من المؤسف حقا أن يحدث
الانقلاب في عالم المفاهيم واستغلال الأحداث بشكل يؤدي إلى مزيد من ترسيخ تزييف
وعي الناس وتزوير مواقفهم، باسم كلمات كبيرة طنانة ورنانة مثل الوطنية والأمن
القومي والدفاع عن الوطن. وكل هذه الأمور تبدو أنها تُستخدم ضمن خطاب شعبوي ينتهز
السياق ويستغله ولا يتفهم الحقائق.
هذه معضلة كبرى في ما يمكن تسميته تشكيل الرأي
العام وعمليات التسميم السياسي التي يمكن أن ترتبط به، بحيث يمكن أن تؤثر بشكل عام
على طبيعة ما يمكن تسميته بالوعي المستنير القادر على اتخاذ مواقف واضحة وعن
بيّنة، لا أن يُوضع المرء في خانة الانسياق والاستعباد وتشكيل العقول
وتزييفها.
نظن أنه في الأحداث الأخيرة وقع من هذا
الكثير، خاصة مع وجود من حرص على دق طبول الحرب هنا وهناك وفق مقتضيات إعلانية
وترويجية.
يأتي ذلك على ذكر الأمر الذي يتعلق بخطاب ساد
عن الوطنية، وعن الخيانة وعن الأمن القومي في ما يتعلق بالقضية الليبية وما
ارتبط بها من أحداث أخيرة، من دون استحضار الذاكرة أو السياقات الحقيقية التي
تحيط بأصل المشكلة، فيقوم البعض باقتناص لمواقف ربما تكون من باب المكايدة
السياسية أو من باب المواقف مدفوعة الثمن مسبقا.. هذا كله لا يُستبعد في حال النظم
المستبدة التي تقوم بكل ما من شأنه تزييف الوعي والإدارة بالأزمة والتأزيم،
ومحاولة سوق القطيع في شكل تعبئة استبدادية؛ وما أيسر ذلك حينما تصطنع حربا أو تدق
طبولها من غير مسوغ أو مبرر خطير، ولكنها فقط إعلانات مدفوعة الأجر في محاولة
اكتساب وانتهاز مواقف مزورة وزائفة تُستغل للأسف في ميدان يتعلق بتوجيه الجيوش إلى
معارك وهمية، أو توريطها في الخوض في ميادين زائفة ومزورة.
كان ذلك ضمن مشهد يسوغ حالة من حالات التنازع
والتصارع بين
مصر وتركيا، وهي في حقيقة الأمر تدافعات بين مصالح أنانية تقوم بها
منظومة عسكرية انقلابية في مصر، ومنظومة أخرى تحاول الدفاع عن مصالحها التي تراها
حقيقية وتعبر عن علاقات وتحالفات تدفع بها قوى في مسار يمكن أن يصل إلى حد البلطجة
السياسية، حينما يخطط منقلب آخر على أرض ليبيا للاستيلاء على السلطة بمساعدة دول
في الجوار، مثل مصر، ودول لا تريد بأي حال إلا أن تحدث تفتيتا في المنطقة وحالة
عراك دائم وحروبا أهلية طاحنة، مثل السعودية والإمارات، خوفا من عملية
تغير قادم قد يطولها، وبعضها تُدار ضمن مصالح أنانية لدول كبرى تدخلت في المنطقة
لحماية مصالح اقتصادية هي في النهاية صراع على الموارد. نشهد ذلك من روسيا عن طريق
شركات أمنية، ومن فرنسا بالاعتبار الذي تقوم به بتصفية حسابات في مناطق بعينها ترى
أنها من مجالاتها الحيوية، وهي في الحقيقة تدير أعمال تخريبية في تفتيت هذه الدول
وتقسيمها.
ضمن هذه المنظومة التي نراها بشكل واضح؛ لا
بأس أن يدق بعض من الأبواق من الإعلاميين ضمن إعلام ذيلي تابع ومنافق، يجعل من
الزيف والإفك محتوى له، يحاول أن يبشر بحرب لن تكون. ولا بأس من استنهاض جيش من
الفنانين بدعوتهم للقيام بدور وطني لتعبئة الناس وفق
منطق "والله زمان يا سلاحي"، في خطاب شديد الشعبوية لا أظنه
إلا خطابا مأجورا لحساب سلطة مستبدة لا يمكن بأي حال من الأحوال قبوله، خاصة حينما
يتشح بمزيد من الادعاءات بالوطنية والأمن القومي، والتي هي في الحقيقة ليست إلا
مجرد كلمات تقال على لسان المستبد الذي هو أقرب إلى خانات الخيانة
من خانات الشرف والمكانة.
تدق طبول حرب مفتعلة من دون أدنى تدقيق أو
تحقيق؛ وأينما ذهبنا نصدم بالسؤال.. هل هي الحرب بين مصر وتركيا؟ هل الصدام قادم
لا محالة؟! متجاهلين أحداثا ترافقت وتشكل قنابل دخان تمثلت في تصريحات هنا وهناك،
وضجيج لا يتوقف حول حماية الوطن وأمنه، ونقاشات هنا وهناك لا تتوقف، ولا بأس
والحال هذه من إطلاق نغمة الوطنية المشفوعة بالاتهام بالخيانة وممارسة التخوين
كأمر جاهز وبشكل فوري.. ويخرج الكلام أنا مع جيش بلادي وأمن الوطن والأمن القومي،
دون أدنى تحسس وتفقد لتلك الكلمات الملقاة جزافا وبلا تحديد، تطلق كشعارات في ضجيج
يغطي على كل عقل ومنطق.
