لا يزال
كورونا يملي علينا وجوده إلى درجة الحديث حول
التغييرات التي يمكن أن يثبتها هذا الفيروس الصغير الخطير سريع الانتشار وكثير التحول. فهناك حالة من انتشار القول بأن العالم بعد كورونا لن يكون ذلك العالم قبل كورونا، في إشارة إلى هذا التغيير الكوني الذي يمكن أن يحدثه كورونا من آثار ونتائج ومترتبات ومآلات تأتي على النظام الدولي برمته والحالة العولمية بكاملها.
ورغم أن هذا الكلام دار على الألسن من علماء في السياسة ومن أكاديميين في العلاقات الدولية، وكذلك ردده بعض القادة والزعماء؛ إلا أنني أتحفظ على كثير مما يقال من تفسير ومقاربات ومن تحليل ومقارنات يمكن أن تعقد هنا أو هناك بشأن هذا التأثير الكوني الكوروني. ومن المهم أن لا نسرف في توقع هذا التغيير من دون الحديث عن أشكاله والفاعلين فيه والمتلقين له والمؤثرين عليه، ذلك أن خرائط التغيير هي التي في حاجة إلى أن نهتم بها ونعمل على تشريحها، وبدون ذلك سيظل الأمر عبارة عن ترديد جملة من الشعارات حول تغيير منتظر وفق عقلية الإرجاء والانتظار من غير الاهتمام ببوصلته ووجهته.
والأمر المؤكد عندي أن هناك تغييرا لا شك سيترتب على الآثار الحالة والمستقبلية لهذا الفيروس الخطير، وأن تلك التأثيرات كبيرة الحجم والانتشار، وهي على شاكلة انتشار كورونا ذاته؛ حتى أنها ستشمل قطاعات كبيرة واقتصادات عظمى، وسيكون لها من الآثار على المستوى الجغرافي والسياسي والاقتصادي والجيوسياسي والاجتماعي والثقافي، إلا أن حجم ذلك التغير واتجاهه غير معلوم لدى كثير ممن بشروا به.
ويبدو لي أن عالم المسلمين والعرب لا يزال يتلقى تلك الإشارات التي أرسلها فيروس كورونا إلى الدنيا باستجابات عليلة وكليلة؛ ومعظم تلك الاستجابات تجد منشأها في طريقة
التفكير ومن ثم مسالك التدبير وأدوات التسيير وإدارة عملية التغيير، والمبتغى في المقصد والهدف في الفاعلية والتأثير، أمور بعضها من بعض ولكنها تشكل في حقيقة الأمر حالة عاجلة بحجم سرعة انتشار كورونا والجغرافيا التي قطعها هنا وهناك والآثار التي تركها، فإن الأمر يستحق كثيرا من الاهتمام والتعامل مع هذا المقام على نحو استراتيجي متكامل وشامل؛ قادر على أن يشارك هؤلاء الذين يطالبون بالتغيير إلى الأفضل، لكن أن يتحركوا وفق قوانين الوعي وسنن السعي، ولا يتوقفون عند تلك الآثار البادية والظاهرة لهذا الفيروس الخطير من دون تبصر لفعل الإنسان وردود فعله حيال هذه الجائحة الكبرى والمحنة العظمى.
والأمر في ذلك إنما يحتاج كما قلت البحثَ في تشريح هذه النتائج والبحث في القدرة على مواجهتها، وعلى صياغة هذا الجديد في عمليات كبرى كنا نؤكد عليها مرارا وتكرارا، وأن تغييرا كبيرا سيشهده العالم والمنطقة التي سنعيش فيها، ومن حق هؤلاء جميعا أن يتحدثوا عن المستقبل ويستشرفون أفقه ومآلاته لأن ذلك من الأمور الأساسية والعلمية في هذا الشأن.
البحث في المستقبل ليس رفاهية، ولكنه عمل مهم ورصين يجب أن يبدأ بفهم الواقع وتشوهاته، والنظام العالمي وتحدياته، وعالم الأفكار الذي يتحكم به وفيه، وعالم الفعل الحضاري والسلوك الدولي الذي لا زلنا نتواطأ على قبوله من غير فعل كبير للقيام بعمل جليل يتعامل مع مفاصل هذا التغيير. وهنا أود أن أؤكد وأتوقف عند أهمية اعتماد المدخل
السنني في هذا المقام، والمدخل السفني في تصور التحديات وعملية مواجهتها، والمدخل المقاصدي الاستراتيجي في بنياته وتكويناته وقدراته على معالجة شأن يتعلق بالواقع المرير والمستقبل المأمول.
