الكتاب: الانتقال إلى الديمقراطية.. ماذا يستفيد العرب من تجارب الآخرين
المؤلف: علي الدين هلال
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت 2019
تواجه النظم الديمقراطية بشكل عام، والحديثة نسبيا بينها بشكل خاص، تحديات صعبة تهدد القيم الأساسية التي يفترض أن تقوم عليها، تحديات قد تبدأ من صعوبة تحقيق إجماع عام بين الفاعلين السياسيين على قواعد العملية الديمقراطية في مواجهة النزعات القومية والعرقية وتصاعد التوجهات اليمينية والشعبوية، ولا تنتهي عند ما تشهده المجتمعات من غياب واضح للعدالة ومبدأ تكافؤ الفرص، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، وهي تحديات تركت أثرها المتفاوت على دول عديدة في مناطق مختلفة من العالم، وباتت تعرف بحسب ما أطلق عليها الباحثون بـ "أزمة الديمقراطية".
وأبرز مظاهر هذه الأزمة العزوف عن الانخراط في الحياة السياسية، وتراجع المشاركة في الانتخابات والأحزاب والنقابات، وازدياد الشعور بأن النشاط السياسي قائم على الخداع وبالتالي فقدان الثقة بالسياسيين والمؤسسات العامة.
لا يمكن تحقيق العدل في غياب الحرية، ولا يمكن ضمان الحرية من دون قبول التعددية
من هنا يعيد علي الدين هلال التأكيد مرة بعد أخرى في كتابه هذا على أن الديمقراطية لا يمكن اختصارها بمجموعة من القوانين والإجراءات، فهي إلى ذلك عبارة عن ثقافة، وأسلوب إدارة، ونمط حياة يتوافق المجتمع على الالتزام بها. كما أن طرق الوصول إليها مختلفة باختلاف خصوصيات كل مجتمع أو شعب، وليس ثمة وصفة سحرية واحدة يمكن تطبيقها بنجاح في كل الأماكن.
الكتاب الذي يعرض لتجارب الانتقال الديمقراطي على مستوى دولي يهدف إلى فهم العوامل التي أدت إلى تعثر هذا الانتقال في العالم العربي، بحسب ما يقول هلال، كما يسعى لفهم ماهية الديمقراطية الحقيقية وعلاقتها ب"أداء النظام" نفسه و"جودة الحكم"، وهو يأتي في وقت يشهد انشغالا عالميا بالبحث في مفهوم الديمقراطية وما يرتبط بها من قيم وترتيبات مؤسسية. لذلك يطرح الكتاب مجموعة من الأسئلة حول الأنظمة السلطوية وسماتها، وتأثيرها في في عملية الانتقال الديمقراطي، ودينميات سقوط هذه الأنظمة، والطريقة التي تعاملت بها النخب السياسية الجديدة مع التحول الديمقراطي.. الخ.
الحرية والعدل
ثمة توافق على أن النظام الديمقراطي يقوم على أساسين هما مجموعة من القيم التي تشكل معنى ومضمون الديمقراطية أو الثقافة الديقراطية، والمؤسسات والترتيبات التنظيمية التي تعمل على تجسيد تلك القيم. التعددية، والحرية، والعدل هي أركان هذه الثقافة، و"بالنسبة إلى فلاسفة الديمقراطية، فإن الحرية والعدل يحتلان مكانة مركزية في البناء الفكري للنظرية الديمقراطية، وهما ما يميز الديمقراطية عن أي نظم أخرى.
ولا ينبغي للحرية أن تكون حقا قانونيا فقط؛ وذلك لأن ممارستها تتطلب قدرة اجتماعية واقتصادية وتعليمية، لا يمكن لمن لا يمتلكها أن يمارس الحرية بشكل منتظم. وهكذا لا يمكن تحقيق العدل في غياب الحرية، ولا يمكن ضمان الحرية من دون قبول التعددية".
أما الإجراءات الترتيبية التي من شأنها تحويل الديمقراطية إلى واقع ملموس فأهمها وجود قوة نافذة للقانون، والفصل بين السلطات، ووجود أحزاب متعددة، وانتخابات عامة نزيهة ودورية، وتوفر "مجال عام مفتوح للقوى الاجتماعية مستقل عن سيطرة الدولة.. ذلك أن هيمنة الدولة على المؤسسات والهيئات الاجتماعية، أو سيطرتها على الجزء الأكبر من أدوات الإنتاج والثقافة والإعلام يعتبر عاملا معوقا لتبلور هذا المجال".
