قضايا وآراء

مقاومة التطبيع مؤشر استعادة حرية فلسطين وكرامة العربي

نزار السهلي
1300x600
1300x600
لا يمكن هدم الذاكرة الوطنية عند أي شعب بحضور عبارات التزوير، سياسية كانت أم ثقافية، فنية أو أدبية، ومهما كان نوعها، لتحجب حقائق متعددة..

أولى هذه الحقائق ما يتعلق بالاستعمار والاستبداد وانتهاك الكرامة الإنسانية للبشر. فقد ضرب العالم العربي في أزمنة متلاحقة، وما زال يضربه حتى اليوم، مستعمرٌ محتل وطاغية مقيم، لم يجلب الارتباط العضوي بينهما إلا تدميرا نعايشه يوماً وراء يوم، مع تزايد العنصرية والنزعات الفاشية لتحقيق مبادئ السيطرة والإخضاع والتهرب من استحقاقات التاريخ، باعتماد نشر ثقافة تروج لأبدية وقدرية مشتركة بين المستعمر والطاغية لهزم روح التمرد عند الإنسان والنيل من مطالبه في الاستقلال والحرية والديمقراطية.

مدخل هدم الذاكرة الوطنية اعتمدته أنظمة وقوى وأحزاب، ومرجعيات كبرى في النظام العالمي، للانتقال من ثقافة وطنية عربية جامعة لمكوناتها في أكثر من مضمار، إلى ما هو أبعد من ترويج شعارات زائفة فيها وحولها. فإذا كانت الثقافة الوطنية نظرياً تدافع عن قيم الأمة لحماية ذاكرتها من السطو والتشوية والتزوير، فإنه يمكن للمثقف أن يكون نقيضاً لصورته ومهمته المفترضة بحمل معول هدم الذاكرة العربية. ونرى كتابات عربية كثيرة وبرامج ومسلسلات وأفلام عهدت لنفسها بوأد ذاكرة عربية وتزويرها، كما لو أن هذه الذاكرة لم تعرف استعمارا أو احتلالا ولم تقاتل جيوش المحتلين والمستوطنين، ولا تدافع صباح مساء عن مقدساتها وتراثها وتاريخها وحضارتها، ولم تقاوم جلاوزة الطغاة.

تُزامل هذه الثقافة منطق المستعمر المحتل وسوق السلطة الحاكمة، ويتماهى زيفها مع أساطير المستعمرين في فلسطين، والتي تصفق وتروج لها أنظمة لا تنتمي لوعي الذاكرة الجمعية لشعوب عانت ولم تزل تعاني من آثار الاحتلال والاستبداد، مع اختيار صفة لا موضوعية ومليئة بالاتهام والأكاذيب والتزوير، للتنديد بثقل قضية عربية وإنسانية، سواء كانت في فلسطين أو اليمن وليبيا ومصر والعراق والسعودية والمغرب وتونس أو أي منطقة. فيجري تعميم ثقافة التقوقع والنجاة بجلد الطاغية، والتي لا تقبل الاختلاف في حقلها الذاتي قبل الاختلاف خارجها.

وفي الحالات جميعاً، ما يجري في سوق انحدار ثقافة الترويج للمستعمر لكسب رضاه في معسكر الاستبداد العربي؛ لا ينجح دوماً في تغيير قواعد الذاكرة الوطنية للشارع العربي من المحيط للخليج، بل ينعش سوق الردح والتفاهة.

ثقافة تسويق الطاغية للمحتل وبالعكس، لا تضفي شرعية للأول والثاني، بل تحمل مسرة في نفسية المستعمر الذي فشل ويفشل في ترسيخ وجوده الاستعماري فوق أرض فلسطين.. قرن من الصراع مع المشروع الصهيوني، ولم تكن القضية تهم فلسطين والفلسطينيين وحدهم ليتم التخلي عنها. ولارتباط القضية بشرط تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة في عمقها العربي، فهي لم تكن قضية الطغاة والمستبدين أبداً، بل كانت عرضة للتآمر، وشكلت صداعا مزمنا اكتسح عجز الاستبداد العربي ووهن السلطة الحاكمة.

واللوحة السوداوية التي يحاول البعض فرضها على الواقع العربي، كانت عرضة للتبدل في الاتجاه الإيجابي المعاكس عندما توفرت إرادة عربية انتفضت على الطغاة، بعد التأكد من الأضرار البالغة التي لحقت بالعالم العربي من جراء السياسات القمعية السياسية والاقتصادية والتنموية تحت شعار دعم فلسطين والفلسطينيين.

وتحت نفس الشعار المليء بمغالطات إرهاق النظام العربي لنفسه، جراء تحمله كذبا وزر القضية، تتم محاولات التطبيع الرسمية لإخراجها من السر للعلن، مع أن حدود الأطماع الاستعمارية للحركة الصهيونية لا تنحصر في جغرافيا فلسطين بالعمل لإبقاء حالة التفكك العربي، خصوصاً مع تحول بعض الدول النفطية من حالة البحبوحة الى القروض الخارجية وتورطها في أزماتها وغرقها في فضائح علاقتها مع المحتل، وإسناد بعضها البعض بالثورات المضادة، والاستنزاف بصفقات السلاح المشبوهة، وافتعال الحروب الأهلية وتفكيك البنى الاجتماعية وضربها بالأزمات المغلوطة والنزعات التسلطية لأنظمة الاستبداد العربي.. كل هذا يعيد المرء لقراءة المشهد منذ بداية تشكيل المشروع الصهيوني والبحث عن الأدوات المتعرية أصلاً في إسناده.

إشادة بعض أبواق أجهزة الإعلام العربي بغولدا مائير "القوية" المنتمية للحركة الصهيونية الرائعة، وتصويرها حمامة سلام، والدعوة لحرق وقتل الفلسطينيين، وتشويه صورة اصحاب الأرض.. كانت سياسة صهيونية لا عربية، قاومها وفضحها الفلسطينيون والعرب منذ قرن في المحافل الدولية. وتوجت بوضع رموزهم كمجرمي حرب في المحاكم الدولية.

خذلان النظام العربي الرسمي لقضية فلسطين مستمر منذ النكبة، لا يعني سقوطها من وجدان وضمير الشعب العربي، ولا من الضمير العالمي، رغم التراجع الواضح الذي تحاول المؤسسة الصهيونية مع مؤسسة الاستبداد العربي تجييره لصالح فرض الوهن والتسليم بالأمر الواقع الذي يقاومه أصحاب الأرض، ويقاومه كل عربي حر وشريف.

وغني عن التأكيد أن القرن الحادي والعشرين امتلأ في عقده الأول بانتفاضات وثورات جماهيرية تشير لرفض الشارع العربي تطبيع العقل مع الاستبداد الخاضع للاحتلال وحركته الاستعمارية، وإن لم تُعط حركة الشارع النتائج المرجوة في استعادة الكرامة والمواطنة والحرية، فذلك لا يعني الفشل النهائي لنهج الثورة ونهج مقاومة المحتل، لكنها بالضرورة تؤشر للأسلوب الناجح نحو استعادة طريق حرية فلسطين وبقية المجتمعات العربية.

twitter.com/nizar_sahli
التعليقات (0)