قضايا وآراء

"صندوق الزكاة" في تونس: حلّ أم مأزق جديد؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

في الفترة الأخيرة، عرفت تونس سجالا عموميا كبيرا كان سببه مبادرة بلدية الكرم (وهي إحدى ضواحي العاصمة) إلى إنشاء صندوق للزكاة. فقد أثار هذا القرار ردود فعل كبيرة، خاصة بين النخب "الحداثية" التي رأت فيه تهديدا لـ"مدنية الدولة"، وتوظيفا مشبوها لمؤسسات الدولة من رئيس البلدية المعروف بميولاته الإسلامية، وخطوةً مخاتلة في إطار مشروع "التمكين" الهادف إلى أسلمة المجتمع على وجه التدريج.

ولكنّ الردود الرافضة للمشروع أو المتوجّسة خيفة من طريقة تنزيله (دون رفض المبدأ)، كانت مصحوبة بتلقّ إيجابي لهذه المبادرة. وهو تلق لا يمكن اختزاله في "الإسلاميين"، لأنه يشمل المتدينين، وإن لم يكونوا إسلاميين كما يشمل العديد من المحافظين غير المتدينين، بل يشمل أيضا بعض النخب الحداثية التي لا إشكال لها مع أن يكون للدين دور في تشكيل المشترك الوطني، أو الكلمة السواء بالمعنى القرآني، لأنها لا تؤمن بوجود تعارض جذري بين مدنية الدولة من جهة، وإمكانية استثمار الدين (خاصة في المستوى القيمي والمقاصدي) في إدارة الفضاء العمومي.

 

اللغط الذي أثاره قرار بلدية الكرم ليس إلا استعادة للمناخات التي عرفتها تونس سنة 2019، عندما رفض مجلس النواب مشروعا تقدمت به حركة النهضة لإحداث صندوق وطني للزكاة

في الحقيقة، فإن اللغط الذي أثاره قرار بلدية الكرم ليس إلا استعادة للمناخات التي عرفتها تونس سنة 2019، عندما رفض مجلس النواب مشروعا تقدمت به حركة النهضة لإحداث صندوق وطني للزكاة. فقد دعت الحركة إلى إضافة فصل لقانون المالية يخص إنشاء صندوق للزكاة والتبرعات؛ تشرف عليه هيئة وطنية من مختلف الوزارات ذات الصلة ومؤسسة الإفتاء وجامعة الزيتونة وهيئات دستورية. ورغم الضمانات الرقابية التي قدمتها حركة النهضة كي لا يتحول الصندوق إلى موضوع تجاذب سياسي أو أيديولوجي، فإن أغلب النواب "الحداثيين" قد رأوا ضرورة إسقاط هذا المشروع.

وبصرف النظر عن المآلات الإدارية أو القضائية أو المجتمعية لمشروع بلدية الكرم، فإنه قد دشّن مرحلة جديدة لنقل الصراعات الأيديولوجية (المنهِكة للانتقال الديمقراطي منذ 2011) من مستوى السلطة المركزية إلى مستوى السلطات المحلية والجهوية.

إن القول بأن النخب "الحداثية" لها علاقة عدائية بكل مشروع ذي مرجعية أو تسمية دينية أمر مبالغ فيه، أو على الأقل يحتاج إلى تعديل. فلا يذكر التاريخ أن هذه النخب قد عارضت وصف المخلوع نفسه بـ"حامي الحمى والدين"، أو وصف المرحوم بورقيبة نفسه بأنه "المجاهد الأكبر"، كما لا يذكر المؤرخون أن "النخب الحداثية" قد جاهرت برفضها لتفعيل صندوق الزكاة سنة 1989 ضمن الصندوق التونسي للتضامن الاجتماعي، بمقتضى الفصل الأول من القانون القديم المحدث للاتحاد. ورغم سيطرة الحزب الحاكم على هذا الصندوق (عبر ذراعه التضامنية)، فإنّنا لم نسمع للقوى الحداثية رِكزا في انتقاد توظيف الدولة للدين لأغراض "سياسية"، أو في تهديد صندوق الزكاة لمدنية الدولة في "العهد الجديد".

