هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في خضم المشهد العربي المعقد عموما، والفلسطيني خصوصا، تبدو الرؤية شديدة الضبابية، ويكاد تفكيكها وفهمها يستعصي على أعتى المحللين وأصحاب الرأي، والسبب أن السنوات الأخيرة شهدت جملة من المتغيرات الكبرى المربكة، ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل على صعيد الصحة العامة (كورونا، وبقية الأوبئة القاتلة) وغيرها من الصعد التابعة، اقتصاديا، وعلميا وسواهما، وبوسع المرء أن يجد نقطة تحول كبرى بدأت منها سلسلة من التصدعات في البنية العربية، وهي السنة التي اشتعلت فيها الثورات العربية منذ نحو تسعة أعوام، وما تبعها من موجات الثورة المضادة، فقد بدأت منذ ذلك الحين جملة من الأحداث الكبرى، رافقتها أحداث جسيمة أخرى على المستوى الدولي، وما يهمنا هنا التوقف عند بعض الإضاءات فيما يخص الوضع العربي بشكل عام والفلسطيني على وجه أخص، ربما لإعادة رسم الصورة وفق ما نراها...
أطروحات مدعاة للعبثية
أولا ـ كلما قرأت رؤية لكتاب ومفكرين وسياسيين يقترحون ما يشابه "خارطة طريق" لإعادة بناء الواقع الفلسطيني، ومواجهة صفقة القرن وما ترتب عليها من قرار الاحتلال الوشيك بضم الغور الفلسطيني، وفرض سيادة الاحتلال "رسميا" عليه، أصاب بما يشبه العبث، حيث تتركز هذه الرؤية على جملة من "الكليشيهات" التي لم تعد تحمل أي معنى حقيقا، من مثل: بناء الجبهة الفلسطينية الداخلية، ووقف الانقسام، ووضع برنامج وطني موحد لمواجهة التحديات الجديدة، إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، والعودة للعمل المسلح، أو إعلان الانتفاضة الشاملة، وحل السلطة الفلسطينية، وسوى هذا من تعبيرات إما أنها بلا محتوى فعلي، أو أنها تحمل محتوى يستحيل تحقيقه، وفق موازين القوى الحالية، وتشابك وتناقض مصالح الجهات ذات العلاقة، أو لأنه يستحيل من حيث المبدأ إدارة عجلة التاريخ إلى الوراء!
ثانيا ـ من حيث المبدأ، سأجازف وأقول إن هناك استحالة ـ في المدى المنظورـ لقيام دولة فلسطينية مستقلة على أي جزء من فلسطين، بل إن إعادة بناء الجبهة الفلسطينية وتوحيد القوى المنخرطة فيها، هو من قبيل الأحلام الوردية بعيدة التحقيق، ليس لأن هذه الجبهة أقيمت منذ البداية على أساس فصائلي، وزادت حالة التشرذم بعد اتفاق أوسلو، ونشوء حالة فريدة من "الاحتلال الوطني" المقنع بمساهمة "مخلصة" من أصحاب القضية، الذين ارتبطت مصالحهم بالاحتلال، وقامت حياتهم على "التنسيق الأمني" معه، وهذا التعبير هو لفظ محسن للعمالة بأبشع صورها، خاصة حين يتم ربطه بما يسمى "المشروع الوطني الفلسطيني"، وهو ربط "شرعن" إجهاض أي عملية حقيقية لمقاومة الاحتلال بزعم أنها تهدد أو تخرب هذا المشروع!
ثالثا ـ ومن هنا فإن أي حديث عن حل السلطة الفلسطينية في هذه المرحلة، ليس مستحيلا فقط، بل بلا معنى، لأن أي عاقل لا يتخيل أن يحل رجال سلطة ما أنفسهم، ثم يتركون "البلاد" إلى اللامكان، أو أن يرموا بذلات السموكن ويرتدوا الفوتيك، مع ما نبت لديهم من كروش وأجساد مترهلة شاخت في اللانضال، وما غزا رؤوسهم من شيب، والأهم من ذلك أن وجودهم أصلا على الأرض الفلسطينية استمد "قانونيته" من السلطة المقامة بقرار أمني وسياسي من الاحتلال كطرف رئيس، فكيف والحالة هذه يتحدث عاقل عن حل السلطة؟؟
من هنا فإن أي حديث عن حل السلطة الفلسطينية في هذه المرحلة، ليس مستحيلا فقط، بل بلا معنى، لأن أي عاقل لا يتخيل أن يحل رجال سلطة ما أنفسهم، ثم يتركون "البلاد" إلى اللامكان، أو أن يرموا بذلات السموكن ويرتدوا الفوتيك،
رابعا ـ من المضحك اليوم الحديث عن قيام دولة فلسطينية مستقلة، بـ "دعم" من دول عربية هي أصلا استقلالها محط شك، بل ربما نشتط بالحديث أكثر إذ نقول أنه يكاد لا يوجد دولة عربية مستقلة استقلالا تاما غير منقوص، وبيدها أن تتخذ قرارها الوطني المستقل، حتى ولو كان لكل منها يوم استقلال وعلم وطني وجيش وأجهزة أمنية، هي عادة الأكثر حداثة وتطورا وكفاءة، لأن أهم واجباتها مناطة بحماية "السلطة" لا الوطن، أليست مفارقة مفجعة هنا الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة، وسط بحر من الدول العربية غير المستقلة فعلا؟
خامسا ـ من أطرف التعبيرات التي سمعتها عن وصف حالة الدولة الفلسطينية العتيدة التي تعد بها صفقة القرن، انها أشبه ما تكون بـ "الإمارات الفلسطينية المتحدة" بحيث تكون "دولة" من مجموع الإمارات المدينية المتشكل كل منها من مدينة، كإمارة نابلس، وإمارة طولكرم، وإمارة غزة، وإمارة جنين، وهلمجرا، في استلهام كما يبدو للإمارات العربية المتحدة، المتشكلة من مجموعة إمارات كل منها متشكلة من مدينة، وربما يكون هذا الوصف هو الأكثر تعبيرا وكاريكاتيرية عن واقع الحال!
والحل؟
لا حل في المندى المنظور، فما لم تتغير البيئة العربية الحاضنة للحالة الفلسطينية، فلن يتغير شيء، إلا إذا قررت الجماهير أن تأخذ القرار بنفسها، وتكنس هذا الواقع البائس، وهي عملية تشبه انبجاس الماء من بين الصخر، تتم فجأة وبقرار ذاتي من الماء فقط!