قضايا وآراء

تحديات تواجه العمل الخيري العربي: رسالية أم مهنية (2)

1300x600
1300x600
مفهوم رسالية العمل الخيري في عقلنا العربي الواعي والباطن أن المتبرع يريد وجه الله، ويريد اتخاذ هذا الطريق ليصل به إلى الجنة. والعامل في العمل الخيري كذلك هو شخص مثالي نذر نفسه لإيصال الأموال من المتبرع إلى المحتاج (المال كما هو) ابتغاء وجه الله لا يبغي إلا الجنة كذلك، وهذا الغالب الأعم.

وللرسالية أيضا معنى في جهة مقابلة، حيث يؤدي إلى مغنم دنيوي، لا علاقة له بالآخرة، بل هو أداة اقتناص فرصة في المجتمع لا تتم إلا من خلال هذا الباب. وهذا قليل ومستهجن وأحيانا مجرم بالقانون (كالمال السياسي)، ومع ذلك يبقى تحت إطار الرسالية.

مفهوم المال ضمن الإطار الأول السابق أنه طاهر مطهر يلمع بشدة من صفائه ونقائه، لا يأتيه الشك والظن من أي جهة ولا بأي حال، لذلك هو وقود الوصول والارتقاء في مدارج الفلاح والصلاح والنجاح.

كل ذلك وأكثر من صميم ثقافتنا وشعورنا ووجداننا، ولا أعترض عليه، بل هو المطلوب والمرغوب، ولكن الواقع يتجاوز هذه الثقافة وهذه العقلية إلى أدوار أخرى للمال، وأدوار أخرى للمتبرع، وأدوار أخرى كذلك للوسيط الخيري، وأدوار أخرى لوظيفة المال الخيري في المجتمع (بشكل مجرد وظيفة المال إشباع الحاجات، مهما تعددت وتنوعت بين الحلال والحرام والمسموح والممنوع).

فأدوار المال كثيرة، تضبطها الدول ضمن سياستها التشريعية، لتتكامل الأدوار الوظيفية للمال وفق خطة بناء مكونات الدولة المادية والمعنوية، وخاصة بناء المواطن وتوجيهه لخدمة رؤية الدولة المستقبلية لمكانتها.

وفي هذا السياق، يوجد مال سياسي عندما يكون غرضه سياسيا (كثير من الدول تجرم هذا الدور للمال، ومع ذلك فهو موجود في كل مكان وكل تجمع بشري)، ومال اجتماعي عندما يقوم ببناء القيم الاجتماعية التي تحددها الدولة وفق ما ذكرنا، ويوجد مال تربوي (بناء تربوي للشخصية)، ومال صحي (تأمين الجانب الصحي للإنسان جسديا ونفسيا)، ومال عسكري (إذا أمّن ثمن السلاح للجهة ذات العلاقة في الدولة)، وهكذا الحال في باقي الواجبات الملقاة على الدولة في الأساس.

إذن، العمل الخيري ليس عملا منبتّا عن باقي أدوار المال في الدولة، بل هو مكون رئيس لا يمكن الاستغناء عنه، وهو معبر بصدق عن الواقع العام للدولة، والناطق الرسمي بحالها، بل لا مغالاة إذا قلنا إنه عين الصقر الذي يراقب أي خلل في البناء العام المجتمعي المتحفز للدخول، ليسد الخلل باقتدار وقوة وشفافية ورضا من الجميع.

أطراف العمل الخيري:

الطرف الأول/ المتبرع: دور الرسالية هنا يتعاظم، بل الرسالية حتمية، فكل متبرع ينطلق من رسالة تحفزه، وهو حر في نيته، ولكن المشكلة هو اعتقاده أنه أيضا حر في طريقة الأداء، فله أن يخفيها (فاعل خير)، وله إظهارها.

مع أن طريقة الإخفاء موافقة للشريعة الإسلامية وللشعور البشري، إلا أنها في الاتجاه الآخر قد تكون سببا لزيغ الوسيط، ولهذا الزيغ أوجه متعددة، أمثلتها كثيرة منها صرفها في غير ما خصصت له، واستئثار الوسيط بجزء منها بلا سند شرعي (قانوني) أو بها كلها أحيانا، وفشل الإدارة في إدارة مال خصص لتنميته (كالوقف)، وغيرها.

