قضايا وآراء

مواجهة كورونا بين وعي الشعب وسلطة الدولة

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
في المؤتمر الصحفي المشترك بين وزيري الداخلية والصحة في تونس، بدا من الواضح أن هناك معطيات مفزعة دفعت بالأول منهما إلى الإعلان عن تشديد الإجراءات الردعية التي قد تصل إلى حد الإحالة على القضاء بتهمة القتل غير العمد، بينما كشفت دموع الثاني (وهو المناضل المعروف بصلابته منذ عهد المخلوع) عن حالة الغبن التي تقول بلا كلمات؛ إنكم تهدمون، بالإخلال بالحجر الصحي وعدم كسر سلاسل العدوى، ما بنيناه معا حتى خلنا أنه سيكون "استثناء" تونسيا صحّيا لا يقل في قيمته عن الاستثناء الديمقراطي.

ولا شكّ عندنا في أهمية وعي المواطنين لإنجاح سياسات الحكومة في احتواء الوباء قبل دخول شهر رمضان، بحكم استمرار الحجر إلى يوم 19 من هذا الشهر، ولكننا لا نشكّ أيضا في أنّ تحميل المواطنين المسؤولية كلها عن حالة الارتكاسة المؤذنة باستمرار الحجر الصحي العام إلى فترة غير معلومة؛ هو أمر فيه إجحاف كبير، بل فيه ضرب من التزييف لواقعٍ يشهد على أن بعض سياسات الحكومة هي سبب مركزي في ما آلت إليه الأوضاع.

لقد بدأت نواقيس الخطر تدقّ عندما أقرّت الحكومة مساعدات مالية للفئات المعوزة والأكثر تضررا، بحكم هشاشتها الاقتصادية من الحجر الصحي العام. فرغم تحذير الكثيرين من العواقب الكارثية لتوزيع المساعدات عبر شبكة "العُمَد" الموروثة من عهد المخلوع (وهي شبكة إدارية مشبوهة)، ورغم وجود بدائل للعُمد أكثر موثوقية أخلاقيا ووظيفيا، من مثل الالتجاء إلى مكاتب الهيئة العليا للانتخابات أو الاستعانة بمنظمة الكشافة في توزيع الإعانات على مستحقيها في منازلهم؛ تجنبا لتكدس المواطنين في مكان واحد قد يُشكّل بؤرة عدوى جديدة، أصرّت الحكومة على تكليف العُمد بعملية التوزيع، بل جعلتهم طرفا رئيسيا في تحديد مستحقي تلك المساعدات مع ما يعنيه ذلك من تلاعب ومحسوبية، بل مع ما يعنيه ذلك من اختلاس مُمنهج لأموال دافعي الضرائب، وهو ما أكدته منظمة "I WATCH Organization" عندما تحدثت عن وجود 4000 موظف يتمتعون على غير وجه حق بالمنح الموجّهة للعائلات المعوزة.

يبدو التناقض في الحالة التونسية في أن الدولة التي تضع 600 مواطن في السجن لإخلالهم بالحجر الصحي العام (ويُهدد وزير داخليتها بسجن المزيد إن استدعى الأمر ذلك)، هي الدولة ذاتها التي يرى مواطنوها عجز أجهزتها عن فرض الحجر الصحي على رجل أعمال وزوجته، إلا بعد أن صارت قضيتهما قضية رأي عام، وهي الدولة ذاتها التي يطالب بعض نوابها بتمرير قانون لضرب حرية التعبير، ولكنهم لا يتورّعون عن حضور فعاليات عامّة، في خرق واضح لمبدأ التباعد الاجتماعي وفي تهديد صارخ لصحة المواطنين، وكأن بينهم وبين كورونا عهد أو ميثاق. وهي أخيرا الدولة ذاتها التي تنهي وزيرة ثقافتها، بتعليمات من رئيس الحكومة، التعليق المفروض على تصوير الإنتاجات الدرامية الوطنية.

بصرف النظر عن التبريرات الواهية لقرار وزيرة الثقافة الواردة في بلاغها الرسمي، مثل"التخفيف من وطأة الانشغال بالوضع الصحي على الصعيدين الوطني والدولي"، أو "عزل كامل الفريق الفني والتقني والمتدخلين كافة خلال فترة التصوير وإخضاعهم إلى التحليل المخبري قبل انطلاق التصوير وبعده، وبصرف النظر عمّا تثيره هذه التبريرات من إشكاليات، مثل مدى قانونية تمتيع فرق الإنتاج الدرامي بمعاملة تفضيلية دون وجه حق، بتمتيعهم بالتحليل المخبري العمومي الذي لا موجب له إلا مصالح المافيات المالية، وكذلك مدى حاجة المواطنين في شهر رمضان إلى الترفيه بأعمال درامية لا علاقة لها بروحانية الشهر المعظم، ولا بقضاياهم الأساسية خلال هذه الجائحة. بصرف النظر عن ذلك كله، فإن الخطر الأعظم هو الرسالة السلبية التي تبعثها وزارة الصحة (ورئاسة الحكومة) بهذا القرار، الذي يجعل التونسيين أمام حقيقة لا غبار عليها: الحجر الصحي هو واجب المواطنين فقط، ولكنه ليس واجب "اللوبيات" القادرة على فرض مصالحها أمام منطق الدولة وقراراتها.

ختاما، قد يكون علينا أن نعود إلى "دموع" وزير الصحة من منظور مختلف؛ فهي ليست دموع المغلوب على أمره باستهتار المواطنين فحسب، بل هي أيضا دموع الوزير الذي يرى مجهودات وزارته كلها تذهب أدراج الرياح بقرارات حكومية يضرب بعضها بعضا. ولكنّ تلك الدموع تفقد كل قيمتها/ رمزيتها عندما تُشرّع وزارة الصحة لخرق الحجر الصحي العام إرضاء للّوبيات التي تقف خلف "تعليمات" رئيس الحكومة؛ باستئناف إنتاج الأعمال الدرامية، مع ما يعنيه هذا التعامل بمكيالين من مخاطر لا تحجبها تلبيسات وزارة الشؤون الثقافية ولا تعليمات رئيس الحكومة، ولا دموع وزير الصحة.
التعليقات (0)