هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: السياسة الإسلامية لفرنسا في المغرب العربي خلال الحرب العالمية الأولى
المؤلف: التليلي العجيلي
الناشر: كلية الآداب والفنون والإنسانيات منوبة ومجمع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المختص، تونس.
الطبعة الأولى : تونس 2018.
عدد الصفحات: 1069صفحة.
عرض الباب الأول من هذا الكتاب أسباب اشتداد العداء لفرنسا. وعامة ردها الكاتب إلى العمل الدعائي العثماني الذي عبر بيانات وفتاوى تدعو إلى التمرد على المستعمِر أو عبر محاولة إحياء روابطها مع الأقاليم التي كانت تحت سيطرتها. وكانت هذه السياسة من النجاعة بحيث أزعجت فرنسا ودفعتها إلى أن تتخذ إجراءات عديدة للحيلولة دون هذا الخطر المحتمل داخل بلدان المغرب العربي. فركز الكاتب على سياستها مع اندلاع الحرب العالمية الأولى ووزعها على محورين تعلّق أولها بسياستها داخل بلدان المغرب العربي التي تضيّق على الأهالي وتجسد ثانيها على جبهات القتال وتمثل في أخذ ديانة مقاتلي هذه البلدان في عديد القرارات.
ففي تونس أعلن الحصار على كامل المملكة، وفقا لأمر عليّ وجُعلت السلطة المدنية وحفظ الأمن بيد السلطات العسكرية. ومنحت حق تفتيش المنازل والأشخاص والتعاطي مع المطلوبين من طرف العدالة. وتم التضييق على الحريات فحجرت المنشورات والاجتماعات العامة ومنع كل تلميح للجهاد المقدس الذي دعت إليه الدولة العثمانية. وفكرت في منع مناسك الحج حتى لا يلتقي حجاج شمال إفريقيا نظراءهم من الدول الأخرى ولا يتواصل معهم أنصار الدولة العثمانية.
ولم تكن هذه الإجراءات غير عمل وقائي لجأت إليه فرنسا لأنها كانت تدرك ولاء الأهالي الكبير للدولة العثمانية ونجاعة سياسيتها الإسلامية وفاعلية إعلان الجهاد المقدس، بحثت عن إجراءات أكثر فاعلية وتأثيرا على المدى البعيد. فعملت على إقناع الأهالي بكونها لحمايتهم في إطار احترام ديانتهم.
بالموازاة مع توظيف رموز الإسلام الشعبي عملت فرنسا على توظيف خريجي المؤسّسات التعليمية الدينية كجامعي الزيتونة والقرويين أو العلماء والمفتين والقضاة. فانساق الكثير منهم للتعبير عن الولاء لفرنسا والإخلاص لها والعرفان.
ولترفع مكانتها عندهم وتكسب ثقتهم استقطبت رموز الدين من الإسلام الشعبي أو الإسلام العالم ودفعتهم إلى إعلان مساندتهم لها على رؤوس الملإ أو دفعت الحكام المحليين في تونس والجزائر لتولي الأمر نيابة عنها. فقد صدر في تونس يوم 10 تشرين ثاني (نوفمبر) 1914 "خطاب ملوكي" لعامة الرعايا التونسيين يعدّد إنجازات فرنسا ويثني على ما باتت تتمتع به البلاد في ظل "الدولة الحامية" ويذكر مساعدتها للأهالي على "التحفظ على الشرع المطهر، والأوقاف والتدريس بجامع الزيتونة.. فضلا عن وقوفها موقف الاحترام للعقائد والعوائد الإسلامية.." وغيرها من "النعم" تستوجب الانقطاع "لما عليه من واجب الطاعة والسكون" بعد "أن راجت الدسائس الألمانية على بعض رجال الدولة العثمانية.."
فاشترك هذا البيان مع موقف فرنسا والحكومة العامة في الجزائر في اعتبار "مقاطعة فرنسا للعثمانيين ليس المقصود منها معاداة الدولة التركية..".
تحولت هذه النصرة إلى محاكمة للفترة العثمانية في تاريخ الجزائر وما قاساه الجزائريون من "الفظائع المتنوعة والتعديات المختلفة". فقد كانت البلاد "وقت استيلاء الترك عليها، يئن سكّانها من ظلمهم وجورهم وفسادهم وقتلهم أولياء الله ظلما وعدوانا" وفق شيخ الطريقة السنوسية. وزعم بعضهم "بقول النبي: أتركوا الترك".