الطرف الثاني/ الوسيط: وهذا أخطر أطراف هذه العلاقة، فهو شخص أو جهة تتولى استلام المال من شخص أو جهة، وإيصالها إلى جهة أو شخص، وهذا الطرف باتت علاقاته اليوم عابرة للحدود، بل عابرة للقارات من خلال تشابكات عمليات تحويل الأموال إلى الطرف المستفيد (الثالث) إذا كان خارج البلد. وغالبية العمل الخيري من هذا النوع.

بخصوص هذا الطرف فلا مجال للقول بالرسالية، بل الضابط المعتمد هنا هو "خير من استأجرت القوي". هذه العقلية في العمل خطرت ببال فتاة تريد توظيف شخص بعد تجربة لأداء مهمات عامة، بعد أن أدى عملا مهما بالنسبة لحياتها، وهو سقي الحيوانات، فكان المعيار الأول القوة، وتشمل القوة الجسدية والقوة المعنوية. ولكن الأولى هي السبب المباشر للتوظيف، وكذلك الأمانة، وهي أيضا خطيرة جدا، وتكامل القوة بالإيمان ينتج موظف مثالي.

الحديث عن الوسيط طويل، ستكون له مقالاته الخاصة ضمن هذه السلسة، وبشكل موجز وكنتيجة فإن الرسالية هنا تأتي في درجة متأخرة في سلم مواصفات التوظيف.

الطرف الثالث/ المستفيد: معيار تحقق الرسالية والمهنية وهدف التشريعات القانونية والرقابة الداخلية والوطنية، قد يكون بشرا أو حجرا، ماء أو سماء، أو أي أمر يخطر ببالك، وهذا التنوع الوفير في نهايات العمل الخيري يشير إلى أهميته، وإلى مهنيته، ولا يظهر من الرسالية إلا النزر اليسير جدا، ما يجعل الرسالية تتوارى، فلقمة الخبز تهم الجائع من أي باب جاءت.

ومع بساطة هذا المفهوم، إلا أنه أيضا يخفي خطورات متراكمة إذا تم تسييس لقمة الخبز أو ترميم المسجد أو تعليم فقير، كلٌ له بعده ذو المآلات السيئة، لذلك المهنية هنا دورها عظيم في تأطير العمل الخيري وفق شفافية هدفه ومراده، وعدم الانصياع أبدا لغير معايير العطاء الخيري، مهما كان الطرف الضاغط.

الطرف الرابع/ القانون والسلطة التنفيذية:

العمل الخيري (عين الصقر) منضبط بالسياسة التشريعية(1)، وبالنظام العام(2). والسياسة التشريعية والنظام العام في البنيان القانوني للدول المعاصرة يقوم على توفير الشروط الموضوعية للقيام بأي عمل في الدولة، وكذلك إجراءات أي عمل منضبطة بنص تشريعي. والقانون، كما نعرف، لا يهتم بالبواعث، بل بالعمل ذاته وبنتيجته، فإذا كان الحال كذلك، فالقانون يرتب شؤون العمل الخيري وفق النتيجة التي توخاها (العمل الخيري) طالما كان القانون موافقا للدستور والمواثيق الدولية والنظام العام.

تعامُل العمل الخيري (كجهة تنفيذية) مع القانون (الدولة) هو تعامل موضوعي (مال يقدم لجهات خاضعة للقانون)، وتعامُل إجرائي (مراقبة آليات العمل لتكون وفق القانون)، وهذا الأمر بالذات لا تأخذ الرسالية فيه أي حيز، بل يتم التعامل معه كمهنة واجبة الخضوع لمعايير العمل الوطنية (دائما) والدولية (أحيانا كثيرا). ولهذه النتيجة مبرراتها الكثيرة المنطقية، وكذلك إيجابياتها الكبيرة.

وعلاقة الدولة بالعمل الخيري تحددها التشريعات وفق طبيعة نظام الحكم، ففي الحكم الرشيد تتسع دائرة العمل الخيري، لأن هذا النوع من الحكم مبني على تبادل الثقة بين مكونات المجتمع من جهة، وعلى اقتناع الدولة باستحالة قيامها بالواجبات كلها تجاه الوطن والمواطن، وأن الثقة يمكنها أن تمكّن مكونات المجتمع من التعاضد في سد الخلل.

