هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا زالت لغة التصعيد بين طهران وواشنطن سيّدة الموقف، عقب اغتيال الأخيرة لقائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني في بغداد، فجر الثالث من الشهر الجاري؛ فإيران وعلى لسان أكثر من مسؤول رفيع المستوى أكّدت على ردها القوي القادم على امتداد الشرق الأوسط، مقابل تهديد الرئيس ترامب بأن "واشنطن سترد سريعا وبشكل كامل وغير متناسب، إذا هاجمت إٍيران أي مواطن أو هدف أمريكي".
اغتيال الجنرال قاسم سليماني، مهندس النفوذ الإيراني في مجالها الحيوي من باكستان شرقا إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط مرورا بمياه الخليج وممرّاته الحساسة، شكّل ضربة معنوية لإيران ولهيبتها السياسية في الإقليم وأمام حلفائها في محور المقاومة؛ فالاغتيال كسر المعادلة وتجاوز الخطوط الحمر المتعارف عليها بين الطرفين.
في هذا السياق، يمكن قراءة الخطوة الأمريكية المفاجئة على أحد الأوجه التالية:
أولا: فعل مقصود ومخطط بأناة، أرادت به واشنطن استفزاز طهران لدفعها إلى رد فعل كبير "غير محسوب"، يفتح الطريق لضربها عسكريا لإضعافها ولحسر نفوذها الإقليمي، ما يمهّد لإعادة رسم الشرق الأوسط وفقا لمعادلة جديدة خالية من التأثير الإيراني، تكون فيها واشنطن وحليفتها "إسرائيل" الفاعل الأكبر بعد أن استنزفت المنطقة وأرهقتها اقتصاديا واجتماعيا نتيجة دعمها للثورات المضادة والانقلابات والحروب المفتوحة في سوريا، والعراق، واليمن، والسودان، وليبيا، وتركيا (الانقلاب الفاشل 2016).
ثانيا: أن واشنطن أردات ردع طهران، وتحجيم نفوذها في الإقليم، عبر تعديل سلوكها الخارجي كما أعلن الرئيس ترامب في أكثر من مناسبة، ما استدعى حسب تقديرات البيت الأبيض، الذهاب لصيد ثمين تمثّل في مهندس النفوذ الإيراني في الإقليم، وهو الجنرال قاسم سليماني. وهو فعل في حد ذاته، إن مرّ بنجاح وسلام، سيُعزّز حظوظ الرئيس ترامب في معركته الانتخابية القادمة بدعم صهيوني كبير مع نهاية العام الجاري.
بكل الأحوال، الكرة الآن أصبحت في الملعب الإيراني. وعليه وفي سياق نقاش المواقف، والتداعيات، والمصالح..، يمكن رصد سيناريوهات عدّة محتملة على النحو التالي:
السيناريو الأول: أن لا تَرُد إيران عسكريا على مقتل سليماني، مكتفية بتحقيق مكاسب عبر الوساطات الدولية الجارية على شاكلة تخفيف الحصار أو رفعه باستعادة الحياة للاتفاق النووي أو عبر صيغ أخرى معلنة وغير معلنة، هذا بالإضافة إلى ما حققته في العراق بتصويت مجلس النواب على خروج القوات الأجنبية، ناهيك عن تعزيز النظام الإيراني لشرعيته الداخلية عقب الجنازة المليونية لسليماني، وبالتالي تعزيز نفوذ حلفائه في العراق ولبنان بعد محاولة واشنطن استثمار الاحتجاجات الجماهيرية في تقويض النفوذ الإيراني في كلتا الدولتين.
السناريو الثاني: أن تقوم طهران بعملية جراحية نوعية ضد واشنطن، دون أن تُفضي إلى حرب أو مواجهة عسكرية مباشرة، لا ترغب بها كلتا الدولتين.
السيناريو الثالث: أن تقوم طهران باستهداف الوجود الأمريكي في المنطقة عبر حلفائها، في سياق عمليات استنزافية، تعظّم فيها من خسائر الولايات المتحدة تدريجياً، دون تحمّل مسؤولية مباشرة، ما قد يفتح الباب على احتمالين:
الاحتمال الأول: قبول واشنطن بمعادلة الاستنزاف في العديد من الساحات وأهمها العراق وسوريا، وذلك بدعمها لتنظيمات سُنيّة اديولوجية شبيهة بنموذج "داعش"، وعبر إعادة دعمها لبعض تشكيلات المعارضة السورية الموجّهة بفعلها ضد التواجد الإيراني أو حزب الله اللبناني.
الاحتمال الثاني: تعاظم كرة الثلج بين الطرفين في سياق الفعل وردة الفعل، ما يدفع المشهد إلى حافة الحرب والتي ستُعيد، إن حدثت، تموضع دول الإقليم في سياقات دولية قد تتبلور بوقوف روسيا والصين مع إيران سياسياً ولوجستياً، والاتحاد الأوروبي مع واشنطن تقليدياً.
في نقاش السيناريوهات السابقة، وفقاً للمعطيات والمواقف حتى اللحظة، يمكن استشعار أو رؤية السيناريو الثالث المبني على الاحتمال الأول (الاستنزاف بالوكالة) في العقلية الإيرانية لعدة أسباب أهمها:
• اغتيال الجنرال قاسم سليماني، وفي بغداد تحديداً، شكّل فرصة لإيران بمنحها زمام المبادرة، لا سيّما بعد أن حاولت واشنطن استثمار الحراك الجماهيري في العراق بالضغط عليها وعلى حلفائها هناك. فأمام إيران الآن فرصة قد لا تتكرر، لقطع الطريق على واشنطن في هذا السياق؛ ولعل سرعة انعقاد البرلمان العراقي وطلبه من الحكومة إنهاء الوجود الأجنبي في البلاد، يُعدّ أحد تجليات التوجه الإيراني، المدعوم بكثير من التصريحات وأهمها الواردة في بيان مجلس الأمن القومي الذي انعقد بحضور مرشد الثورة السيد علي الخامنئي.
• سيناريو الاستنزاف للوجود الأمريكي، قد يروق لكل من روسيا والصين في مواجهة النفوذ الأمريكي، وما الحرب التجارية بين الصين وأمريكا، وحصار الأخيرة لموسكو إلا خير شاهد على هذا التدافع.
• هذا السيناريو على خطورته واقترابه من حافة الهاوية، وهي اللعبة التي تجيدها طهران، يمثّل فرصة للضغط على الرئيس ترامب لعقد صفقة يقدّم بموجبها تنازلات اقتصادية بالتراجع عن الحصار ولو نسبياً. وإلا فالبديل عن ذلك هو محاولة سد الطريق أمامه كي لا يُعاد انتخابه رئيساً لدورة ثانية نهاية العام الجاري، وذلك بإغراقه في أزمات الشرق الأوسط. ما قد يُشكّل فرصة إضافية للحزب الديموقراطي في معركته الانتخابية مع الرئيس ترامب، وذلك بتحميله مسؤولية المأزق الأمريكي، كنتيجة لجنوحه في اتخاذ قرار اغتيال شخصية إيرانية مركزية كالجنرال قاسم سليماني، بعيداً عن الكونغرس الأمريكي.
هذا السيناريو أو تلك السيناريوهات، باتت رهينة القرار والتصرف الإيراني إلى حد بعيد، وهي بقَدْر ما تحمل فرصة لإيران، تحمل قَدْراً عالياً من المخاطرة، لا سيّما وأن الحَدَث وضع إيران في زاوية نكون أو لا نكون، في منطقة أشبه ببرميل بارود لا تكاد دولة أو كياناً سياسياً إلا وله نصيب منها.