أعلن السفير الأمريكي في الكيان الصهيوني ديفيد فريدمان عن وجود قنوات اتصال سرية بين السلطة وواشنطن للتفاوض حول
صفقة القرن، فسارعت السلطة لنفي ذلك، وتأكيد موقفها الرافض للصفقة، فهل السلطة صادقة في رفضها ذلك؟
في الحقيقة السلطة أعلنت من قبل عن أشياء كثيرة ولم تقم بتنفيذها، فقد أعلنت أكثر من مرة عن إيقاف التنسيق الأمني ولم يتوقف، وأعلنت عن مقاطعة الكيان الصهيوني وما زالت اللقاءات التطبيعية مستمرة، وأعلنت عن نيتها إجراء الانتخابات البلدية ثم التشريعية ولكنها تراجعت، وأعلنت عن توجهها نحو خيار الوحدة الوطنية، وزيارة عباس لقطاع غزة، ولم يحدث على أرض الواقع أي شيء. وأعلنت من قبل عن نيتها عقد الإطار القيادي لمنظمة التحرير ثم تناست الأمر، وكل ما سبق يؤكد حقيقة يعلمها كل من لديه اطلاع على عالم السياسة، وهي أن الأقوال لا قيمة لها ما لم ترتبط بأفعال تؤكدها.
وبغض النظر عن صدق السلطة أو كذبها في زعمها مواجهة صفقة القرن ورفضها، فلا بد من التساؤل عن السبب الذي أوصلنا إلى هذه الحالة التي باتت تمثل بيئة نموذجية لتحقق صفقة القرن، فإذا ما غيرنا تلك البيئة كنا صادقين في مواجهة الصفقة، وإذا واصلنا الأفعال ذاتها فتلك الطامة الكبرى التي تعني أحد أمرين، إما أننا لا نفقه في عالم السياسة شيئا، وتلك مصيبة كبيرة بلا شك، وإما أننا نعلم، ونصر على مواصلة الطريق ذاته، أو عاجزين عن التوقف عنه، وهذا يعني أننا شركاء في تلك الصفقة، سواء كان ذلك برغبتنا وتلك خيانة كبرى، أو لعجزنا وهذا يعني أن علينا الرحيل، ليحل الشعب
الفلسطيني مشكلته بنفسه، وهو على ذلك من القادرين.
ذلك أن الذي أوصلنا إلى صفقة القرن هو التنسيق الأمني، الذي سمح للاستيطان بالتهام الأرض دون حسيب أو رقيب، والاعتقال السياسي الذي سحق النخبة الفلسطينية التي كان من الممكن أن تقود جهود الجماهير الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، ولا يمكن لشعب أن ينهض أو يتحرر أو يتقدم دون نخبة فاعلة، فكيف بنا وقد قتلنا نخبتنا بأيدينا، والذي ساهم في تحقيق الصفقة هو رفض السلطة لخيار الوحدة الوطنية القائم على مقاومة الاحتلال، بل سعيها لاعتبار نزع سلاح المقاومة شرطا للمصالحة، وتلك بلا شك مأساة كبيرة، فلم يذكر التاريخ شعبا تحرر دون مقاومة، ولم يذكر أن احتلالا رحل دون أن يصبح ثمن احتلاله أكبر من فوائده. وآخر التجارب الشاهدة على ذلك تجربة أفغانستان، حيث اضطرت واشنطن للتفاوض مع طالبان حول شروط الانسحاب الأمريكي.
والذي أوصلنا لصفقة القرن هو رفض السلطة للعودة إلى صناديق الاقتراع، التي كان من الممكن أن تفرز قيادة جديدة أكثر شجاعة من القيادة الحالية التي ما زالت تواصل فشلها السياسي عاما بعد عام، مع إصرار السلطة على احتكار شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني في منظمة التحرير، وهي الكيان الذي بات عاجزا تماما ولا نسمع له صوتا، ولا نرى له أي أثر. وما أوصلنا للصفقة هي الإجراءات العقابية التي تمارسها السلطة بحق الموظفين في قطاع غزة، والتي شلت حياة المواطنين، وشغلتهم بظروفهم المأساوية، وآلامهم المتصاعدة تحت ضغط الحرمان من رواتبهم.
كل ما سبق أوصلنا لصفقة القرن، وخلق لها البيئة النموذجية لتنمو، والسلطة ستكون في غاية الصدق في نيتها مواجهة الصفقة إذا أنهت كل المظاهر السابقة، عندئذ ستفشل الصفقة تلقائيا، وسيندحر
الاستيطان. فليست مشكلتنا اليوم أن المستوطنين أقوياء وشجعان، بل مشكلتنا في عجزنا عن مواجهتهم، وردعهم من خلال مقاومة حقيقية ولو بالحد الأدنى، وبأقل الإمكانات.