قضايا وآراء

في الطريق إلى التطبيع

عبد الله الأسمر
1300x600
1300x600

بدايةً، من الأفضل استخدام المصطلح الذي اقترحه الرئيس التونسي قيس سعيّد في وصف التعامل مع "إسرائيل" كونه خيانةً وليس تطبيعا، أي بجعل الشيء طبيعيا. ومع ذلك سيستخدم مصطلح "التطبيع" هنا مجازا، لأن خوض نقاش إصطلاحي الآن قد لا يكون مفيدا.


لم تكن عملية التطبيع مع "إسرائيل" يوما ما تطورا طبيعيا أو تسلسلا منطقيا للأحداث. وغالبا ما تكون موجات التطبيع بكافة أشكاله أشبه بعمليات هندسة الجراثيم في المختبرات البيولوجية. فهي عملية مصطنعة وموجهة يقوم على هندستها منظومات احترفت تزوير الوعي والعبث به.

 

ومن الواضح أن لمنظومة "إسرائيل" نفسها الدور الأكبر في وضع أسس هذه الحملات التطبيعية. ومن الواضح أيضا أن حملات الترويج للتطبيع الإعلامية والثقافية هي نتاج تطبيع فعلي وتعاون لم يعد خافيا بين تلك الدول التي تدعم حملات التطبيع هذه و"إسرائيل".


ورغم انتفاء حظوظ كل أطروحات التسوية السلمية العربية من اتفاق أوسلو إلى المبادرة العربية "المعدلة" وما بينهما في ظل الغطرسة الصهيونية المدعومة أمريكيا، إلا أن التطبيع الرسمي العربي مع "إسرائيل" في تنامٍ غير مسبوق وهو السياق غير المنفصل عما يسمى صفقة القرن.

 

لكن هذه الجرأة والتدافع غير المسبوق في موجة التطبيع الحالية والمقرون بترويج إعلامي ودرامي قد سبقتها عمليات من التزييف والتجريف للوعي العربي والإسلامي حتى تجد فكرة التطبيع السرطانية مكانا مناسبا لها.

 

فقد سبق ذلك العمل على نحت جملة من المفاهيم والأفكار المشوهة والمرتبطة بالصراع مع "إسرائيل" بطريقة ممنهجة ومنظمة سعيا لتأطير عقل المواطن العربي وتغيير ثوابته الفكرية والتاريخية والدينية تجاه الصراع مع "إسرائيل".


ومن هذه المفاهيم، محاولة تفكيك القضية الفلسطينية وعزل عناصرها الرئيسة بعضها عن بعض.

 

فحقيقة القضية الفلسطينية أنها تواجه مشروعا استعماريا غربيا أنشأ على أرض عربية. وهي في الوقت ذاته قضية إحلال مجاميع سكانية مكان الشعب الفلسطيني صاحب هذه الأرض. وهي أيضا احتلال لمقدسات تخص المسلمين جميعا والعمل على تهويدها وتغيير هويتها.

 

هذا المفهوم الصلب والترابط المصيري بين هذه العناصر التي تشكل مصدر قوة ذاتية للقضية الفلسطينية، عملت منظومات سياسية وإعلامية عربية وصهيونية على استهدافه وتفكيكه وطرح قضايا تهدف لعزل هذه العناصر عن بعضها البعض.

 

فعلى سبيل المثال، تطرح بين الوقت والآخر قضية زيارة المسجد الأقصى للمسلمين في ظل الوضع الراهن له تحت الاحتلال وفصل مفهوم كون المسجد الأقصى وكل فلسطين محتلة وأن مظلمة شعب بأكمله مرتبطة بوجود هذا الاحتلال الذي يسمح أو لا يسمح للمسلم بزيارة الأقصى وأن كياناً استعمارياً توسعياً ما زال يقوم بدوره بتفتيت الأمة العربية والإسلامية ومنع نهضتها.

 

فعزل القضية عن بعدها المتعلق بالمقدسات الإسلامية يهدف لعزل المسلمين عن مجمل القضية الكلية وتشويه حقيقة الصراع في أذهانهم واختصارها في قضية الصلاة في المسجد الأقصى.


ومن المفاهيم التي مهدت الطريق للجرأة غير المسبوقة في موجات التطبيع على المستوى السياسي والإعلامي العربي والإسلامي، التقليل من جدوى المقاومة والإعلاء من شأن قوة "إسرائيل" وأن زوال "إسرائيل" ينتمي لعالم المستحيلات وهي التعبيرات التي بتنا نسمعها مراراً في الدراما العربية الممولة رسمياً.

 

وللأسف الشديد، فإن مصطلحات على غرار "المقاومة العبثية" و"الصواريخ الكارتونية" التي روجت لها أطراف فلسطينية وعربية لم تكن مجرد أوصاف عابرة وإنما كانت تقوم بدورها التأصيلي في الذهن العربي لتبرير الصورة البائسة للتطبيع الرسمي السياسي والإعلامي. فاستهداف الروح المعنوية للجمهور العربي يسهل على مروجي التطبيع مهمتهم ويجدوا لهم منفذا في حالة الوهن المصطنع هذه.


