هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
معطيات الاتفاق الروسي ـ التركي حيال إدلب تؤكد أن ما تحقق على الأرض عسكريا أصبح واقعا قائما لا يمكن تغييره (معرة النعمان، سراقب، الطريق الدولي حلب ـ دمشق، وغيرها من القرى والبلدات) تحت سيطرة النظام.
وتؤكد هذه المعطيات أيضا أن المثلث الجغرافي بين سراقب في الشمال الشرقي من المحافظة وجسر الشغور غربا إلى خان شيخون جنوبا، هي منطقة منزوعة السلاح، وبالتالي ساقطة عسكريا وفق معادلة الصراع الداخلي ووفق التجارب السابقة.
وليس معروفا إلى الآن مصير مدينة أريحا وقرية محمبل ومدينة جسر الشغور، وهي مدن يخترقها طريق حلب ـ اللاذقية M4، في وقت أعلن النظام أن هذه المدن الثلاث ستعود إليه، فضلا عن انسحاب فصائل المعارضة من جبل الزاوية بين معرة النعمان ومدينة إدلب، وانسحاب الفصائل أيضا من مثل مرتفعات كبانة بالغة الأهمية في ريف اللاذقية الشمالي.
اتفاق مؤقت أو دائم
على أن أخطر ما في الاتفاق هو ما لم يتم التصريح به، وبناء على التجارب الروسية ـ التركية السابقة، فإن إغفال الإعلان عن بعض النقاط مؤشر على أن الاتفاق يخفي أمورا لا تريد الدولتان إظهارها دفعة واحدة.
لا يتعلق الأمر بنقاط المراقبة العسكرية التركية، ولا بخطوط التماس بين الجانبين، وإنما يتعلق الأمر بالخلاف الرئيسي بين الجانبين، والذي يمكن حصره في مسألتين:
الأولى، هل الاتفاق مؤقت أم نهائي؟ بحسب ما هو متاح لا يمكن لمثل هذا الاتفاق أن يكون نهائيا في ظل الغموض الذي يكتنفه، وقد أعلنت المستشارة السياسية في رئاسة النظام السوري بثينة شعبان، أن الاتفاق التركي ـ الروسي مؤقت ولمنطقة معينة واستكمال لتنفيذ اتفاق سوتشي.
هذه المسألة في غاية الأهمية، فالروس يعملون من خلال هذه الاتفاقيات إلى قضم المناطق الجغرافية تدريجيا بحيث يتم حصر فصائل المعارضة على الشريط الحدودي مع تركيا، في حين تطالب أنقرة بجعل الاتفاق نهائيا.
المسألة الثانية، هي مصير الفصائل المدرجة ضمن لائحة الأمم المتحدة بالإرهابية، وخصوصا "هيئة تحرير الشام"، ففيما سعى روسيا إلى القضاء على الهيئة تحديدا، تحاول تركيا منع ذلك، والاحتفاظ بالهيئة كورقة قوية للمساومة لاحقا، فضلا عن أنها غير مستعدة للتضحية بالهيئة مجانا، وهي تعلم أن خسارة الهيئة يعني إضعاف المقاومة في إدلب ضد أي عدوان يشمل مدينة إدلب وشمالها.
اتفاق إقليمي-دولي
بناء على ما تقدم، إذا ما نُظر إلى اتفاق موسكو الخاص بإدلب من منظار الزيادة والنقصان في الجغرافية العسكرية، فإن المعارضة المسلحة هي الخاسر الأكبر بينما النظام السوري هو الرابح الأكبر.
لكن إذا ما نُظر إلى الاتفاق من زاوية العلاقة الروسية ـ التركية، أي خارج ثنائية النظام/ المعارضة، فإن قراءتنا للاتفاق ستختلف كثيرا، ذلك أن الاتفاق جاء تقريبا بعد أسبوع من انطلاق العملية العسكرية التركية، هذه العملية التي بدت مفاجئة للروس وغير متوقعة، حيث بقي الطيران الروسي لمدة يوم ونصف اليوم ساكنا لم يتحرك في وجه الاندفاعة العسكرية التركية.