وحيث أن القانون هو المنظم، فإنه ينظم مهنة، لا اعتبار للرسالية فيها، ويترك الرسالية للمتبرع الذي له حرية الاعتقاد بمآل أو سبب تبرعه، والمكافأة التي سيحصل عليها بسبب فعلته سواء في الدنيا أم الآخرة.

وضعت هذا الطرف في النهاية، ووفق هذا الترتيب (أولا القانون وثانيا السلطة التنفيذية) لأن الأطراف الثلاثة أعلاه يتصرفون أحيانا ووفق التوقع لا وفق القانون، ويبنون علاقاتهم على حسن النية، وعلى فرض احترامهم على الآخرين، وقد يتذرعون بحسن سيرتهم أو خبرتهم أو علاقاتهم أو أخلاقهم أو أمور أخرى كثيرة، ويبنون من ذلك سدا منيعا يبررون به أعمالهم المكشوفة والمخفية، ويستندون إلى تعليلات دينية من نحو فضل إخفاء الصدقة وغيرها.

أمّا وإن العمل الخيري اليوم يعيش أزمة حقيقة على مستوى التمويل ومستوى الثقة، فإن القانون يصبح أداة مطهرة للظنون والشكوك، وهو ما تطلبه حتما المجتمعات وتطمئن إليه النفوس.

بخصوص القانون: فهو الضابط الموضوعي والإجرائي، وهو المرتب لشؤون العمل الخيري الداخلي والخارجي، وهو الضامن لحماية العمل الخيري والعاملين فيه، وهو الذي ينطلق من تحديد مسؤولية العمل الخيري في سد الثغرة التي يوكلها إليه المشرع من باب المسؤولية المجتمعية، وعليه مراعاة الوضع العام الداخلي والخارجي، وعليه تقديم البديل أو المكافئة للعمل الخيري عن طريق الحماية الحقيقة الداخلية والخارجية، وعليه أن يستشير العمل الخيري في حاجاته وتنظيمها قانونا أولا بأول، بل عليه إدخال العمل الخيري في صلب عملية التشريع ذات العلاقة بعمله. أما أن يكون القانون معبرا عن الجبروت والتبعية، فهذا إعدام للخير، ويعود على البلاد والعباد بالويلات، وهو ما شاهدناه ونشاهده في مجتمعاتنا العربية.

أما فيما يتعلق بالسلطة التنفيذية: وفق الأصل، فإن السلطة التنفيذية وظيفتها تنفيذ القانون، وتنفذه عن طريق موظفيها، وهذا التنفيذ الأصل فيه استيعاب خصوصية العمل الخيري ودوره الهام في المجتمع، وعدم الشعور حياله بالندية والمنافسة، لذلك فالموظف مكلف بالتنفيذ متقيدا بالآداب العامة للموظف والوظيفية، بل بشعور عميق بالامتنان للعامل في العمل الخيري لأنه يقدم الخير للوطن والمواطن.

قد تكون هذه مثالية في الطرح، تناقضها التصرفات الواقعية من جميع الأطراف، وهذه بالذات الدافع لكتابة هذه السلسلة من المقالات، محاولة إيجاد توازن مقبول بين الأطراف المذكورة في ظل الشرعية القانونية، ومشروعية (قبول) العاملين في الخير.

تجربة تنظيم العمل الخيري في العالم العربي ليست طويلة، والمقصود الضبط التشريعي للعمل الخيري؛ ومع ذلك فقد أورثت هذه التجربة الكثير من المثالب والكثير الكثير من الإيجابيات، وهذه الإيجابيات هي التي جعلت العالم الآخر يضغط على السلطات التنفيذية العربية للحد من أثرها الوجداني والمادي.

لذلك، فإن مهنية العمل الخيري القائم على القانون بشكل موضوعي شفاف محايد، يعد مطلب جميع أطراف العمل الخيري، وكذلك أطراف المجتمع الأخرى، لأن العمل الخيري شأن عام يهم الجميع، بل الآن يهم المجتمع الإنساني كله.
__________
1- السياسة التشريعية: ملخص حاجات الوزارات خلال فترة معينة مصاغة بطريقة قانونية قابلة وواجبة التنفيذ.

2- النظام العام: مجموعة المبادئ العليا في الدولة التي تغطي الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية الدبلوماسية والتربوية والتراثية، ولا يسمح بمخالفتها، وهي نسبية في الزمان والمكان، قابلة للتغير إما بمرور الزمن، أو فرض تغييرها بالقانون.
التعليقات (0)