يقول هلال: "إن قوة النظام الديمقراطي تنبع من إقامته بناء مؤسسيا ومجموعة من القواعد والمعايير المستندة إلى إرادة المجتمع، ومجموعة من القيود والتوازنات بين المؤسسات والفاعلين السياسيين بما لا يسمح لأي منهم بسلطة مطلقة.. وتكون النتيجة نظاما قادرا على تصحيح نفسه وتعديل مساره إذا حاد عن الطريق الصحيح".
النظام الديمقراطي.. متى وكيف؟
يفرد هلال في كتابه فصلا كاملا لعرض الاتجاهات النظرية في تفسير نشأة النظم الديمقراطية، والتي يمكن حصرها بثلاثة اتجاهات رئيسية، يركز الإتجاه الأول منها على توافر شروط مسبقة اجتماعية واقتصادية تسمح بنشوء نظام ديمقراطي، وكان أول من نظّر لهذا الاتجاه أستاذ السياسة سيمور مارتن ليبست في كتابه الشهير "الرجل السياسي" عام 1960، وهو يرى أن التنمية الاقتصادية ومستوى التعليم المرتفع شرطان أساسيان لتبني الديمقراطية.
ويركز الاتجاه الثاني على دور الفاعلين السياسيين في المجتمع ودور وخيارات النخب فيه، وصاحب هذا الاتجاه هو دانكوارت روستو (1924 ـ 1996)، الذي يرى أن الديمقراطية "يمكن أن تنمو في مجتمع غير صناعي، وأن شرطيها الرئيسيين هما الوحدة الوطنية والتوافق على حدود الجماعة السياسية المشتركة من ناحية واختيارات النخب السياسية من ناحية أخرى".
قوة النظام الديمقراطي تنبع من إقامته بناء مؤسسيا ومجموعة من القواعد والمعايير المستندة إلى إرادة المجتمع
أما الاتجاه الثالث فيرى أن الانتقال إلى الديمقراطية مرتبط بنمط توزيع القوة الاقتصادية والاجتماعية، أي أنه "يرجع إلى حدوث تغيرات عميقة في الأبنية الاقتصادية والاجتماعية، وإلى ظهور طبقات جديدة، والتحول في العلاقات بين الطبقات القديمة، ويؤدي إلى تغييرات في مؤسسات السلطة والحكم". وبشكل عام يرى اصحاب هذه الاتجاهات أن العوامل التي يعتبرونها مؤثرة وفاعلة لاختيار الديمقراطية تظل في حالة من التفاعل مع الظروف والسياقات التي تحدث فيها إلى أن تأتي اللحظة المناسبة فينهار النظام السلطوي القائم.
خمسة أنماط للانتقال الديمقراطي
ينتقل هلال في فصل آخر من الكتاب للحديث عن عملية الانتقال إلى الديمقراطية، وأنماطها المختلفة وسماتها، والتحديات التي تواجهها هذه العملية، مذكرا بخصوصية هذه العملية كل دولة و"أنها تأخذ أشكالا مختلفة من حيث السرعة والنطاق والتتابع والنتائج، فلكل بلد ظروفه السياسية والاجتماعية.. لذلك لا يمكن نقل حلول أو أساليب نجحت في دولة ما إلى دولة أخرى". لكنه يلفت مع ذلك إلى أهمية الدراسة المقارنة لحالات الانتقال الديمقراطي لانها تتيح للمهتمين معرفة ظروف النجاح في بعض الحالات وعوامل القصور والإخفاق في حالات أخرى.
يحدد هلال خمسة أنماط أساسية للانتقال الديمقراطي قد يحدث أن تتداخل سماتها في واقع واحد، وهي على التوالي: نمط الانتقال من أعلى، حيث يتم اتباع سياسات إصلاحية تدرجية من داخل النظام السلطوي نفسه، " ومن الضروري لنجاح هذا النمط أن تكون النخبة الحاكمة قادرة على تحمل درجة من المخاطرة السياسية وعدم اليقين، وإدراك أن عملية التغيير يترتب عليها نشوء أشكال جديدة من الصراعات السياسية.. وذلك بحكم أنها تتضمن إعادة توزيع للموارد السياسية وزيادة المشاركة الشعبية..".
