مقابلات

وزير صحة تونس في حوار مع "عربي21": كورونا قد يمثل فرصة

عبد اللطيف المكي: كورونا فرصة لإصلاح البلاد والأحزاب و"النهضة"- موقع وزارة الصحة
عبد اللطيف المكي: كورونا فرصة لإصلاح البلاد والأحزاب و"النهضة"- موقع وزارة الصحة

صنفت مؤسسات استطلاع الرأي التونسية الطبيب والسياسي التونسي عبد اللطيف المكي الشخصية "الأكثر شعبية" في البلاد بعد الرئيس قيس سعيد، وأوردت أن 51 بالمائة يثقون فيه.  

وأصبح المكي يوصف في وسائل الإعلام ومن قبل نشطاء المواقع الاجتماعية بـ"الجنرال قائد الجيش الأبيض"، بفضل دوره على رأس وزارة الصحة في تنفيذ إستراتيجية الحرب على وباء كورونا في بلد تشكو منظومته الصحية العمومية من نقائص بالجملة.


وقد عين المكي، القيادي في حركة النهضة، في شهر شباط (فبراير) الماضي وزيرا في حكومة إلياس الفخفاخ الذي كان زميلا له في حكومة "الترويكا" ما بين 2011 و2014 وكانت ائتلافا بين شخصيات علمانية يسارية وقومية وأخرى من حزب النهضة الإسلامي.
 
وكان عبد اللطيف المكي من بين الزعامات التاريخية للحركة الطلابية النقابية والسياسية قبل 40 عاما مما كلفه 10 أعوام سجنا. وتولى بعد ثورة 2011 مسؤوليات وطنية وحزبية كثيرة عديدة من بينها رئاسة مؤتمر "النهضة" الوطني في 2012. كما ترأس المكي لجنة الأمن والدفاع في البرلمان ما بين 2015 و2019.

يؤهل البعض المكي للعب دور سياسي وطني أكبر فيما ينتقد خصومه تمسكه بالانتماء إلى "الاتجاه الإسلامي" التونسي الذي أورد في تصريحاته مرارا أنه يختلف عن "جماعات الإسلام السياسي" وعن مدارس الإخوان المسلمين.


الإعلامي التونسي كمال بن يونس التقى المكي واستشرف معه، في حديث خاص بـ "عربي21"، رؤيته لمستقبل حركة "النهضة" والدول العربية والإسلامية والعالم بعد أزمة كورونا، وناقش معه سيناريوهات التوافق والصدام داخل النخب وصناع القرار في الدول العربية والإسلامية في مرحلة تعاقبت فيها التحذيرات من أن تتسبب الأزمة الاقتصادية الاجتماعية العالمية الجديدة في انتصار الاستبداد والأولويات الأمنية وتيارات الغلو والتطرف على حساب "الوسطيين" ودعاة المراجعات الفكرية والحوار.

 



س ـ أستاذ عبد اللطيف المكي برزت خلال الأزمة العالمية الحالية، التي تسببت فيها كورونا، أساسا بصفتك شخصية وطنية ومسؤولا في حكومة إلياس الفخفاخ التي رفعت شعار إعادة الاعتبار لدور الدولة في قطاعات الصحة والتربية والتعليم والبحث العلمي والخدمات العمومية.. هل ترجح أن تخرج تونس منتصرة من هذه الأزمة بمختلف أبعادها؟ أم سيحصل العكس وتغرق في مستنقع أزمة شاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية؟


 ـ يمكن أن نكون متفائلين.. وأزمة "كورونا" يمكن أن تكون فرصة وطنيا ودوليا.. صحيح أنها أحدثت "صدمة" يمكن أن تتسبب في أزمات متعددة الأوجه وطنيا وعربيا ودوليا، لكنها يمكن أن تكون كذلك فرصة ثمينة بالنسبة لتونس دولة وشعبا وللعالم أجمع..

لكن الدول والأطراف التي لم تتغير من تلقاء نفسها ولم تصلح أوضاعها في ظروف عادية قد تقدم على إصلاحات عميقة بسبب "الصدمة".. وأزمة كورونا صدمت الرأي العام والسياسيين في العالم أجمع.. 
اكتشف العالم بالمناسبة ثغرات النظامين الإقليمي والدولي وغياب التوازن وتراكم نقائص السياسات السابقة في قطاعات إستراتيجية مثل الصحة والتعليم والبحث العلمي..

