هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ألقت عدة تقارير مؤخرا الضوء على مشروع صيني
كبير، تعود جذوره إلى عدة أعوام سابقة، لكن معالمه بدأت تتشكل بوتيرة متسارعة بفضل
جائحة فيروس كورونا المستجد، وسياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وبحسب تقرير لموقع "أكسيوس"
الأمريكي، فإن ضعف الاهتمام الغربي بذلك المشروع، الذي أطلقت عليه بكين اسم
"طريق الحرير الصحي"، يعود إلى طغيان الجوانب السياسية والاقتصادية
لاستراتيجية "الحزام والطريق" الصينية، والتي تركز بالدرجة الأولى على شق طرق متعددة نحو أسواق أوروبا مرورا بروسيا ووسط وجنوب آسيا والشرق الأوسط أفريقيا.
وبالتزامن مع إعلان الصين سيطرتها على تفشي "كوفيد-19" بالبلاد، وبدئها مد يد العون لبؤرته الجديدة، في الغرب، أعلن ترامب وقف تمويل منظمة الصحة العالمية، بدعوى تحيزها لبكين، والتواطؤ معها في عدم إبلاغ العالم بشفافية عما كان يجري في "ووهان" مطلع العام الجاري.
وحذرت تقارير سابقة من أن الصين تستغل
"انكفاء" أمريكا لتعزيز نفوذها على الساحة الدولية، لا سيما بعد أن أصبح
هذا النهج سياسة معتمدة من قبل واشنطن في ظل حكم ترامب، الذي سحب عضوية بلاده من منظمة
الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، وأوقف تمويل وكالة
غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، واعتبر المحكمة الجنائية الدولية بأنها
"غير شرعية".
بل إنه هدد بتقليص تمويل منظمة الأمم المتحدة ككل، إثر قرار الجمعية العامة الرافض لاعترافه بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، فضلا عن تهديد مماثل لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، عندما طالب بقية الدول الأعضاء بزيادة مساهماتها في تمويله.
اقرأ أيضا: صربيا.. ثالث دولة أوروبية تتلقى دعما صينيا بعد مناشدة (شاهد)
في المقابل فإن مساهمات الصين على الساحة
الدولية تشهد ازدهارا، وقد أشار تقرير "أكسيوس" إلى أن الاتهام الغربي
لـ"الصحة العالمية" بالتحيز يعود في الواقع إلى عام 2017، عندما تم
اختيار "تيدروس
أدهانوم غيبريسوس" مديرا للمنظمة، بدعم من بكين.
وفي آب/ أغسطس من ذلك العام، ألقى "غيبريسوس" كلمة أشاد فيها بفكرة "طريق الحرير الصحي"، معتبرا أنها تعمل على أساس تعزيز وتجديد الروابط القديمة بين الثقافات والشعوب، ومشددا على ضرورة "اغتنام الفرص التي توفرها مبادرة الحزام والطريق".
وينقل التقرير عن
"نيديج رونالد"، الباحث في مؤسسة "أن بي آر" الأمريكية،
المتخصصة بالشؤون الآسيوية، قوله إن "هذا هو أوضح مثال على حقيقة أن مبادرة
الحزام والطريق لا تتعلق بإنشاء بنى تحتية وحسب، ولكنها عبارة عن جهد أوسع لإعادة
رسم العالم وفقا للتصميم الذي تفضله بكين".
وأضاف
"رونالد" أن طريق الحرير الصحي "ليس مؤسسة متعددة الأطراف بحد
ذاتها"، بل إنها أقرب إلى "كائن حي محوري، مثل نموذج 17+1: الصين في
المركز، وبأذرع متعددة تمتد إلى الخارج".
وتطرق الرئيس الصيني
شي جينبينغ بالفعل إلى المبادرة في مكالمات هاتفية ورسائل مع العديد من رؤساء
الحكومات الأوروبية منذ بدء تفشي جائحة "كورونا"، بحسب تقرير
"أكسيوس"، وشملت رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي والرئيس الفرنسي
إيمانويل ماكرون.
وأثارت مساعدات بكين
إلى العديد من العواصم الغربية الكثير من الجدل، وصدرت تصريحات تشكك بنواياها، وتنتقد "نهجها الدعائي"،
وأخرى تشكك بحقيقة "النصر" الذي أعلنت الصين تحقيقه على الوباء لديها،
وليس انتهاء بالحديث عن احتمال تسببها بالكارثة، جراء تسرب الفيروس من مختبر
بـ"ووهان".