وهناك نمط التفاوض بين نخب الحكم والمعارضة، ويحدث هذا في ظروف من التوازن بين القوى الاجتماعية والسياسية المؤيدة للنظام القائم وتلك المعارضة له. ومن الأمثلة على هذا النمط ما حدث في دول أميركا اللاتينية وجنوب افريقيا، وبولندا والمجر وتشيكوسلوفيكيا.
النمط الثالث يحدث نتيجة للضغوط الشعبية والتعبئة الجماهيرية ضد النظام القائم، ولا تسيطر فيه نخب المعارضة التقليدية على هذه التحركات، ومن أمثلته ما حدث في رومانيا وأوكرانيا والفلبين، ومصر وتونس. أما النمط الرابع فيتم الانتقال فيه عبر الاحتجاجات الشعبية والثورات الانتخابية، أي انتفاضات ديمقراطية لم تكتمل تشهد عودة للنظام السلطوي، ما يدفع إلى تحركات اجتماعية ونقابية لمواجهة السلطة، ومن أمثلة هذا النمط ما عرف باسم الثورات الملونة في سلوفاكيا1998، وصربيا 2000، وجورجيا2003، وأوكرانيا2004.
النمط الخامس والأخير هو الذي يحدث فيه الانتقال إلى الديمقراطية بالقوة في أعقاب غزو أو هزيمة عسكرية مثلما حدث في ألمانيا وإيطاليا واليابان مع نهاية الحرب العالمية الثانية، أو في أفغانستان عام 2001، والعراق في 2003.
تحديات حتمية
بطبيعة الحال لا يفترض أحد أن تتم عمليات الانتقال هذه بسلاسة أو دون عقبات وتحديات فتحت "ضغوط الرغبة في التغيير السريع تصدر قرارات متسرعة وقد تكون خاطئة، وتترتب عليها نتائج غير مقصودة لم يسبقها تخطيط أو استعداد. وفي هذه الظروف تصعد قوى وتتراجع أخرى، فيتراجع دور بعض القوى التي برزت في مرحلة إسقاط النظام القديم لمصلحة القوى الأكثر تنظيما وخبرة". ومن هذه التحديات التحدي الاقتصادي، حيث تمر البلاد بعد هذا التحول بفترة من عدم اليقين وغياب الاستقرار قد تؤدي إلى تراجع الاستثمارات الداخلية والخارجية، وتراجع معدلات التنمية وحالة من الركود الاقتصادي بشكل عام. كما تسود الاجواء السياسية حالة من الريبة وغياب الثقة بين الفاعلين السياسييين مردها التنافس على مواقع النفوذ، وتزداد أيضا أخطار التفكك الاجتماعي.
يقول هلال: "إن أهمية هذه المرحلة تنبع من أن الشهور التالية لسقوط النظام السلطوي تصبح هي الفترة المفصلية أو الحاسمة التي تعاد فيها صياغة قواعد العملية السياسية.. ومن ثم فإن الطريقة التي يحدث التعامل بها مع التحديات سالفة الذكر تؤثر في مسارعملية الانتقال ومخرجاتها".
ويضيف: "إن وجود تقاليد برلمانية ونيابية أو وجود مؤسسات حكومية لها قواعد مستقرة، أو توفر درجة من الحريات العامة، أو قاعدة صناعية واقتصادية متطورة، أو طبقة وسطى عريضة، أو توفر بيئة إقليمية ودولية مواتية، كل ذلك يعد من الامور المدعمة لعملية الانتقال.. وبالعكس يعتبر غياب هذه العناصر أمرا معوقا لها..".
ويؤكد هلال أن توفر العوامل التي تعزز استمرارية النظام الديمقراطي لا تقل أهمية عن تلك التي ساهمت في إنشائه، مثل الاتفاق العام على قواعد هذا النظام، ووضع حدود واضحة لاستخدام السلطة، والقبول بالحلول الوسط في إدارة الصراعات، وخضوع العسكريين للحكومة المنتخبة. كل ذلك يدعم استمرار النظام الديمقراطي ويمنع إلى حد كبير العودة إلى الوراء، إلى الحكم السلطوي.