 

لا يذكر التاريخ أن هذه النخب قد عارضت وصف المخلوع نفسه بـ"حامي الحمى والدين"، أو وصف المرحوم بورقيبة نفسه بأنه "المجاهد الأكبر"، كما لا يذكر المؤرخون أن "النخب الحداثية" قد جاهرت برفضها لتفعيل صندوق الزكاة سنة 1989 ضمن الصندوق التونسي للتضامن الاجتماعي

وعلى عكس موقفها من صندوق الزكاة على عهد المخلوع، أبدت أغلب "النخب الحداثية" موقفا عدائيا تجاه الصندوق نفسه بعد الثورة. وقد يعترض معترض بالقول بأن هذه النخب تعارض المشروع بحكم ارتباطه بحركة النهضة واستراتيجياتها لتوظيف هذه الشعيرة انتخابيا، ولكنها لا تعارض مشروع الزكاة في ذاته (وهو ما يؤكده موقفها الإيجابي من صندوق الزكاة في عهد المخلوع بن علي). ورغم كثرة الردود الممكنة على هذا الاعتراض، فإننا سنكتفي باعتراض واحد يغني عن البقية: ماذا فعلت "العائلة الديمقراطية" و"القوى الحداثية" لإعادة تفعيل صندوق الزكاة؛ ضمن الصندوق التونسي للتضامن الاجتماعي في إطار مبدأ "استمرارية الدولة"؟

للإجابة على هذا السؤال، يكفي أن نصغيَ لتصريح السيد منير الحاجي، المدير العام للاتحاد التونسي للتضامن الاجتماعي، لوكالة تونس أفريقيا للأنباء. ذكر السيد الحاجي أنّ في صندوق الزكاة أمولا تقدر بـ140 ألف دينار، ولكنّ الاتحاد لا يمكنه التصرف فيها تبعا للقانون الأساسي الجديد لمنظمته منذ 2016. فالقانون الجديد للاتحاد لا يعطيه حق الإشراف على صندوق الزكاة الذي حُذف اسمه ومهامه، كما أن وضعية المجلس الإسلامي الأعلى (وهو أعلى هيئة دينية استشاريّة في البلاد) تحول دون وجود آمر صرف للصندوق، وذلك لأن القانون يحصر هذه المهمة في رئيس هذا المجلس.

لقد أردنا التركيز على أزمة صندوق الزكاة الموروث من فترة المخلوع، لنُبين أنّ الأزمة تتجاوز مشروع بلدية الكرم أو غيرها. فالوضعية الملتبسة لذلك الصندوق وقلة موارده (رغم طابعه الوطني)، يعكسان عجز النخب (بإسلامييها وعلمانييها) عن إيجاد أرضية صلبة لبناء المشترك الوطني أو الكلمة السواء.

 

يُشكل مشروع صندوق الزكاة فرصة لإعادة التفاوض "سلميا" في قضية المشترك الوطني في المرحلة "ما بعد البورقيبية"، ولكنه واقعيا سيكون فرصة أخرى لتعميق الصراعات الهووية وتجذير الاصطفافات السياسية على أساس ثقافوي بائس

فالحداثيون يُبدون نوعا من التوتر المبالغ فيه تجاه أي مبادرة ذات مرجعية إسلامية، بل نراهم يسارعون إلى الدخول في صراعات دونكيشوتية مع الهوية الجماعية للشعب، بدعوى محاربة الإسلام السياسي والدفاع عن مدنية الدولة (وكأن الدين هو عدو المدنية وليس العسكر أو الفقر أو التبعية والتخلف). أمّا الإسلاميون، فإنهم يُظهرون نوعا من انعدام الثقة في أغلب الهياكل الجمعياتية أو المؤسساتية التي لا تكون تحت سيطرتهم، كما أنهم لا يبعثون برسائل طمأنة لمتسائلين عن الشفافية المالية في الموارد والنفقات (خاصة في مستوى تمويلات حزب النهضة وحملاته الانتخابية).

نظريا، يُشكل مشروع صندوق الزكاة فرصة لإعادة التفاوض "سلميا" في قضية المشترك الوطني في المرحلة "ما بعد البورقيبية" (وهو ليس بالضرورة نسفا للبورقيبية، بل استئنافا أو تجاوزا جدليا لها)، ولكنه واقعيا سيكون فرصة أخرى لتعميق الصراعات الهووية وتجذير الاصطفافات السياسية على أساس ثقافوي بائس. فالنخب الحداثية ما زالت تعتبر كل إحالة على المرجعية الدينية تهديدا لمدنية الدولة، كما تعتبر كل دعوة إلى انفتاح "الفضاء العمومي" على الدين مشروعا ظلاميا ورجعيا. أمّا الإسلاميون، فإنهم ما زالوا غير قادرين (في أغلب الأحيان) على تقديم مبادرات تشريعية تتجاوز الحزام الإسلامي الضيق ومنطق "الجماعة الإيمانية"، كما أنهم ما زالوا (مثلهم في ذلك كمثل أغلب القوى العلمانية) عاجزين عن الخروج من "الثقب الأسود" الهوياتي، والمساهمة النظرية في بناء المشترك الوطني المتحرر من أوهام "النمط المجتمعي التونسي" من جهة أولى، ومن أوهام "الإسلام هو الحل" من جهة ثانية.

twitter.com/adel_arabi21

التعليقات (0)