقف الشعوب العربية عن المطالبة بالحرية والمساواة والعدالة والكرامة. هي قيم بصدد الترسخ والانتشار بين الأجيال ومختلف الفئات الاجتماعية. لن تستسلم هذه الشعوب من جديد لمستبديها، وستواصل نضالاتها بمختلف الوسائل السلمية المتاحة لها رغم المخاطر والصعوبات، في انتظار أن تبرز قيادات جديدة تكون في مستوى الثقة والقدرة على تحقيق ما فشلت فيه النخب السابقة والحالية.