يدفع بشار
الأسد التطورات في شمال
سوريا إلى أقصاها؛ يتعمّد استفزاز
تركيا، ويذهب بعيدا إلى حد شخصنة الخلاف، عبر نعته للرئيس التركي بأوصاف قاسية. بعض مما يفعله يرضي روسيا والمؤكد أنه بأمرها، باعتباره أصبح عاملا ضمن أجهزة فلاديمير بوتين ومنفذا لأوامرها، لكنْ، أيضا جزء مما يفعله يحصل بمبادرة واجتهاد منه، بدليل أن الصحافة الروسية استفزتها تصرفاته وكالت له الانتقادات.
يفعل بشار الأسد ذلك وفي اعتقاده أنه أمام فرصة لا يمكن تعويضها، بل من الغباء هدرها، فإن سكتت تركيا على الإهانة، يكون قد حقّق نصرا حقيقيا على طرف خارجي، وهو المعروف عنه أنه طالما اتخذ وضعية الأرنب أمام الخصوم الخارجيين، وخاصة إسرائيل التي بات قادتها يستهدفون مواقعه ومؤسساته كلما شعروا بالملل، وكذلك الوضعية الدونية التي يشعر بها تجاه روسيا، حيث يتعمد رئيسها توجيه الإهانات له بشكل مبرمج ومقصود.
أما في حال لم تسكت تركيا وقرّرت تصعيد مواقفها والذهاب إلى حرب، فهذا يوم المنى بالنسبة لبشار، ليس لأنها فرصة لتلقينها درسا عسكريا لن تنساه، أو للانتقام منها لدعمها المعارضة ضده، فهو يدرك فارق القوة بين جيشه والجيش التركي، ويعرف أن موازين القوى مائلة لصالح تركيا، كما يعرف أن روسيا ربما لن تتدخل بالشكل الذي يحمي قواته من ضربة تركية مؤلمة، ومن ثم فإن تصرفاته قد تقوده إلى مغامرة كبرى تزيد الأمور سوءا أكثر مما هي سيئة، لكنه رغم ذلك يتمنى حصول هذه المواجهة، وإن كان يفضل ألا تتأخر روسيا في التدخل، على الأقل عبر التفاهم مع الطرف التركي على وقف للنار.
لكن، لماذا يريد بشار الأسد أن يجعل من نفسه طرفا في الصراع العربي- التركي الدائر حاليا حول أكثر من قضية، ليبيا، وغاز المتوسط، وموضوع الإخوان المسلمين. ولا شك في أن الأسد يتابع هذا الصراع ويعرف إلى أي حد وصل، وأن هناك بعض الرأي العام العربي قد تأثر بدعاية وسائل الإعلام الرسمية، في العديد من البلدان العربية، حول مخاطر تركيا على الأمن القومي العربي ومطامعها في الثروات العربية، ورغبة الكثير من الأطراف العربية في رؤية تركيا مهزومة ورئيسها مهانا.
بالنسبة لبشار الأسد، هذه فرصة ليظهر بمظهر البطل القومي العربي الذي يتحدى عدوا طامعا بالأرض والثروات العربية، حسب الدعاية الرسمية، وخاصة وأن روايته عن الممانعة والصمود في وجه إسرائيل أصبحت كارثية ومثارا للشفقة والاستهزاء، وهو إن فعل وواجه تركيا ليوم أو يومين، قبل أن تدخل روسيا على خط المفاوضات، سيضمن فتح الباب العربي واسعا له، وبذلك سيقدم مساعدة كبيرة للأنظمة العربية كي تدعوه للعودة إلى الجامعة العربية، دون إحراج من ملف جرائمه الثقيل الذي يندى له الجبين، ويجعل كل من يطبع مع الأسد أو يقبل بإعادة تأهيله، شريكا، ليس في الدم السوري فحسب، بل بأكبر مأساة إنسانية في العصر الحديث، والاعتراف بحاكم عميل وزّع بلاده على زبانيته في روسيا وإيران في سبيل الحفاظ على كرسي السلطة.
من جهة أخرى، ستكون الحرب، إن وقعت، فرصة لإظهار أن الأزمة هي صراع مع دول خارجية بالدرجة الأولى، وأن تركيا لها مطامع في سوريا، ولها جماعاتها التي تحركها لاستهداف أمن سوريا واستقراها، وأن الأسد هو الذي وقف في وجه الأطماع التركية بصلابة، وعلى العالم ألا يطالبه بعودة اللاجئين، وخاصة الذين لجأوا إلى تركيا، لأنهم جزء من المؤامرة التركية المزعومة. وهذه فرصة للتخلص من ملايين السوريين، وتثبيت الهندسة الديمغرافية التي اشتغل عليها الأسد ونظامه وحلفاؤه لسنوات طويلة.
غير أن الفرصة الأهم تتمثل بتصوير الأسد للحرب مع تركيا على أنها حرب ضد الإرهاب، لأن تركيا جندت عشرات آلاف الإرهابيين ضده منذ بداية الأزمة، وسيحاول تكريس روايته التي ستجد من يصدقها نكاية بتركيا وأردوغان، من أنه لم تكن هناك ثورة، بل مجموعات إرهابية لا يتجاوز عددهم عشرات الآلاف، كما لم يكن هناك كيماوي ولا مجازر بحق المدنيين، ولا إخفاء وقتل للسجناء، وأن الخوذ البيضاء جزء من هذه المؤامرة، وأن الغرب الساذج صدّق هذه الروايات وتعاطف مع ضحايا وهميين، وإن كان هناك ضحايا فبسبب هذه العصابات.
يشتري بشار الأسد هذه الحرب، ويندفع صوبها بقوّة؛ فمكاسبها أكبر من خسائرها بكثير، وليس لديه ما يخاف عليه، فمدن سوريا مدمّرة ولن يؤثر معها بعض الضربات، على العكس، سيحاول تحميل تركيا كل الدمار الذي صنعه، وسَيَحْمِلُ مندوبوه (وليد المعلم وبشار الجعفري)، بعض الصور لعرضها على الرأي العام العالمي والعربي لاستجلاب المساعدات لإعمار ما جرى تهديمه. كما أن جيشه مفكّك وعملية إصلاحه غير ممكنة، حتى إن روسيا يئست من إمكانية إصلاح جيش فاسد، ومن ثم فإن أي ضربة تركية لهذا الجيش لن تغير الواقع بشيء. في الأصل الأسد يعتمد في حروبه على الجيوش الروسية والإيرانية، وعلى عشرات آلاف المرتزقة وقطاع الطرق الذين يخوضون المعارك بهدف النهب والسرقة.