أهمية العملية العسكرية التركية يمكن وضعها في سياقين:
الأول أنها كبدت النظام السوري وحلفائه خسائر كبيرة في الأرواح، بلغت نحو ثلاثة آلاف شخص، فضلا عن الخسائر الكبيرة في المعدات العسكرية.
إن استمرار هذه العملية أكثر من اللازم سيؤدي خسائر كبيرة لا يتحملها النظام وحلفائه، إضافة إلى الخشية من حدوث اشتباك عسكري تركي ـ روسي غير مرغوب به من العاصمتين.
الثاني، أن العملية العسكرية أوضحت بشكل لا لبس فيه أن أنقرة لن تقبل على الإطلاق تجاوز الخطوط الحمر الموضوعة ـ ما بعد سراقب شمالا وغربا ـ مع ما يعني ذلك، من أن الاندفاعة الروسية في عمق المحافظة يجب أن تتوقف حتى لو كلف الأمر اصطداما عسكريا بين الجانبين يعيد الأمور بينهما إلى مربعها الأول.
أعادت العملية العسكرية "درع الربيع" ترتيب الأوراق التركية من جديد، وجعلت الأوروبيين والأمريكيين يعون مخاطر إدارة الظهر لتركيا.
أدرك الروس الجدية التركية، فأعلنوا بعد يوم من انطلاق عملية "درع الربيع" أنهم غير مستعدين لخوض حرب مع أحد، كما أنهم أدركوا أن أنقرة لن تقبل بأخذ وسط المحافظة وشمالها، لأنها جزء من الأمن القومي التركي.
من هنا، لا يجب قراءة الاتفاق وفق ثنائية الصراع بين المعارضة والنظام، وإنما قراءته وفق المصالح الروسية ـ التركية.
لا تنظر أنقرة إلى إدلب على أنها فقط أرض تابعة لفصائل المعارضة فحسب، بل أيضا على أنها عمق استراتيجي يحول دون وصول نظام معاد إليها، كما أن العملية العسكرية التركية أوصلت رسالة مهمة لروسيا، وهي أن مصير "هيئة تحرير الشام" أمر مرتبط بتركيا وجزء من مصالحها العليا في سوريا.
سهام تركية نحو الغرب
من شأن العملية العسكرية التركية من جهة وفتح تركيا حدودها مع اليونان أمام اللاجئين من جهة ثانية، أن أجبرت الغرب الأوروبي ـ الأمريكي على إعادة مقاربته لتركيا: ألمانيا تعلن على لسان ميركل ضرورة إقامة منطقة آمنة شمالي سوريا، ووزراء خارجية الاتحاد الأوروبي يعلنون تقديم مساعدات مالية بقيمة 67 مليون دولار لسكان شمال غرب سوريا، وعلى عقد مؤتمر للمانحين نهاية يونيو/ حزيران المقبل.
أما أمريكيا، فقد أعلن المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا جيمس جيفري أن القوات التركية لن تنسحب من محافظة إدلب، وإن روسيا والنظام السوري لن يحققا نصرا في هذه المنطقة، فيما أعلن مسؤولون أمريكيون أن حكومتهم تناقش مع شركائها في الناتو ما يمكن أن يقدموه إلى تركيا كمساعدة عسكرية في إدلب، وكذلك الإجراءات التي قد تُتّخذ إذا انتهكت روسيا والنظام السوري وقف إطلاق النار.
لقد أعادت العملية العسكرية "درع الربيع" ترتيب الأوراق التركية من جديد، وجعلت الأوروبيين والأمريكيين يعون مخاطر إدارة الظهر لتركيا.
*كاتب وإعلامي سوري