ورغم تلك الاتهامات، فإن الصين تتمتع بفرصة تقديم نماذج عملية على قدرتها في تقديم يد العون في المجال الصحي وتصميم السياسات الحكومية في دول مختلفة حول العالم، ولا سيما التي عانت وتعاني من الجائحة، ومنها دول غربية أيضا، مثل إيطاليا.
اقرأ أيضا: حشد غربي ضد الصين.. فرنسا وبريطانيا تنضمان لترامب
وفي إيران، التي ترزح
تحت وطأة عقوبات أمريكية قاسية، فإن المساعدات الصينية تحظى بأهمية كبيرة في سياق
مواجهة الجائحة، بحسب قنصل طهران بالإنابة لدى هونغ كونغ وماكاو، سيد رضا حسيني،
الذي توقع في مقابلة صحفية أن تزيد الكارثة اعتمادية طهران على بكين.
في المقابل، فإن الباحث الإيطالي "رافاييلو بانتوتسي" شكك في مقال نشره موقع صحفية "ساوث تشاينا مورنينغ بوست" بقدرة استراتيجية الصين الصحية على النجاح، رغم اهتمامها الكبير بها، مشيرا إلى عدة عقبات، أبرزها التوترات بين بكين والغرب، بل وإلى الخلافات مع دول "صديقة" لها، ولا سيما إيران وروسيا، على خلفية عدة ملفات، فيما يبدو أن الخوف من طغيان نموذج الحكم الصيني عالميا يأتي في السياق ذاته أيضا.
النموذج الصيني
وتلقت الصين منحا دولية على مدار عقود، واستمر ذلك حتى عام 2013، لكنها بدأت خلال العقدين الماضيين بتعزيز إسهاماتها في مساعدة دول نامية في قطاعات الصحة والتعليم والزراعة والبيئة، وشكلت منحها 0.05 بالمئة من دخلها القومي الإجمالي عام 2014.
وفي الجانب الصحي
تحديدا، تعود مساهمات الصين الخارجية إلى عام 1963، عندما أطلقت برنامج لتدريب
أطبائها في دول منخفضة الموارد، وبرز ذلك التوجه للمرة الأولى إبان الاستجابة
العالمية لوباء "إيبولا" في غرب أفريقيا عام 2014، بحسب تقرير نشره موقع
"هيلث أفيرز" عام 2018.
ويلفت التقرير إلى أن "النموذج الصيني" يركز في المساعدات الخارجية على البنى التحتية (مثل الطاقة والنقل وتكنولوجيا المعلومات) والتجارة، وتمويل المشاريع في المقام الأول من خلال القروض الميسرة، عبر بنكي "الاستثمار الآسيوي في البنية التحتية"، و"التنمية الجديد".
وترى الصين أن مساعداتها التنموية تفيد شركاتها والمتلقين للقروض في آن
معا، لكنها في الواقع تتيح لبكين ترسيخ أقدامها في اقتصادات الدول الأخرى، إذ يترتب
على المنح والقروض "صفرية الفائدة" عقد المستفيدين صفقات تجارية معها،
بينما يترتب على القروض الميسرة منح حصص لا تقل عن 50 بالمائة من المشاريع للشركات
الصينية، بحسب التقرير.
ويضيف أن المساعدات الإنمائية التي تقدمها الصين "ثنائية للغاية"، إذ غالبا ما تكون ضعيفة التنسيق مع منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة. وتفضل بكين تقديم المساعدة مباشرة إلى الحكومات، وهو ما لا يفضله المانحون الغربيون، الذين يتعاملون غالبا مع المنظمات الدولية والمجتمع المدني.
ويشير التقرير إلى أن تشديد البلاد على أن مساعداتها الخارجية لن ترافقها
شروط سياسية، أو "انتهاك لسيادة الدول"، يمنحها قدرة التواصل مع حكومات
توصف بـ"الاستبدادية" والدخول إلى مختلف المناطق حول العالم.
وبالعودة إلى مقال "بانتوتسي"، فإنه من المبكر، بحسبه، الحديث عن انقلاب في الموازين الدولية لصالح العملاق الآسيوي، إذ لا تزال التجربة في بداياتها، ويبدو أن العالم بحاجة ليطمئن بشكل أكبر إزاء مستقبل تتحكم فيه الماكينة الصينية، لكن الإشارات التي تبعثها نجاحات بكين، وآخرها في المجال الصحي، تشير إلى أننا على أعتاب توازن، إلى حد ما، بين بكين وواشنطن.