قضايا وآراء

بين تركيا وروسيا علاقة لن تعود

غازي دحمان
1300x600
1300x600
ذهبت العلاقات التركية الروسية بعيداً على طريق الافتراق، فقد أسقطت أيام الصراع الدامية في إدلب أكبر حامل لهذه العلاقات: النوايا الحسنة والثقة، رغم أن هياكل العلاقة القائمة على التبادل الاقتصادي ستبقى، لأنه لا بدائل أمام الطرفين، أقله في المدى المنظور.

اكتشفت تركيا، أثناء جولة الصراع الأخيرة في إدلب، أن الدولة الروسية العميقة لم تغفر ولم تنس، ليس حادثة اسقاط طائرة السوخوي "24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015"، بل العداء التاريخي بين الطرفين، وانضمام تركيا لحلف الناتو بعد الحرب العالمية الثانية.

اعتقد عسكر روسيا أن إذلال تركيا سيكون مفتاح باب عودتهم قوة عظمى مهابة، لذا لم يتورعوا عن ارتكاب أفعال لا تقوم بها مليشيات صغيرة، ذلك أن روسيا تدّعي أنها تسيطر على أجواء سوريا، وهناك خط ساخن مباشر بين عسكريي البلدين لإدارة مسرح العمليات، الأمر الذي يجعل هامش الخطأ معدوماً، ما يعني أن قيام القوات الروسية باستهداف الجنود الأتراك هو أمر إعدام صدر عن سبق إصرار وترصد.

كان فلاديمير بوتين، في السنوات الأخيرة، ينسج حبلاً من حرير حول رقبة تركيا، وذلك عبر تشبيك اقتصادها بالاقتصاد الروسي، وجعل قطاعات اقتصادية كبرى في تركيا مرتبطة بنظيرتها الروسية. وكان الهدف من ذلك مزدوج، من ناحية الاستفادة من الموقع الجغرافي التركي، وخاصة في مجال مد أنابيب الغاز لأوروبا، لعدم وجود بدائل أخرى بعد إغلاق الخط المار من أوكرانيا، وكذلك الاستفادة من رخص أسعار السلع التركية بالنظر لانخفاض تكاليف الشحن، ومن ناحية أخرى إيجاد لوبي من رجال الأعمال وأصحاب المصالح قريب من روسيا يحقق مصالحها السياسية والأمنية في أنقرة.

غير أن القضية الأبعد في ذهن بوتين كانت إبعاد تركيا عن حلف الناتو، الأمر الذي لا يضمن فقط أمن خاصرة روسيا الجنوبية، بل سيكون مقدمة لتفكيك حلف الناتو بأكمله ويدفع دولاً أخرى للخروج من الحلف، وخاصة دول وسط وشرق اوروبا التي تشكل طوقاً يحيط بروسيا ويضعف موقفها الاستراتيجي في مواجهة الغرب.

استعجل عسكر روسيا الحصول على نتائج خططهم وترتيباتهم، واعتقدوا أن الفرصة باتت مؤاتية، فتركيا أصبحت ضعيفة في مواجهة روسيا، وعلاقتها بالناتو شبه مقطوعة، بل إن وضع تركيا في حال مواجهة عسكرية، سيعجّل بإعلان خروجها من الحلف. باختصار، خلص تقييم عسكر روسيا لوضع تركيا بأنه وضع سيئ وأن الفرصة مناسبة لتمرير ضربتهم الأخيرة التي ستحوّل تركيا إلى دولة تدور في الفلك الروسي، مثل علاقة كوريا الجنوبية بأمريكا، وتعتمد على روسيا في حماية أمنها وتأمين مصالحها الأمنية في الإقليم.

ليس ثمّة مبالغة في هذا التوصيف، ويكفي متابعة تسلسل الأحداث لاكتشاف خيوط هذا التفكير، فقبل شهرين كان الرئيس الروسي يحتفل في تركيا مع رجب طيب أردوغان بافتتاح خط أنابيب الغاز "السيل التركي" الذي ينقل الغاز من روسيا إلى أوروبا، واتفق الطرفان على عقد هدنة في إدلب، لكن لم تلتزم روسيا بهذه الهدنة. وإذا افترضنا حسن النية تجاه بوتين، فإن العسكر الروسي تعمّد تقديم معلومات مضلّلة حول الأوضاع الميدانية، ما يؤكد فرضية أن الجيش والمخابرات الروسية، التي لا يزال تسيطر عليهما شخصيات من الحقبة السوفييتية، لهما رأي أخر في موضوع التقارب مع تركيا.

كان واضحاً من خلال مجرى الأحداث في جولة الصراع الأخيرة في إدلب، أن روسيا وضعت كل طاقتها، العسكرية والدبلوماسية والإعلامية، من أجل إضعاف تركيا وهزيمتها، ورغم محاولة تركيا تحييد روسيا وعدم توجيه الاتهام والنقد بشكل مباشر لها، فقد سعت روسيا إلى التحريض على تركيا وإضعاف موقفها الدولي وإبعاد حلفائها عنها، من خلال اتهامها بتهجير السوريين من مناطقهم نتيجة عملياتها العسكرية، فضلاً عن الادعاء بدعم تركيا للمنظمات الإرهابية وسواها من الاتهامات.

لم يكن التعاطي الروسي مع تركيا، في هذه الأزمة، تعاطيا مع دولة صديقة ترتبط مع روسيا بعلاقات تنسيق أمني وتعاون عسكري وعلاقات سياسية واقتصادية، بل تعامل مع عدو لدود، حيث أظهرت الدولة الروسية العميقة حقداً رهيباً على تركيا، ولو تسنى لهم تحطيم تركيا في تلك اللحظة، لما توانوا عن فعل ذلك. لقد كشفت طريقة إدارتهم للأزمة طبيعة أهدافهم تجاه تركيا.

ومن الواضح أن تركيا، ومن خلال متابعة وسائل إعلامها وردود فعل الشارع التركي، أدركت حقيقة الأهداف الروسية، ولا شك أن ذلك ستكون له انعكاسات مستقبلية على علاقة الطرفين، والتي من المتوقع بقاؤها عند الضروري واللازم، وعدم تطويرها إلى فضاءات جديدة، كما كان يجري التخطيط له من قبل الطرفين، ولن تكون روسيا بعد اليوم هي البديل عن العلاقات مع الغرب في كافة المجالات.
التعليقات (0)