لقد خولت لها خبرتها بالإسلام الشعبي تطويع أهم الطرق الصوفية وحملها على إعلان الولاء لها والإفادة من نفوذها الروحي عند أتباعها، وكانت هذه الطرق مناوئة للوجود الفرنسي في بلدان المغرب العربي. فعرض التليلي العجيلي شراسة هذه الطرق في مناوءة فرنسا وغير المسلمين عموما. وذكر وجوها من معاداة الطريقة السنوسية أنموذجا. ثم ذكّر بمحاصرة فرنسا لأنشطتها ومراقبة مواردها وحرمانها منها ومحاصرة بنائها للزوايا وملاحقة مشايخها، مبينا أنّ هذا هو الأمر الذي أفضى إلى ترويضها. فطبعت مع المستعمر وتعاونت معه. وكذا الأمر بالنسبة إلى باقي الطرق. فقد "انتهى الأمر بالجميع إلى قبول الأمر الواقع" يؤكد الكاتب مستدلا بقائمة للمشايخ أصدروا "رسائل الولاء والإخلاص" بناء على طلب السلطات الفرنسية.
ولأن انخراط أغلب هؤلاء المشايخ في الدعوة للنصر لفرنسا والتمكين لها وهزيمة أعدائها، فإن أمر مشايخ الزوايا في المغرب كان مغايرا. فلا ولاء عندهم للسلطان العثماني وإنما لمولاي يوسف الزعيم الروحي الوحيد. ولذلك لم يكن مطلوبا منهم تأكيد رفضهم للخلافة العثمانية أو تحميلها مسؤولية حربها ضد الحلفاء.
وبالموازاة مع توظيف رموز الإسلام الشعبي عملت فرنسا على توظيف خريجي المؤسّسات التعليمية الدينية كجامعي الزيتونة والقرويين أو العلماء والمفتين والقضاة. فانساق الكثير منهم للتعبير عن الولاء لفرنسا والإخلاص لها والعرفان. فيعرض الكاتب بيان محمد مناشو الذي يعبر عما أبدته الأمة التونسية "عن مشاعر الإخلاص والولاء نحو دولة الجمهورية الفخيمة التي تباشر.. حربا مقدسة لنصرة المدنية" ص 346.
ويشير إلى إصرار أعضاء المجلس الشرعي على القيام بمسعى لدى المقيم العام للإعراب عن مشاعر ولاء سكان المسلمين التونسيين. وكان يتقدمهم شيخ الإسلام أحمد بيرم. أما أحمد الشريف الباش المفتي المالكي الذي لم يكن ضمن الوفد فعمل على توجيه رسالة تؤكد حرصه على الحضور وولائه لفرنسا مبررا غيابه بظروفه الصحية.
وفي الجزائر وجّه مفتي المذهب المالكي ابن الموهوب ومفتي المذهب الحنفي باش تارزي عبد الكريم وصية عامة للمسلمين أشارا فيها إلى "غواية شيطان الألمان للدولة العثمانية" مما جعلها تعلن الحرب على "الدول العظام فرنسا وروسيا وانجلترا" مؤكدين "أنها أضرت بنفسها" و"خالفت أمر الله الناهي عن عدم مقاتلة من لم يبدأ بالعدوان تجنبا للتهلكة". ويعربان بعد "الحادثة المحزنة" على "الخضوع والإذعان لدولتهما السعيدة" و"الإعراب لها عن إخلاصهما وتعلقهما بأذيالها، ورغبتهما في الاستظلال تحت ظلالها" مرشدين إخوانهم في الدين "إلى ما فيه صلاحهم وخيرهم أن يفكروا ـ قبل اشتداد الأهوال وضياع الأنفس والأموال، وأن لا يتهوروا لكي لا يقعوا في شراك ألمانيا المغوية لهم" ص 347.
وعلى المنوال نفسه سارت "الجمعية الدينية الإسلامية" في بلاغها بتاريخ 7 آب (أغسطس) 1914. فقد ردت اندلاع الحرب إلى تهور ألمانيا. أما فرنسا فـ "هي رمز العدالة" طالبة من الأهالي أن "اثبتوا أيها المسلمون شجاعتكم، واثبتوا أنّ دم آبائكم يسري في عروقكم.. ولا تستمعوا إلى الأكاذيب والدّعايات، إنّ مساعدتكم للفرنسيين واجب عليكم من باب حسن الجوار والمعاشرة الذي ستدخلون منه الجنة" ص 348.
لقد جمع بين هذه البلاغات تحميل ألمانيا مسؤولية نشوب الحرب واعتبار الدولة العثمانية غير راشدة مغرّرا بها. أما في المغرب فقد اتجه "العلماء" إلى إنكار شرعية الخلافة العثمانية لافتقارها للنسب القريشي وعدم مبايعة المسلمين لها وإخلال حكامها بدين الأمة ومصالحها وإلى التذكير بأن الأتراك أعاجم على خلاف مولاي يوسف المنحدر من سلالة النبي.
