هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
صدر كتاب "وحدة تاريخ مصر" للكاتب المفكر المصري محمد العزب موسى لأول مرة عام 1972، لكنه ظل مرجعا لكل الدارسين للتاريخ المصري قديمه وحديثه، وتمت إعادة طبعه بعد الثورة المصرية في العام 2011.
يقدم الكتاب مسحا تاريخيا لأهم العصور التي عرفتها مصر منذ ما قبل المسيح إلى يوم الناس هذا، ليؤكد أن مصر لم تكن في وقت من الأوقات منعزلة عن العالم الخارجي، بل كانت دائماً في مفرق الحضارات ومهب التيارات، مؤثرة ومتأثرة..
ويختزل المؤلف التيارات التي تصارعت على حكم مصر هي الفرعونية والإسلامية والقومية، ليؤكد في النهاية أن مصر هي كل هذه التيارات مجتمعة..
الكاتب والباحث المصري محمد بدر الدين يعيد قراءة الكتاب في ضوء الأوضاع المستجدة التي تعيشها مصر، لا سيما منذ اندلاع ثورات الربيع العربي التي أطاحت بعدد من الأنظمة العربية، وكان نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك واحدا منها.
مدرستان في تاريخ مصر
ينقسم الكتاب إلى مقدمة، تعد مدخلاً أو فصلاً تمهيدياً بعنوان: "المشكلة والمنهج"، ثم إلى ثلاثة أقسام أساسية، الأول بعنوان "استمرارية أم انقطاع؟"، والثاني بعنوان "عروبة مصر"، ويحوي كل منهما خمسة فصول، والثالث بعنوان "بين الوطنية والقومية".
وكما يبادر المؤلف بالقول: "مصر دائماً هي الفصل الأول في كتب التاريخ، افتح أي كتاب في التاريخ العام للبشرية تجده يفرد صدارته لتاريخ مصر القديمة، فبعد إلمامة عاجلة بفترة ما قبل التاريخ ينتقل الكتاب فوراً إلى المسرح الأول للحضارة، إلى وادي النيل حيث تعلم الإنسان الزراعة والكتابة والتفكير، ووصل في أمد قصير إلى قمة حضارية لا تدانيها قمة أخرى في التاريخ القديم".
ثم يرصد المشكلة أو المسألة التالية: "لا تزال نظرة المصريين إلى تاريخهم يشوبها قدر كبير من التخبط، فليست هناك نظرة موحدة واضحة المعالم إزاء التاريخ المصري، بل يبدو أحياناً كأن ليس ثمة اتفاق على الخطوط الرئيسية فيه. وهناك مدرستان رئيسيتان: إحداهما تؤكد فكرة استمرارية مصر وتتطرف أحياناً إلى حد الزعم بأن مصر الحديثة لا تزال فرعونية جوهراً.. "والثانية تؤيد فكرة تنوع مصر، وتتطرف أحياناً إلى حد الزعم بأن مصر العربية الإسلامية أو على الأقل مصر الحديثة منبتة الصلة بما قبلها..".
يكفي أن نذكر أن الفترة من ميلاد المسيح حتى الآن ليست أكثر من نصف الفترة من تاريخ مصر منذ نشأة الحضارة المصرية حتى ميلاد المسيح، وبعد ذلك واصلت مصر ـ حاملة اسمها نفسه في كل اللغات القديمة والحديثة ـ تاريخها كجزء لا يتجزأ من تاريخ العالم من ميلاد المسيح إلى الآن
وهذا الخلاف يرجع في رأي المؤلف إلى ثلاثة أسباب، أولها: طول التاريخ المصري وتنوعه الشديد وتوزعه بين ثلاث أو أربع حضارات مستقلة هي الفرعونية والهلينية والبيزنطية والإسلامية بحيث أصبحت لا تربطه في الظاهر وحدة واحدة.. وسبب آخر: هو تصور وجود تعارض بين القومية والتاريخ.. فقد تنازعت مصر في مطلع نهضتها الحديثة ثلاثة اتجاهات قومية لم تستطع للأسف أن تتعايش فيما بينها.. هي: "الاتجاه الإسلامي" الذي يجعل العقيدة الدينية محور التوجيه السياسي، و"الاتجاه الفرعوني" الذي يرى أن مصر تختلف بحكم أصلها وظروفها عما يجاورها من الشعوب العربية والإسلامية، و"الاتجاه العروبي" الذي يركز على أن مصر جزء لا يتجزأ من الوطن العربي.. وسوف نعود لاحقاً إلى وقفة المؤلف إزاء الاتجاهات الثلاثة ومدى تأثيرها في النظرة إلى التاريخ المصري.