غطت صيحات وتصريحات بحرب وشيكة على تطورات
حقيقية شرق المتوسط ترتبط بصفقة الغاز بين مصر وإسرائيل، واتفاق إنشاء خط "Eastmed" بين
إسرائيل واليونان وقبرص، بسبب بعد كثير من الأحاديث المتداخلة عن تدقيق المعلومات
والموضوعية في أمور تمس الأمن القومي المصري الحقيقي؛ لا المُستخدم في إطار
التزوير والتغرير، خاصة أن البعض قد ربط بين الاتفاق بين الحكومة التركية وحكومة
الوفاق في ليبيا حول ترسيم الحدود؛ ونشوب اختلاف قد يرقى إلى نزاع أو صدام. وعلى
الرغم من تقييم وزارة الخارجية لهذا الاتفاق على لسان وزير الخارجية بـ"أنه
لا يضر بمصالح مصر"، إلا أنه في كلام مبهم ألحق ذلك بأن "هذا الاتفاق
يعقد الأمور". ولم يذكر تعقيد الأمور بالنسبة لمن وكيف ولماذا. وانتقل الأمر
بعد ذلك إلى المسألة الليبية برمتها وأطرافها المتصارعة، خاصة بعد هجوم حفتر الذي
يعد انقلابا يلوح بالقوة المسلحة، بل ويستخدمها بمعاونة قوى إقليمية ودولية. ودخل
النظام الانقلابي في مصر على الخط ليلوح هو الآخر ليس فقط بدعم ومساندة حفتر، بل
وبتدخل مباشر في مواجهة تدخل تركي. يبدو أن هذا التداخل بين الأحداث استخدم بشكل
مسيس وفي إطار من المكايدة لا المصالح الحقيقية.
ففي حزمة من المقالات كتبها أحد الباحثين
المدققين حول الغاز في شرق المتوسط، كتب في ختامها وبعد بلورة لأهم ما جاء فيها:
"إجمالا النظام المصري لا يعتمد في سياسته لإدارة ملف شرق المتوسط على رؤية
تحقق الأمن القومي أو المصالح الاقتصادية؛ بقدر ما يعتمد على توافقات وإرضاء لحلفائه
وداعميه الدوليين والإقليميين وفي مقدمتهم إسرائيل. والمحصلة هي عدم استقلالية
القرار السياسي، والتبعية التي تؤدي في النهاية إلى اتخاذ قرارات بعيدة عن مصالح
مصر في أكثر من موقف، أو الصمت والسكوت في مواقف تهدر فيها حقوق ومقدرات مصر..
وفي ذات السياق، يؤكد أستاذ مصري مبرز في
الاقتصاد، وهو الدكتور محمود وهبة، بعد استعراض مدقق بالوثائق؛ أنه "تم فعلا
منذ أيام التوقيع على اتفاقية لبناء خطوط التوزيع تحت البحر من إسرائيل لأوروبا
(قبرص واليونان وإسرائيل). الدول الثلاث أخذت ما تريد من مصر ودورها انتهي.. ولجأت
للولايات المتحدة لإكمال المشروع. قامت بتنويم مصر في العسل حتى تحصل منها على ما
طمعت به.. قبرص واليونان أخذتا حدودا في المياه الاقتصادية المصرية بتساهل مصر،
وتصور الرئيس
السيسي أنه جاب "جون" كبير قوي، وتصور نتنياهو أن
"هذا عيد، فجاء العيد بجون في مصر.. إسرائيل وضعت يدها على حقول، ووافقت مصر
على استيراد 19.5 مليار دولار من غاز إسرائيل المسروق من مصر".
والغريب في الأمر أن هذا التكتل الثلاثي من
دون مصر، بعد كل تلك التنازلات عن الحقوق والموارد، ستحميه أمريكا ضد تركيا. ومعنى
ذلك أن مصلحة مصر وتركيا تطابقت، ولكن الخلافات السياسية لا تسمح بالتعاون رغم
ضرورته. والغريب أيضا أن الإعلام المصري يهاجم تركيا، ولا يذكر كيف تم النصب على
مصر وأخرجت من غاز المتوسط!! هل رأيت هذا الخبر بمصر؟!! الخبر الذي يخص مصر لا
ينشر بمصر، وينشر في كل الصحف بالعالم!! ربما تكون تلك هي القصة الحقيقية من غير
تزييف.
يتحدث المنقلب عن شرف يتمتع به في زمن انعدم
فيه الشرف، وهو عن الشرف أبعد، ومن الخيانة لمصالح مصر وأمنها القومي أقرب. وهو
أمر قد يدفعنا للكتابة عن مفاهيم اغتصبت عنوة من نظام فاشي لا يستحيي أن يكتسب
بعضا من شرعيته بشن حروب كلامية مفتعلة، وخوض حروب وهمية ضمن عملية زائفة لشرعنة
نظامه، بعد أن تآكلت شرعيته المزورة وقدراته على تمرير زيفه.