فضحت "كورونا" محدودية سياسات الاستقطاب وتهميش القطاع العام وإسناد رواتب هزيلة للأطباء والطاقم شبه الطبي في المستشفيات العمومية، مما تسبب في فرار كثير منهم للقطاع الخاص وللخارج.. كما أدرك العالم أن الأولويات القديمة في قطاعات الأمن والدفاع والتنمية والإنفاق العمومي لم تكن بالضرورة في محلها، والدليل أن الأزمة كانت أساسا بسبب "فيروس صغير جدا" تسبب في كوارث إنسانية واقتصادية في كامل الكرة الأرضية.. واتضح أنه لا توجد دولة عظمى واحدة استعدت فعلا لمواجهته.. فكانت الحصيلة ملايين المصابين ومئات الآلاف من الوفيات وخسائر بمليارات المليارات وفرض حجر صحي عام غير مسبوق..

لذلك يمكن أن تتسبب "صدمة كورونا" في إصلاحات عميقة للمنظومات السياسية والطبية وطنيا وعالميا.. كتغيير كثير من السياسات إيجابا وإعادة الاعتبار لأولويات التنمية البشرية والصحة العمومية والتأمينات الاجتماعية والتربية والتعليم والبحث العلمي، على حساب نفقات وأولويات أخرى من بينها التسلح.. كما يمكن أن تؤدي "صدمة كورونا" إلى وقف سياسات تجفيف منابع تمويل القطاع العام لاسيما في مجالي الصحة والتعليم..

وفي تونس أعتقد أن تجاوب الشعب والمجتمع المدني مع خطة الحكومة ومع طاقم وزارة الصحة، وبينها التزام الحجر الشامل، مكننا من أن ننجح في محاصرة الوباء والتحكم في الخسائر البشرية بعد أن كانت التقديرات تتحدث عن عشرات الآلاف من المصابين والوفيات.. والتحدي الكبير هو توظيف هذه "الصدمة" لإصلاح غلطات وتدارك نقائص موروثة عن الـ 30 عاما الماضية في قطاع الصحة العمومية..

المخدرات والأمراض النفسية 

س ـ هل يمكن توظيف التجهيزات والموارد المالية التي رصدت بمناسبة "كورونا" لفائدة المستشفيات العمومية وتبرعات المواطنين من أجل إصلاح شامل لقطاع الصحة العمومية، بما في ذلك إحداث مؤسسات مختصة في الأعصاب والأمراض النفسية وأخرى لعلاج مئات الآلاف من ضحايا الإدمان على المخدرات والمؤثرات العقلية؟


  ـ فعلا يعاني قطاع الصحة العمومية من نقائص بالجملة بما في ذلك غياب مستشفيات متطورة للأعصاب وللصحة النفسية ومراكز لعلاج ضحايا الإدمان على المخدرات وغيرها من المؤثرات العقلية التي انتشرت عالميا ووطنيا..

تشكو مؤسساتنا من نقائص هيكلية.. قطاع الصحة وقع تجفيفه.. وهو يشبه البحيرة، التي وقع تحويل وجهة الأنهار التي كانت تغذيها فأصبحت بركة معزولة..


بالرغم عن ذلك فإن الإنقاذ ممكن جدا.. وأصبح ممكنا أكثر بعد "فرصة وباء كورونا" التي أقنعت الشعب والسياسيين بواجب دعم القطاع العام والمستشفيات العمومية ..لكن ذلك يستوجب توفير الفريق الصحي والطبي المختص.. لأن شراء التجهيزات والإنفاق على البنية الأساسية دون توظيف العدد الكافي من الأطباء والتقنيين والممرضين نوع من الفساد..

 



وقد قدمت وزارة الصحة اقتراحا للحكومة يهدف إلى استصدار قرار واضح يسمح بالتوظيف وتحسين أوضاع الطاقم الطبي وشبه الطبي لتجنب فراره إلى القطاع الخاص أو إلى الخارج.. مستشفياتنا ينقصها اليوم العدد الكافي من الأطباء والطاقم شبه الطبي في "الطب العام" و"الطب التقليدي" فما بالك في اختصاصات الأعصاب والأمراض النفسية ومكافحة المخدرات..