السبب الآخر أو "الثالث": أن التاريخ المصري برغم ما كتب فيه من دراسات لا تحصى بمختلف اللغات لم يدرس بعد دراسة تحليلية تشريحية تنظر إليه ككل، وتحاول أن تبحث في أغواره عن خيط عام يربط بين مراحله وأجزائه، بل إن الدراسات التاريخية عن مصر هي في جملتها ـ وباستثناءات قليلة للغاية ـ دراسات جزئية تركيبية تهتم بعصر واحد أو حقبة معينة وتغفل ما قبل وما بعد بدعوى التخصص الدراسي أو التباين الأساسي بين مراحل التاريخ.
وهنا يذكر المؤلف بحق، بتقدير واعتداد في محله:
"من هذه الاستثناءات القليلة الحديثة التي تخلصت من هذا الأسلوب: "تكوين مصر" لمحمد شفيق غربال، و"سندباد مصري" للدكتور حسين فوزي، و"شخصية مصر" للدكتور جمال حمدان، و"مصر ورسالتها" للدكتور حسين مؤنس، و"في أصول المسألة المصرية" لصبحي وحيدة".
والحق أيضاً أنه يأتي كتاب الباحث المفكر المؤرخ محمد العزب موسى "وحدة تاريخ مصر"، ليضاف إلى هذه (الكتب ـ المراجع ـ الاستثناءات) وليأخذ مكانه ودوره المضيء بينها، متميزاً ببساطة وسلاسة أسلوب وتناول، مع تعمق وشمول رؤية، وتدقيق بالغ، إنه أسلوب وتعبير يجمع بين العلمية واللمسة الأدبية المحببة، بين الموضوعية والرصانة والجمال، ويجذب القارئ من البداية إلى خاتمة الفصول.
ـ 2 ـ
نعود إلى وقفة ونظرة المؤلف إزاء الاتجاهات الأساسية الثلاثة، "التي تنازعت مصر في مطلع نهضتها الحديثة": (الإسلامي ـ الفرعوني ـ العربي).
ومما يؤكده هنا:
ـ "ليس هناك تعارض بين الذاتية المصرية، والعقيدة الإسلامية، والقومية العربية، إنما ينشأ التعارض عند محاولة وضع إحدى هذه المقولات في غير وضعها الصحيح. إن القول بوجود شخصية مصرية متميزة نتيجة لتطور تاريخي خاص لا يعني التنكر للعروبة.. "والإيمان بإسلامية مصر لا يتطلب بتر تاريخها فيما قبل عام 640 ميلادية..".