لقد تركت المعاملة الخاصة التي يلقاها الأسرى المسلمون من قبل ألمانيا أثرا حسنا في نفوس المسلمين، إذ كانت تجمعهم في محتشد خاص قرب برلين وشيدت لهم مسجدا داخله تمّ تدشينه رسميا بحضور السفير التركي وألقيت أثناء الموكب كلمة باسم الإمبراطور الألماني.
وتمثل جبهات القتال المحور الثاني من محاور السياسة الإسلامية الفرنسية في المغرب العربي. وكانت موجهة إلى الملحقين منهم بالجيش الفرنسي. فوفرت العدول ليكتبوا العقود الضامنة لحقوق مجنديها المسلمين أثناء غيابهم وهم المعدمون المرغمون على القتال في حرب لا تعنيهم مخلفين أبناءهم للفاقة والجوع.
لقد تركت المعاملة الخاصة التي يلقاها الأسرى المسلمون من قبل ألمانيا أثرا حسنا في نفوس المسلمين، إذ كانت تجمعهم في محتشد خاص قرب برلين وشيدت لهم مسجدا داخله تمّ تدشينه رسميا بحضور السفير التركي وألقيت أثناء الموكب كلمة باسم الإمبراطور الألماني.
وأعرب الشيخ الزيتوني "محمد الخضر حسين" عن تقديره لهذا العمل في الموكب نفسه ذاكرا "أن هذا المبنى رغم أنه لا يحتل إلا مساحة محدودة من التراب الألماني، فإن له ـ في قلوبنا ـ ضعف مساحته.. وفي الوقت ذاته يتذكر فيه الجزائريون أنّ فرنسا حوّلت جامع صالح باي بقسنطينية، والجامع الكبير بعنابة إلى ثكنة حشدت فيها جنودها، فإنهم سيدركون الفرق بين من يبني فوق أرضه مسجدا جميلا كهذا، وبين دولة لا هم لها إلا القضاء على الإسلام ومؤسساته" ص 829.
فجعلت هذه الأحداث ونظيراتها فرنسا مرغمة على إظهار تقديرها لجنودها المسلمين وحرصها على أدائهم لشعائرهم الدينية. وبنت على عجل جامع نوجون، حيث مستشفى البستان الاستعماري قرب باريس. وأطنبت في الدعاية له وروجت صورا فوتوغرافية في شكل بطاقات بريدية. ولكن بنيان هذا المسجد كان ضعيفا متهالكا، ذلك أنّ الدولة الفرنسية كانت شحيحة في جلية الأمر فلم تنفق عليه الأموال الضرورية. فهدفها كان يتمثل في استغلال منبره للدعاية لصورة فرنسا متسامحة خادمة للدين الإسلامي. فانطلق الأئمة يدعون إلى "أداء صلاة الشكر لله الذي أنعم على فرنسا بالنصر" ص 852.
كتاب ضخم وجهد جبّار وبعد:
لا ينكر قيمة الكتاب التوثيقية والتحليلية إلا جاحد للمعطيات التالية:
ـ إضافة إلى جمع الوثائق النادرة والمجلات والنشريات القديمة في مراكز التوثيق الموجودة في الأماكن المتباعدة وفّر الكتاب الجهد لنعيد قراءتنا للظاهرة بأنفسنا، ولندرك سمة ملازمة للمشاعر الدينية الجياشة التي كثيرا ما تجعل المتدينين البسطاء وقودا لمعارك قد لا تعنيهم وكثيرا ما يتحول الخير الفطري في أنفسهم إلى نزعة للقتل بوحشية. فللعقول المتربصة بهم أياد تحرك اندفاعهم الغريزي من وراء حجاب لخدمة أغراضها البعيدة كل البعد عن جوهر الدين.
ـ يذكرنا هذا المصنّف البارع ضمنا بالمبدأ العام في علم النباتات، وهو أنّ الشجرة لا تبدو واحدة إلا لقصير النّظر. فهي، في الحقيقة، شجرتان، واحدة فوق الأرض وثانية تحتها تتمثل في الجذور والعروق. والثانية هي الأهم لأنها تعطي للأولى أسباب الحياة. والشجرة الأولى التي نعني هي المشهد السياسي العالمي اليوم بما فيه صدام بين الشرق والغرب وتوظيف للدين وزج للدينيين في المعارك التي لا تنتهي. يحفر الكاتب جذور هذا المشهد. فيعود بنا إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر وإلى البدايات الأولى لنشأة الإسلام السياسي وفق تقديره.