انتصار الاستبداد بعد كورونا 

س ـ عالميا.. كيف تستشرف التطورات بعد كورونا؟ هل يمكن أن تتسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في انتصار الأولويات الأمنية والاستبداد مجددا على دعاة الحريات وأنصار الخيار الديمقراطي؟ وهل سيكون النظام الإقليمي والدولي مقبلا على تغيرات؟


 ـ أزمة كورونا يمكن أن تكون فرصة بالنسبة للعالم رغم المخاطر.. يمكن أن تكون فرصة لتكريس التضامن الدولي بعد أن فضحت كورونا نقائص النظام الدولي الحالي.. في نفس الوقت فإن كورونا قد تتسب في مخاطر إذا ما استغلتها التيارات الشوفينية والوطنية المتطرفة والمنغلقة..

لكني أرجح السيناريو الأول.. أي أن يستفيد أغلب صناع القرار في العالم من الدروس التي فهموها بمناسبة وباء كورونا فيحولوا الأزمة إلى فرصة لإصلاح أوضاع الدول والشعوب التي تضررت من النظام العالم الحالي.. والذي كان من بين أسباب عجز عدة دول عن الحصول على مستلزمات طبية وصحية وأساسية للوقاية والعلاج..

المشهد السياسي القادم 

س ـ ننتقل الآن إلى أسئلة سياسية مباشرة.. ما هو حسب تقديركم مستقبل المشهد السياسي والاستقرار الحكومي في تونس، بعد كورونا، في وقت تتحدث فيه مصادر عديدة عن صراعات بين "الأجنحة" وعن هشاشة الإئتلاف الحكومي بسبب التركيبة الفسيفسائية التي أفرزتها انتخابات أكتوبر الماضي ولأن رئيسي الدولة والحكومة لا ينتميان إلى أي حزب؟


 ـ مرة أخرى أعتبر أن وباء "كورونا" يمكن أن يمثل فرصة لشحذ الهمم ودعم التناسق داخل المشهد الحالي وحول حكومتنا التي تتميز ببعدها الديمقراطي الاجتماعي وبنقاط الالتقاء الكثيرة بين رئيسها وأعضائها.

نحن لدينا حكومة أغلب أعضائها ينتمون إلى نفس الجيل تقريبا وينتمون إلى التيار الديمقراطي الاجتماعي المعتدل.. الوزراء وسطيون منفتحون ينبذون التطرف بأنواعه.

الدولة لديها مؤسسات تناقش داخلها المشاريع والمقترحات في سياق من الوضوح.. مثلا بالنسبة للحرب على كورونا نجحنا إلى حد كبير جدا بفضل التشاور والتكامل بين اللجنة الوطنية التي يرأسها رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ واللجنة العلمية التابعة لوزارة الصحة واللجنة التقديرية للجوانب الأمنية الموجودة في ثكنة الحرس الوطني في العوينة واللجنة المركزية للتنسيق بين الوزارات والقطاعات التي ترأسها وزيرة المشاريع الكبرى الأستاذة لبنى الجريبي.

حكومات ما بعد كورونا؟

س ـ لكن بعض المراقبين يعتبرون وجهة النطر أن وحدة العمل الحكومي في خطر بسبب النظام السياسي المعتمد منذ دستور يناير 2014 والذي كرس التجاذبات وتعدد الأقطاب داخل النظام السياسي؟ هل تحتاج البلاد بعد سنوات من الخلافات بين البرلمان وقصري السلطة التنفيذية في قرطاج والقصبة إلى تعديل الدستور ومراجعة القوانين المنظمة للحياة السياسية حتى يسهل عمل "حكومة ما بعد كورونا"؟


 ـ على مستوى الفريق الحكومي وكبار المسؤولين في الدولة بمؤسساتها التنفيذية والبرلمانية نسجل توافقا كبيرا وتنسيقا.. لكن هناك ثغرات ونقائص يجب تداركها في المرحلة القادمة..

 كان يجب أن ينص الدستور على كون رئيس الحكومة هو رئيس الحزب الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية أو رئيس حزب الكتلة البرلمانية الأولى مثلما هو معمول به في عدة دول بينها بريطانيا.. 

 



في نفس الوقت هناك ثغرات ونقائص في القانون الانتخابي يمكن تداركها في المرحلة القادمة لضمان ظروف أفضل لعمل الحكومة والبرلمان مثل المصادقة على "نظام العتبة"، الذي يحد من تشرذم المشهد داخل البرلمان، عبر الاتفاق على حد أدنى من الأصوات واشتراط الفوز بنسبة محددة من أصوات الناخبين لدخول مجلس النواب... قد تتراوح بين 3 و5 بالمائة..