ـ "وعلى ذلك أرى أن هناك ثلاثة ألوان من التعصب ينبغي رفضها: التعصب للإقليمية المحلية على أساس التميز التاريخي والعرقي للمصريين، والتعصب للمشاعر الدينية الذي يلغي التاريخ والقومية معاً، والتعصب للفكرة العربية إذا أنكر الشخصية المصرية وجردها من سماتها التاريخية والحضارية الخاصة. ولقد حان الوقت للقضاء على تلك الهوة المصطنعة بين تاريخ مصر وعقيدتها وقوميتها، وإزالة ما بين هذه الحقائق الثلاث من حساسية وهمية مرجعها الجهل أو التعصب، فالتاريخ المصري دوحة هائلة متماسكة الحلقات تضرب بجذورها في أعماق الزمن، وهي إذ تنتج الآن ثمرة القومية العربية فما هذه الثمرة سوى النتاج الطبيعي لتلك الدوحة.. "ولقد أخذت تتبلور بالفعل النظرة السليمة للتاريخ المصري والشخصية المصرية..".
وهنا يذكر الأستاذ محمد العزب موسى أقوالاً لقائد الثورة المصرية العربية جمال عبد الناصر فيقول:
"في الحديث الذي أدلى به الزعيم جمال عبد الناصر إلى الصحفي الأمريكي جيمس روستون، رئيس تحرير صحيفة نيويورك تايمز في 13/2/1970 قال رداً على أحد الأسئلة: "إن شعبنا هنا له في الحقيقة خبراته، لدينا حضارتنا، الحضارة المصرية القديمة التي استطاعت أن تواجه العديد من الغزاة... إن هذا الشعب شعب عريق، وشعب عظيم، ومهما كانت الصعاب التي يواجهها فإنه يواجهها بإصرار".
وأجاب عن سؤال آخر حول سبب الهدوء الذي يواجه به الشعب المصري غارات الطائرات الإسرائيلية على حافة القاهرة قائلاً: "إنه يعود إلى تاريخ هذا الشعب.. ففي كل رجل من الرجال هنا شيء يترسب في أعماقه من التجربة الطويلة لأجداده عبر أجيال تاريخية ممتدة"...
وأجاب الزعيم عن سؤال آخر حول ما إذا كان هناك ازدياد في الشعور بالوطنية المصرية قائلاً: "قبل سنة 1967 كان الشعور الأكثر ظهوراً هو الشعور بالقومية العربية، وبعد سنة 1967 ظهر أيضاً الشعور بالوطنية المصرية إلى جانب الشعور بالقومية العربية، وأظنك تعرف أنهم عرضوا علينا صيغاً تنص على الانسحاب من سيناء وحدها، ولم يوافق أحد على ذلك، وهذا هو الشعور بالقومية العربية، والحقيقة أنه ليس هناك تناقض بين الشعور بالوطنية المصرية والقومية العربية".
وعقب مؤلف "وحدة تاريخ مصر":
"إنها نظرة لا تبتر الماضي ولا تعتبره في نفس الوقت عبئاً على الحاضر أو قيداً جامداً عليه، إنها تركز على الحاضر، ولكنها تتسع للماضي وتبحث فيه عن جذور الحاضر والمستقبل. إنها صيغة خلاصتها وحدة واستمرارية التاريخ المصري مع الإقرار بعدم جموده أو ركوده، فهي إذ تقول بأن جذور مصر الحديثة تمتد في أعماق مصر القديمة، فإن مصر الحديثة ليست مومياء تخلفت عن مصر القديمة، وهي إذ تزعم أن الشعب المصري أكثر شعوب العالم عراقة، إلا أنه في نفس الوقت من أكثرها تجدداً ومرونة، فقد جدد دماءه وأفكاره أكثر من مرة عبر التاريخ، وكان يتمتع دائماً بقدرة مذهلة على تمصير الواردين، وطبعهم بطابعه، فلا تناقض بين الأصالة والتجدد، بل أن أصالة مصر وقدمها هما أساس وخلفية تجددها وتطورها.. "استمرارية الشعب المصري ديناميكية وليست استاتيكية، فليس صحيحاً أن الإنسان المصري لم يغير سوى ثيابه أو جلده الخارجي مع تغير العصور، بل أنه في الحقيقة تطور في أعماقه وأصبح حاصل ضرب لا حاصل جمع مختلف الحضارات التي عاشها وتمرس بها..".