ولكن ليست مصادراته وأعمدته التي عليها عماد بنيانه سوى أطروحات يمكن أن تناقش من منطلق أطروحات بديلة مما ينزلها ضمن وجهات النظر والقراءات الخاصة المشروطة بسياقات محددة:
ـ أولها يتعلق بالموقف من الجامعة الإسلامية. فهل يتعلق ظهورها بخطط السلطان العثماني لإنقاذ عرشه وحكم العثمانيين بالنتيجة؟ أم بصحوة إسلامية وردة فعل طبيعية لاستعمار البلدان الإسلامية أسهم انتشار التدريس في بلورتها؟
يرى الكاتب أن الأمر محض سياسية من الدولة العثمانية تستخدم المسلمين في معارك لا تعنيهم، مشدّدا على تقاعسها في حماية طرابلس الغرب وتركها تقع بين يدي الإيطاليين مما أثار حفيظة أهلها. ولكن هذه الجامعة كانت موضوع تقييمات مختلفة باختلاف المرجعيات الفكرية أو السياسية. فكثيرة هي الكتابات المتأسفة على فرقة المسلمين الحالمة بوحدتهم تقدمها على أنها فرصة قد فرط فيها المسلمون. وهذا ما يضيّق الهوة بين البحث العلمي الرصين والموقف السياسي أو الإيديولوجي.
ـ مدار ثانيها على مصادرة ينطلق منها الكتاب ويتعامل معها بالكثير من التراخي دون تدبر أو تدقيق، وهي أن سياسة فرنسا الإسلامية وجه من وجوه الإسلام السياسي. فقد جاءت في شكل ردة فعل على السياسة الإسلامية الألمانية. فــ"العالم الجليل البارون ماكس فون أوبنهايم (1860 ـ 1946)، المؤرخ والأثري والدبلوماسي، هو المؤسس الحقيقي لفكرة الجهاد المقدس لصالح أجندات غربية، ولُقّب بأبي الجهاد الإسلامي وأبي الحرب الإسلامية المقدّسة. ولكنه يظل صنيعة بريطانية. فالبريطانيون كانوا قد سبقوا الألمان في ابتكار الإسلام السياسي الموالي للغرب أو القومية العربية من أجل فصل الولايات العثمانية الناطقة باللغة العربية عن باقي الولايات، إلا أن أفكار أوبنهايم طوّرت المخطط البريطاني وجعلته قابلاً للحياة حتى اليوم، بحسب شوانيتس. كتب أوبنهايم مذكرة سرية بعنوان "ثورة الأراضي الإسلامية ضد أعدائنا" تضمنت فكرة تدبير ثورة جهادية ضد الاحتلال البريطاني في مصر والسودان، والاحتلال الفرنسي في الجزائر والمغرب وتونس والاحتلال الإيطالي في ليبيا".
ولا شك أن الكاتب يتحدث عن توظيف الجهاد وهو يشير إلى الإسلام السياسي فتعوزه الدقة هنا في موضوع شائك وكتاب ضخم دقيق عامة، باعتبار أن مفهوم الإسلام السياسي أشمل بكثير من فكرة الجهاد. فمنطلقه مصادرة ترى أن الإسلام، بصرف النظر عن الخلفيات النظرية الحديثة في الاجتماع والسياسة والاقتصاد، أكثر من عقيدة، وأنه نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يشمل كل مظاهر الحياة ويخترق كلّ مؤسسات الدولة كاعتماد البنوك الإسلامية واعتماد الزكاة بدل الضرائب، وأنه تصور محدد لمنزلة الإنسان في الكون ولأدواره فيه ولعلاقته بجسده وكيفية الفضاءات العامة والخاصة.
ـ من أطروحات الكتاب أن المشاعر الدينية كانت طعما للتأثير في الشعوب والتحكم في الأهالي. وضمن هذا القانون العام يُدرج سعي الدولة العثمانية إلى توظيف الدين بعد أن أهملت أقاليمها وولايتها طويلا واقتصرت صلتها بها على الجباية وهذا أمر ثابت على مر التاريخ. لكن الإشارة إلى نجاعة توظيف فرنسا للمشاعر الإسلامية لا يخلو من مبالغة. فأقصى ما يمكن أن نستنتجه من الوثائق المعروضة أو الأحداث المسرودة أن فرنسا كانت تعمل على الظهور بمنطق من يحترم ديانات الآخرين لإبطال مفعول السياسة التركية وأن إعلان الولاء لها من قبل الإسلام الشعبي أو العالم كان من منطلق انتهازية بعضهم وبحثهم عن المكانة أو الوجاهة أو المآثر أكثر مما هو ناتج عن اقتناعهم بخدمتها للدين الإسلامي. فعملها لم يؤثر في قناعات الأهالي بدليل اصطدامهم الحاد بها بعنوان ديني في أكثر من واقعة في هذه الفترة.
إقرأ أيضا: قراءة في سياسة فرنسا الإسلامية في المغرب العربي (1 من 2)