كما يمكن تعديل القانون الانتخابي في اتجاه اعتماد المزج بين القوائم الجهوية والقائمة الوطنية، أي تقسيم أعضاء البرلمان بين نواب انتخبوا على مستوى الدوائر الانتخابية وآخرين في مستوى "قائمة وطنية" مثلما هو معمول به في عدد من الدول الديمقراطية العريقة.. 

إصلاح الأحزاب والمشهد السياسي 

س ـ عفوا.. لكن البعض يعتقد أن العلاقة بين الأطراف السياسية والأحزاب داخل الحكومة وخارجها قد تزداد توترا بعد كورونا خاصة إذا تعقدت الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية؟

 ـ العلاقات بين الأحزاب مرتبطة بالثقافة السياسية.. والسؤال الكبير اليوم وفي المرحلة القادمة هو: متى تنتهي ثقافة التناحر والصدام وتحل ثقافة التعاون والتدافع السلمي؟ 

يجب توفير ضمانات لتكريس الإصلاح داخل الأحزاب والمشهد السياسي. قانون الأحزاب مثلا ينبغي أن يتطور عبر فرض الحوكمة الرشيدة داخل الأحزاب وتوفير ضمانات للديمقراطية داخلها بما في ذلك عند اختيار المرشحين للانتخابات..

إصلاح المشهد السياسي يعني تكريس مراجعات الإصلاح داخل كل حركة سياسية بما يضمن استفادة البلاد بأفضل ما عند الأحزاب من طاقات وقدرات.. 

لكني مرة أخرى أؤكد أن أجواء العمل داخل الحكومة التونسية إيجابية جدا.. وتضمن قدرا كبيرا من التقارب الثقافي والانتماء إلى الوسط السياسي الديمقراطي الاجتماعي.

توسيع القاعدة السياسية

س ـ وما هو موقفكم من الدعوات إلى تغيير القاعدة السياسية لحكومة إلياس الفخفاخ؟ بعبارة أخرى هل تعتقدون أن هذه الحكومة يمكن أن تصمد بعد كورونا أم أنها في حاجة إلى تعديل لوضع حد لما يسمى بالتناقض الغريب الحالي بين الأغلبية الحكومية والأغلبية البرلمانية: في الأولى تتحالف حركة النهضة مع أحزاب وشخصيات "يسارية وقومية" وفي الثانية مع كتلتين برلمانيتين من "اليمين" هما حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة؟ 


 ـ يوجد حديث حول مستقبل الحكومة الحالية التي تشكلت قبل أسابيع فقط بعد أشهر طوال من المشاورات.. وأعتقد أن من مصلحة البلاد اليوم وبعد انتهاء أزمة كورونا إتاحة الفرصة لهذه الحكومة أن تستقر وتعمل وتطبق برنامجها الإصلاحي الذي أعلنت عنه بمناسبة نيل الثقة من البرلمان بما في ذلك إصلاح قطاع الصحة والإصلاح الاقتصادي ومحاربة التهريب والفساد..

هذه الحكومة ليست مهددة ولكن يمكن أن تعمل في ظروف أفضل، وأن ينتهي الحديث عن ثنائيات وعن أغلبية برلمانية معارضة للأغلبية الحكومية التي استلمت مهامها بعد أن نالت ثقة أغلب أعضاء البرلمان بأغلبية مريحة ثم صادق 178 عضوا من بين 217 على مشروع تقدمت به فوض لها صلاحيات واسعة بمناسبة الحرب على كورونا..

انفتاح على "اليمين السياسي"؟

س ـ بعض السياسيين دعوا إلى توسيع القاعدة السياسية للحكومة التونسية الحالية وإلى انفتاحها على "اليمين السياسي" وإدخال وزراء من قلب تونس وكتلة ائتلاف الكرامة (الإسلامية) إلى الفريق فتصبح مدعومة بحوالي 178 نائبا عوض 129، مثلما حصل عند التصويت على قانون الفصل 70 من الدستور الذي منح رئيس الحكومة صلاحيات أوسع في المرحلة الانتقالية؟


 ـ أسباب التنافس بين الأغلبية البرلمانية والحكومة.. يجب أن تنتهي.. هذه الثنائية وغيرها من الثنائيات لا تخدم الاستقرار السياسي في البلاد.. وإدخال نواب من حزب قلب تونس وأحزاب وكتل برلمانية أخرى غير مطروح حاليا.. لكن أن تعلن بعض الأحزاب أو الكتل البرلمانية دعمها للحكومة فهذا مرحب به.