ـ 3 ـ
إن كتاب "وحدة تاريخ مصر"، كما يذهب مؤلفه بحق: "محاولة للبحث عن خيط عام يربط بين مراحل التاريخ المصري، ويبرهن على أنه تاريخ شعب واحد لا شعوب متعددة..".
وهكذا بادر الكتاب بأن صحب القارئ في جولة في أعماق التاريخ المصري.. ".. حتى تحضر إلى الذهن صورة ذلك التاريخ المفرط في الطول، بالغ العمق، الذي يقترن في الواقع بطول التاريخ العالمي، بل أنه ظل لردح طويل جداً من الزمن الفصل الوحيد أو الأكثر اهمية في التاريخ العالمي، ويكفي أن نذكر أن الفترة من ميلاد المسيح حتى الآن ليست أكثر من نصف الفترة من تاريخ مصر منذ نشأة الحضارة المصرية حتى ميلاد المسيح، وبعد ذلك واصلت مصر ـ حاملة اسمها نفسه في كل اللغات القديمة والحديثة ـ تاريخها كجزء لا يتجزأ من تاريخ العالم من ميلاد المسيح إلى الآن". ثم؟. بحق: "إن لم شمل تاريخنا والإحساس به يشعرنا بعمقنا التاريخي وأصالتنا الحضارية. وهو بالغ الفائدة في حد ذاته، علاوة على أنه حقيقة علمية واقعة".
أيضاً، فكما يقول المؤلف، في مستهل المبحث المعنون: "أسباب الانقطاع النفسي":
"إن هذا التاريخ العريق الموغل في القدم لمليء بالتطورات الكبيرة والأحداث الجسام بأكثر مما يمتلئ به تاريخ أية أمة أخرى، ولقد ساعد على ذلك أن مصر لم تكن في وقت من الأوقات منعزلة عن العالم الخارجي، بل كانت دائماً في مفرق الحضارات ومهب التيارات، مؤثرة ومتأثرة، ولا يكاد يكون هناك أي حدث تاريخي كبير، لم يكن له أثر من قريب أو بعيد في حياة المصريين، لذلك من الطبيعي أن يذخر التاريخ المصري بالتلون والتنوع والاختلاف".
ليس هناك تعارض بين الذاتية المصرية، والعقيدة الإسلامية، والقومية العربية، إنما ينشأ التعارض عند محاولة وضع إحدى هذه المقولات في غير وضعها الصحيح. إن القول بوجود شخصية مصرية متميزة نتيجة لتطور تاريخي خاص لا يعني التنكر للعروبة.. "والإيمان بإسلامية مصر لا يتطلب بتر تاريخها فيما قبل عام 640 ميلادية..
"ولما تعاقبت على مصر الدول الحاكمة، تعاقبت عليها كذلك الحضارات المتباينة، فقد تحولت من الفرعونية إلى الهيللينية إلى المسيحية إلى الإسلامية إلى الغربية الحديثة، وغير المصريون خلال هذه المراحل زيهم ثلاث مرات، ولغتهم مرتين، وانساحت في عروقهم كميات كبيرة من الدماء الجديدة. ولاشك أن هذه التطورات التاريخية والحضارية كان لها في حد ذاتها أثر كبير في تفتيت وحدة التاريخ المصري من الناحية الظاهرية على الأقل، غير أن الأخطر في هذا الصدد ذلك الانقطاع النفسي الذي حدث بين المصريين وتاريخهم نتيجة لعدة عوامل..". حددها المؤلف بأنها: (انهيار الحضارة الفرعونية ـ والصراع بين المسيحية والوثنية ـ وموجات العالمية ـ وظاهرة التعريب ـ ثم عصور الانحطاط).
وقد تناول الكتاب بعدها، بتفصيل، كلا من هذه الأسباب أو العوامل المحددة، برؤية موضوعية، ثاقبة مدققة.