قضايا وآراء

تحديات تواجه العمل الخيري العربي: من دغدغة الثقة إلى ضبط القانون (3)

1300x600
1300x600
أدنى مستويات العمل الخيري وأبسطها (من ناحية واقعية لا من ناحية الأجر والثواب والنية) والتي تتمثل في إعطاء مبلغ بسيط جدا من المال لفقير، يخضع (هذا العمل البسيط) لأحكام القانون، شاء المتبرعون والمستفيدون ذلك أو لم يشاؤوا. ويبرز هنا المبدأ القانوني العالمي: لا عذر بجهل القانون.

وهنا لا مجال لتخصيص قانون معين يحكم هذا الوضع الخيري (الوضع الخيري واقعة قانونية)، بل حالة التبرع قد تستدعي كما كبيرا من القوانين الوطنية، أيضا الدولية، في ظل الاتهامات بتمويل الإرهاب، وسرقة أموال المتبرعين، والمال السياسي، والتصدق بالمال المسروق، والعبث بعواطف الناس واستغلالهم والتحكم في عقلياتهم ونفسياتهم وتوجهاتهم، وشراء مقاصدهم، وسلب حرياتهم... بالمال (الخيري). ويمكن تعداد كم مهول من الأفعال المجرمة وطنيا ودوليا يمكن للمال (تحت عنوان التبرع والخير) أن يقترفها.

ولأننا جميعا قد مارسنا العمل الخيري بأي شق منه، كمتبرع، أو مستفيد، أو دال على متبرع أو مستفيد، أو أي وجه آخر، فإننا نسمع الكثير من التهم توجه للعمل الخيري بأوجهه المختلفة، تبدأ بالسرقة ولا تنتهي بالمال السياسي. ومع هذه التهم تأخذنا أفكارنا إلى الشعور بالندم، لولا إيماننا بأننا نعطي والله يتقبل، ونيتنا هي ركن الطمأنينة لدينا.

العمل الخيري العربي قام ولا زال على الثقة؛ وأهم أوجه الثقة تلك المتعلقة بمن يستلم المال، لأنه محل تزكية من شخص أو جهة، وهذه الواقعة القانونية (تسليم المال واستلامه) هي الجزء الخفي الذي يتم في عتمة قانونية، وعلى هذه العتمة تقع غالبية التهم من الآخرين، مع اعتقادي بأن الغالبية العظمى من التهم كيدية لا أساس تقوم عليه، ومع ذلك التشويه يصيب الجميع، وهذا ما يتم اليوم فعلا.

إن دغدغة الثقة تملؤنا شعورا بالرضى، وهي أقصر الطرق للإيداع المالي الفعلي، واستيداعه رب العالمين، وبالرغم مما يجول في خواطرنا من شبهات، إلا أننا لا نتجاوز أن ننسى أو نتناسى.

والحقيقة، كل جمعية خيرية، مرخصة أو غير مرخصة رسميا لدى الدولة، بين أشخاص طبيعيين أو أشخاص معنويين، كلها تخضع للقانون، ولا مكان للثقة فيها أبدا، لأن الثقة قد تجر أحكاما قانونية تودي بالحياة أو الحرية، لذلك سبيل النجاة للجميع هو سلوك طريق الضبط القانوني.

ويمكن هنا ذكر مجموعة من القوانين الضابطة للعمل الخيري، والتي يجب تعلمها وتفعيلها دوما، منها:

- ترخيص رسمي لجهة العمل الخيري وفق قانون البلد، والحفاظ على تجديده.

- تعميم الترخيص على العاملين، وخاصة النظام الأساسي المقبول من الدولة.

- تعميم التنبيهات المحدثة من الجهات الرسمية المتعلقة بالعمل الخيري.

- متابعة أخبار العمل الخيري العالمي ومشكلاته وكيف يتم حلها.

- صياغة نظام داخلي شفاف ووفق قواعد قانون البلد، يتضمن الواجبات والمهمات والمخالفات والجزاءات، وتعميمه على العاملين.

- تفعيل مبدأ: حيث مسؤولية فثم محاسبة متناسبة معها، وهذا مُغَيَّب في العمل الخيري إلى حد ما، فكلما ارتقت الدرجة الإدارية قلت المساءلة لدرجة الانعدام، وهذا أخطر ما في هذا العمل.

- العمل بطريقة المكاتب مفتوحة، العقول مفتوحة، القلوب مفتوحة، بين مكونات العمل الخيري، وبينها وبين المجتمع.

- الضبط الدقيق للتعاملات الإدارية، خاصة التسلسل الهرمي للمسؤولية، وتظهر أهميته في الجمعيات الخيرية الكبيرة، والتي لها فروع أخرى.

- لا يدوم نجاح العمل الخيري إذا لم تكن أدوات النجاح داخلية، أهمها الاستماع إلى الآراء ومناقشتها بحيادية دون غضاضة أو شعور بالتنافسية، والإيمان العميق بأن هذا العمل جمعوي الفكرة والرأي والاستنتاج، لا فردي شخصي.

تحدي التحول من الثقة إلى ضبط القانون يعد خطيرا، وضروريا، وملحا، ويشكل درع حماية للجميع، داخل العمل الخيري وخارجه، المستلم والمتبرع والمستفيد والمنفذ وغيرهم في هذه السلسلة المباركة؛ وعلى أي فرد في هذه السلسلة، خاصة الذي يحمل صفة العامل في العمل الخيري، حال الخيارات بين الثقة والقانون أن يختار القانون، بمعنى أن عليه أن يفرض ما يطلبه القانون، ويفرض سيطرة القانون منعا وسدا لأي فجوة لدخول عدم الشرعية وتسلل الشيطان إلى النفس، فالاستعانة بالقانون على الشيطان منجاة للجميع.

قبل استلام العامل في العمل الخيري وظيفته، مهما كان موقعها في التسلسل الإداري، فإن عليه الإلمام بثقافة قانونية حتمية، تجعله قادرا على الحكم على أي فعل يتم أمامه، أو يؤديه، ويتخذ بخصوصه القرار الصحيح، وأن تكون له مرجعية قانونية داخل مؤسسته يستشيرها في التصرف السليم قانونا، لا أن يجتهد وفق ما يريده هو (وهذا هو الحال عليه اليوم مع غالبية العاملين في العمل الخيري).

الثقة، والنية الحسنة، والتصرف البريء، وحمل شعار التضحية، واحتمال الضرر، والتسلل إلى المشاعر، وغيرها، لا تصلح دفعا لأي تهمة ذات علاقة من جهة الاتهام الرسمي سواء داخل الدولة أم خارجها، لذلك العلم بالقانون والعمل به قارب النجاة الأوحد (وفق القانون الوضعي).
التعليقات (0)