عودة خطاب العنف والحقد 

س ـ خطاب الحقد والعنف يبرز مجددا في تونس وفي بقية الدول العربية والإسلامية، من المغرب وتونس وليبيا إلى اليمن ولبنان والخليج، لأن المسكوت عنه هو عدم اقتناع البعض بمزايا التعايش بين "الحداثيين الليبيراليين واليساريين" أو "العلمانيين" ومنافسيهم ذوي المرجعيات الفكرية العروبية الإسلامية.


برز هذا الخطاب خلال الحملة الانتخابية وبمناسبة إسقاط "المستقلين" بزعامة المهندس حكومة الحبيب الجملي مطلع شهر كانون ثاني (يناير) الماضي ثم بمناسبة تحركات رئيسة الحزب الدستوري الحر، القيادية في حزب بن علي قبل 2011، وأنصارها ضد قيادة حركة النهضة وحلفائها السياسيين الذين تصنفهم جميعا "إخوانا " و"إسلاما سياسيا" بمن فيهم الرئيس قيس سعيد والرئيس إلياس الفخفاخ؟


 ـ أعتقد أن كل خطابات الحقد والعنف السياسي تعطل السير العادي للحياة السياسية ولعمل مؤسسات الدولة ولمشاريع الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي التي شارك الشعب من أجلها في الانتخابات .. يمكن أن يصدر خطاب الحقد عن أطراف أضرت بالثورة وعملية الانتقال الديمقراطي بمصالحهم.. لكن يفترض أن لا يصدر مثل هذا الحقد عن سياسيين مدنيين وعن مناضلين حقوقيين ونشطاء سياسيين ليس لديهم مصالح أضرت بها الثورة..

النخب الثقافية والفكرية مطالبة بدفع ثقافة الحوار والتعاون.. وهذا واجب وطني.. وعلى الأحزاب أن تتحرر نهائيا من ثقافة الحقد ومنطق الإقصاء والإقصاء المضاد الذي لا مبرر له في مناخ ديمقراطي تعددي مثل المناخ التونسي..

إلا إذا اعتبر البعض أن عليه ضرب الديمقراطية وإقصاء الإسلاميين الديمقراطيين وإجهاض الإصلاحات التي تحققت بعد الثورة والانتخابات الديمقراطية التي شارك فيها الشعب بنسب عالية مترفعة..

الفهم القاصر لظاهرة الإرهاب  
 
س ـ لكن هل تحتمل البلاد مثلا عودة التصعيد بين الحكومة والنقابات أو تفجير صراعات جديدة بين حركة النهضة و"التيار الاستئصالي" بين أنصار الحزب الحاكم السابق في عهد بن علي وبعض العلمانيين واليساريين وبعض الإسلاميين "السلفيين" مثل ائتلاف الكرامة؟


 ـ التطرف موجود.. لكن على الوسطيين في كل المدارس الفكرية والسياسية لعب دور أكبر دعما لقيم الاعتدال وللشراكة على أسس صلبة خدمة للأولويات التنموية الاقتصادية والاجتماعية.. 

علينا أن لا نعتمد على فهم قاصر للظاهرة الإرهابية.. وأن نفهمها بوضوح وبكل مكوناتها.. الهدف ينبغي أن يكون الإصلاح والتغيير وليس توظيف فهم قاصر وانتقائي للإقصاء ضد طرف سياسي..

أثبتت مرحلة 2014 ـ 2019 أن كل التونسيين يمكن أن يعملوا معا خدمة للمصلحة الوطنية.. مطلوب اليوم تقييم التجارب السابقة وإعطاء الأولوية لمشاغل الشعب وللأولويات الوطنية وعلى رأسها التنمية وإصلاح قطاعات الصحة والتعليم والنقل والخدمات.. والمشاغل الاجتماعية..