وعلى هذا المنوال، ظهرت منذ سنوات وبشكل متكرر وممنهج عبارات لا تكاد تغيب عن ألسنة بعض الإعلاميين والسياسيين وغيرهم على غرار "إيران أخطر من إسرائيل" و"إسرائيل أرحم من النظام كذا وكذا" و"الفرس أكثر عداوة من اليهود" وغيرها من نفس الفصيلة والتي مهدت في الذهن العربي لفكرة أن "إسرائيل" دولة كغيرها من الدول بل وعند مقارنتها بغيرها قد تكون أفضل.

 

حيث تهدف هذه المقارنات للقفز في النقاش حول "إسرائيل" للأمام وتجاوز الحقيقة الأولى والمتعلقة بشرعية "إسرائيل" وخطرها الاستراتيجي على كامل المنطقة. وتجلى ذلك باستمرار استضافة متحدثين باسم الاحتلال الإسرائيلي على شاشات عربية وفتح مجال للاحتلال لبث روايته في بيوت العرب وعلى مسمع أطفالهم. هذا التجاوز للنقاش حول شرعية المحتل مقصود ويرمي لتقبل فكرة وجود إسرائيل دون الدخول في نقاش حولها وإنما بطرح بدائل لحالة الصراع معها.

 

وتغذت هذه الفكرة على التحريض الطائفي المنظم الذي مارسه "إعلام التطبيع" ذاته. وهذه الفكرة بالتحديد قد فعلت فعلها في حرف بوصلة العداوة لإسرائيل وعززت منطق الاقتتال الداخلي في المنطقة والذي صب في نهاية المطاف في صالح "إسرائيل" التي تنظر من حولها لمنطقة مهترئة غارقة في دمائها.

 

ومن هذه الأفكار أيضاً ما يتعلق بالحقائق التاريخية. ورغم أن ما يردد لا يمت للحقيقة بصلة ويرفضه المنطق قبل الحقائق التاريخية إلا أن تكرارها على مسامع المواطن العربي حجز لها مكاناً في الذهن العربي. ومنها أكذوبة أن "الفلسطيني قد باع أرضه" أو أن "المسجد الأقصى موجود في الطائف" وغيرها مما يردد في إعلام دول التطبيع العربي.

 

وتعمل مثل هذه الأفكار على ضرب الثقة بكامل القضية الفلسطينية وأسس الصراع مع "إسرائيل" وجعل أكثر معالم هذا الصراع وضوحاً محل شك وفقدان للثقة. كما يعمل بث مثل هذه الأفكار من قبل منصات وشخصيات عربية على نقل حمى النقاش ليصبح نقاشاً داخلياً يشتت الجهد المبذول في مواجهة السردية العدوانية للاحتلال.

 

وفي هذا الصدد، لا يمكن أن ننكر الضرر البالغ الذي ألحقه مسار التسوية وخصوصاً اتفاق أوسلو في حالة المناعة العربية والإسلامية في وجه التطبيع. لكن في هذا أيضاً محاولات للنظر بعين واحدة للمشهد الفلسطيني. فقد تزامن بشكل لا يمكن تجاهله انطلاق مساري التفاوض مع "إسرائيل" الذي سارت به منظمة التحرير الفلسطينية ونشوء حالة مقاومة جديدة في الشعب الفلسطيني تشتبك مباشرة مع الاحتلال وتجلت في الانتفاضتين الأولى والثانية.

 

ورافق ذلك أيضاً صعود حركات مقاومة جديدة في المشهد الفلسطيني رفضت مسار أوسلو واستطاعت عبر سنوات من مقارعة الاحتلال أن تحتل مكانة في الصراع مع العدو لا يمكن تجاهلها ومكانة في المشهد الفلسطيني السياسي بطبيعة الحال.

 

فالسردية القائلة إن الفلسطينيين قد ذهبوا "للسلام مع إسرائيل" فهذا يبرر لباقي الدول السير نحو التطبيع سردية منتقاة ولا تعبر عن كامل المشهد وهي نظرة قاصرة لطبيعة المشروع الصهيوني في المنطقة ولمنطق وجوده. والحقيقة اليوم واضحة أشد وضوح، فمسار التسوية وكل تبعاته ذهب أدراج الرياح ولم يبق منه إلا ما يخدم أمن الاحتلال ويفصل ما بينه وبين غضب الشعب الفلسطيني ومقاومته. وفي نفس الوقت، صمدت مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال ولكل محاولات طمس قضيته.


بلا شك أن التساهل مع تمرير هذه المفاهيم وعدم التصدي لها بقوة حينها قد جعل المواجهة مع هجمات التطبيع الرسمي العربي أكثر صعوبة. وعلى الرغم من الضرر الذي استطاعت أن تلحقه هذه المفاهيم في الوعي العربي والإسلامي إلا أنها تبقى استثناءً وتراهن على التمادي في ظل حالة الضعف التي تنتاب الجسد العربي وتحتاج لجهود منظمة ومستمرة لمقاومتها ومنع تسللها للوعي الجمعي للشعوب العربية والإسلامية.


فكما أن حملات مواجهة أشكال التطبيع مهمة ولا بديل عنها ويجب أن تكون مبدئية لا تجامل أحداً ولا تبرر لأحد مهما كانت مواقفه من الصراع، فإن جهداً لا يقل أهمية يجب أن ينصب على تفكيك الأسس الزائفة التي مهدت للترويج لهجمات التطبيع الممولة رسمياً.

 

فقد أثبتت التجربة أن معركة الوعي والمحافظة على حقائق التاريخ معركة لا تقل أهمية عن معارك الميدان بل هي تؤسس لها وتحميها في نفس الوقت.

التعليقات (0)