وبدون التعرف على كيف يمكن أن نفعّل تلك المداخل في التفكير والتدبير والتسيير والتغيير وفي شأن الفاعلية والتأثير؛ لا يمكننا أن نعي تلك القوانين والسنن التي تحكم عمليات التغيير الكبرى. وهنا فقط وجب علي أن أتحدث عن بعض ردود فعل هنا وهناك في الغرب وفي بلاد العرب والمسلمين وفي الشرق والبلاد البعيدة، وفي عوالم أفريقيا التي تشكل جغرافيا هذه المعمورة بكل تكويناتها وامتداداتها، ذلك أن تبصر الفعل السنني بهذا المقام إنما يعد أساسا ومنطلقا لأي تصور مستقبلي، وكيف أن الكافة الغرب بغطرسه وقوته الباطشة وافتتانه بإنجازاته المادية والتقنية وعالم المسلمين بضعفه وتهاونه وهوانه وعوالم أخرى؛ ظلت تلعب دور الكومبارس في الدنيا على الرغم من أهمية أدوارها في عمليات التغيير القادم، ولكنها، كما أكدت، منظومة مشوهة تعبر عن اختلالات بنيوية في التفكير وفي مسالك التغيير.
فمثلا لا أستطيع إلا أن أذكر بهذا النمط من أنماط التفكير الرغبوي والتفكير بالأماني في كثير من الأمور التي تتعلق بالنظر المستقبلي، فيبدو البعض أنه احترف الحديث عن مبشرات وهي في الحقيقة ليست إلا مخدرات، وبعضهم تحدث عن نهاية الدنيا وخرابها ويبشر بهلاك المعمورة بأسرها من دون أن يفطن إلى المعاني الكامنة في حديث النبي عليه الصلاة والسلام "من قال هلك الناس فهو أهلكهم".. هل أهلكهم بقوله أم بطريقة تفكيره أم بتثبيطه وتيئيسه؟ هل هو ذلك الشخص الذي ظل أسيرا للحديث عن الأزمات والانهيارات من دون الحديث عن المخارج والمخرجات؟ يظنون أن هذه الأنماط من التكفير السقيمة لا تزال تمارس تفكيرا بشأن المستقبل ضمن رؤى رغبوية بلا سند. أما الصنف الآخر فيشيع رؤية خرابية، فلم يعد يحسن إلا النواح والبكاء على الأطلال. وهذان النمطان يخرجان عن حد الفعل والفاعلية والتفكير الرشيد والعمل السديد، ومداخل العلم النافع والعمل الصالح.
أقول وبأعلى صوت: يا هؤلاء إن الأمور لا تجري إلا بسنن، وإن الله سبحانه وتعالى لم يكن بمهلك القرى وأهلها صالحون، وأن للتغيير أصولا مرعية وقواعد أساسية وأعمال سعي مفصلية هي التي تحدد شأن التغيير ووجهته وقدراته على الفعل والتفعيل والفاعلية والتأثير.
ضمن هذا التفكير الرغبوي سنرى عند هذا البعض أن كورونا هو البطل وأنه هو الذي أعلن ودق ساعة التغيير، وأنه المعول عليه في بناء عالم جديد، من دون أن يعلم هؤلاء أن الأمر الذي يتعلق بجنود الله الخفية حتى لو أحدثت جوائح ومحن، فإن الإنسان فقط هو القادر على أن يستخرج من جوف هذه المخاطر فرصا ومنحا، من أول طريقة تفكيره وتأسيس مسالك تغييره والبحث في شأن القواعد والمعايير للفاعلية والتأثير.
نقول ذلك لهؤلاء الذين يتحدثون وقد رصدوا خرائط العجز عند أمة المسلمين، فقالوا وبأعلى صوت إن كورونا سيكون عنده الحل.. ستزول إسرائيل، ويذهب ترامب إلى غير رجعة، وستتحسن أحوال المسلمين.. وتندحر وتتدهور حضارة الغرب، فقط قولوا آمين! ليس ذلك هو الطريق، ولكن الحديث عن الطريق سيكون له حديث آخر حول كيف يمكن أن نصنع ونستثمر العوامل التي ستترتب على التغيير ما بعد كورونا، وذلك في مقال قادم.