المصالحة الوطنية الشاملة المؤجلة

س ـ البعض يعتبر أن من بين أسباب تعثر مسارات التغيير والإصلاح والتنمية والانتقال الديمقراطي في الدول العربية عموما بعد ثورات 2011 عدم تبني مسار واضح للإنصاف والمصالحة الوطنية الشاملة حتى يتفرغ الجميع للبناء عوض إهدار الطاقات والقدرات في معارك هامشية لتصفية الحسابات وفي "حروب استنزاف" وحروب أهلية باردة؟


 ـ المصالحة تحققت بموجب الثورة الشعبية وشملت كل التيارات الفكرية والسياسية.. وليست الأولوية اليوم إعادة إضاعة الوقت في جدل حول المصالحة وعدمها.. في المقابل فإن القضاء يتولى البت في ملفات القانونية المعروضة عليه.. خيارات التقارب والاختلاف والشراكة في عالم السياسة لا تكرس على أساس شعارات رومنسية بل على أساس برامج تنموية..

"النهضة" في مفترق طرق

س ـ وكيف تستشرف حزبك، حركة "النهضة"، بعد كورونا؟ البعض يتوقع أن تكون ومثيلاتها من الأحزاب عربيا من أكثر المتضررين في المرحلة القادمة التي قد يشدد فيها الخناق على ما يسمى بـ "الإسلام السياسي" وأنصار" الربيع العربي"؟


 ـ أولا لقد عارضت منذ أعوام مقولة "الإسلام السياسي" وأعتبر أن الإسلاميين في تونس وفي كثير من الدول مسلمون ديمقراطيون يمارسون حقهم الدستوري والقانوني في العمل السياسي..

وإذا كانت أزمة كورونا يمكن أن تتطور إلى فرصة كبيرة لإعادة البناء والتغيير عالميا وفي البلاد، فإني أعتقد أن حركة "النهضة" في وضع يسمح لها بأن تحول الأزمة إلى فرصة كبيرة للإصلاح داخلها وفي البلاد ككل وهذا يتطلب قدرا كبيرا من الحكمة والتفكير والجرأة.

شخصيا أنزه قيادات "النهضة" ومناضليها عن أن تغيب عنهم الحكمة وعليهم إذن عدم تفويت الفرصة.. ورب ضارة نافعة.. والأهم الاستفادة من دروس الماضي.. حركة "النهضة" على أبواب مؤتمرها الوطني الـ 11 الذي كان مفترضا عقده يوم 22 أيار (مايو) الجاري.. لكنه تأجل بسبب كورونا وعوامل موضوعية.. وهذا المؤتمر مهم وتاريخي لأنه يعقد بعد سنوات من النقاشات والمراجعات الفكرية والسياسية والزخم الفكري السياسي والحوارات.. 

التغيير الديمقراطي لا ينجح إلا بأفكار كبيرة وأحزاب كبيرة و"النهضة" يمكن أن تساهم في إنجاز ذلك..
واذا لم يحصل هذا، لا قدر الله، فسيكون المتضرر البلاد أولا ثم حركة "النهضة".. وعسى أن يعمل الجميع على ترجيح الخيار الأفضل.. 

المشاركة السياسية تشجع الاعتدال 

س ـ وهل سيسمح المناخ الإقليمي والدولي بعد أزمة كورونا للحركات والأحزاب التي تدعو إلى الديمقراطية ومشاركة "الأحزاب الإسلامية" في الشأن العام؟


  ـ أولا أعتقد أن مواجهة أعباء الحكم، بما في ذلك في موقع المعارضة، يشجع الاعتدال ويفيد كل الأطراف السياسية بما فيها حركة "النهضة" والأحزاب المحسوبة على تيار الهوية الوطنية العربية الإسلامية و"الديمقراطيين المسلمين"..

الصعوبة بالنسبة للبعض هي التوفيق بين قيم الوسطية والاعتدال والتمسك بالثقافية الوطنية.. وشعوبنا تناضل منذ قرن من أجل تحقيق التوازن بين أصولهم وعصورهم.. بين ثقافتهم الوطنية وحاجتهم إلى الحداثة.. مثل اليابان بريطانيا..

العالم العربي مر بموجة إيديولوجية تعادي الثقافة الوطنية والهوية العربية الإسلامية.. لكن الأحداث تجاوزتها.. حركة "النهضة" مثلا ليس لديها مشكل للتعاون مع الحزب الشيوعي.. في المقابل فإن الجميع مطالب بأن يفهم أن التحديث يشترط الشراكة مع الآخر الثقافي والسياسي.. حتى تنجح المعركة ضد الفساد والاستبداد..

 

 

 

التعليقات (0)