قضايا وآراء

"حرب اللوائح" في البرلمان التونسي: نحو إعادة هندسة الحقل السياسي

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

كنا قد بيّنّا في أكثر من مقال سابق أن "كعب أخيل" لحكومة الفخفاخ هو بناؤها على مقدمة خاطئة، ألا وهي أن تونس قد تجاوزت بنجاح مرحلة "الانتقال الديمقراطي السياسي"، وأننا الآن قادرون على المرور إلى مرحلة "الانتقال الديمقراطي الاقتصادي والاجتماعي" التي سيكون مدارها مكافحة الفساد، وبناء منوال تنموي مختلف عن ذاك الذي حكم تونس منذ حصولها على الاستقلال الصوري عن فرنسا.

وقد تكون تركيبة الحكومة ذاتها والأزمات التي مرت بها، من جهة علاقة مكوناتها في الحكومة أو في مجلس النواب، دليلا على خطأ تلك المقدمة، ولكنّ الدليل الأكبر على عدم استكمال الانتقال الديمقراطي السياسي (بمرحلتي المفاصلة عن النظام السابق وبناء مؤسسات وخطابات مناسبة لطبيعة المرحلة) هو ما يشهده مجلس النواب من "حرب اللوائح" التي لا يبدو أن نهايتها قريبة، في ظل العجز عن تفعيل القانون الداخلي للمجلس من جهة أولى، والعجز عن بناء توافقات صلبة داخل الأحزاب الحاكمة من جهة ثانية.

 

يبدو أن مرحلة "ما بعد كورونا" (أو مرحلة التضحيات كما أسماها رئيس الحكومة السيد إلياس الفخفاخ) لن تدار إلا بالخطابات الصدامية السابقة

استمرار الانحراف عن القضايا الأساسية

في مرحلة هشة ومأزومة تحتاج فيها تونس إلى "وحدة وطنية" تكون الحكومة تعبيرا عن حصولها في المستوى المجتمعي، يبدو أن مرحلة "ما بعد كورونا" (أو مرحلة التضحيات كما أسماها رئيس الحكومة السيد إلياس الفخفاخ) لن تدار إلا بالخطابات الصدامية السابقة، تلك الخطابات التي لا تهندس الواقع التونسي على أساس حكومة/ معارضة أو على أساس إسلامي/ علماني، بقدر ما ستعيد تشكيل ذلك الواقع على أسس رخوة أو "سائلة" لا يمكن ردها إلى الأيديولوجيا، وبقدر ما ترتبط بحملات انتخابية مبكرة ستعيد تشكيل الحقل السياسي بصورة يصعب الجزم بمآلاتها عند قدوم الاستحقاق الانتخابي القادم سنة 2024.

يعلم أي مبتدئ في التحليل السياسي أن استراتيجيات تغيير الواقع أو تجاوزه جدليا تنطلق من مبادرات تشريعية أسندها الدستور التونسي للنواب والحكومة ورئيس الجمهورية، أو قد يحتاج التغيير (إذا لم يكن محل توافقات برلمانية) إلى الاحتكام إلى الإرادة الشعبية المباشرة عبر الاستفتاء العام. ولكنّ الغالب على السجال السياسي، بل السجال العمومي في تونس؛ هو بعض "اللوائح" التي اشتغل عليها البرلمان وقد يشتغل عليها في الفترة القادمة. وهي لوائح بيّن خطورتها عالم الاجتماع التونسي الدكتور مهدي مبروك في إحدى تدويناته على فيسبوك قائلا: "هذا التصعيد (بالمعنى النفسي) الوطني حتى النخاع في البرلمان ذو العناوين السيادية والجوهرانية يخفي فشلا ذريعا تعاني منه النخب السياسية والبرلمانية تحديدا، في الإجابة عن السؤال الحاسم: كيف يمكن للنخب السياسية أن تستجيب إلى تطلعات الناس الحقيقية في سياقات إكراهات الشغل، الكرامة ورغد العيش"، أو لنقل كيف يمكن للنخب تنزيل استحقاقات الثورة على الأقل في حدها الإصلاحي المأمول والذي وعدت به أغلب الأحزاب في حملاتها الانتخابية؟

سلطة الأحزاب بين خطري الفاشية والشعبوية

قد يكون من اللغو أو من نافلة القول أن نذكر أن تحقيق تلك الاستحقاقات/ الوعود يحتاج إلى حد أدنى من الاستقرار السياسي ومن التوافقات على مشروع وطني جامع أو على مشترك وطني (كلمة سواء). ولكن كل تلك الشروط الفكرية والمؤسساتية لا تبدو قريبة التحقق حتى داخل الائتلاف الحزبي الحاكم، فضلا عن أن تكون موجودة داخل المعارضة "البرلمانية" وخارجها، بل خارج الحقل السياسي كله.

إننا أمام "مأزق" سياسي حقيقي يحاول مختلف الفاعلين الجماعيين توظيفه لتحسين مواقعهم وحماية مصالحهم الرمزية والمادية. فرئيس الجمهورية لا يفوّت أية فرصة لمهاجمة النظام السياسي القائم على الديمقراطية التمثيلية التي تحتاج بالضرورة إلى توسط الأحزاب، وقد يكون الجدل الذي تسببه اللوائح والانقسامات الجديدة التي تحدثها أكبر حليف له في مشروعه للديمقراطية القاعدية.

 

رئيس الجمهورية لا يفوّت أية فرصة لمهاجمة النظام السياسي القائم على الديمقراطية التمثيلية التي تحتاج بالضرورة إلى توسط الأحزاب، وقد يكون الجدل الذي تسببه اللوائح والانقسامات الجديدة التي تحدثها أكبر حليف له

أما رئيسة الحزب الدستوري الحر، المعروف بخطابه الفاشي المعادي للثورة وللإسلاميين على حد سواء، فإنها قد رسخت في كل ما من شأنه ترذيل الحياة السياسية وضرب رمزية المجلس النيابي أمام الرأي العام. ولا يبدو أن فشلها في تمرير اللائحة الموجهة ضد رئيس مجلس النواب (رئيس حركة النهضة) سيحول دون مضيها في طرح لوائح مشابهة، مثل اعتبار حركة النهضة "حركة إرهابية"، بحكم إصرار حزبها الفاشي على انتماء النهضة للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين.

"توازي المسارات" باق ويتمدد

إننا لم نكتب هذا المقال لتحديد المسؤولين عن الوضع السياسي الذي بلغته تونس، فهذا أمر مازال محل تجاذبات سياسية قد يكون المستقبل وحده كفيلا بتحييد آثارها في كشف الحقيقة، بل كتبناه لنبيّن أن "حرب اللوائح" ستكون ذات تأثيرات كبيرة على هندسة الحقل السياسي في المدة القادمة. فاللائحة التي تقدمت بها رئيسة الدستوري الحر قد أثبتت أن المسار الذي بدأه رئيس حركة النهضة عندما تحدث عن "توازي المسارات" بين الحكومة ومجلس النواب هو مسار راسخ، وقد ينذر بحصول أزمة كبيرة داخل الأطراف المشكلة للحكومة، خاصة بين حركة النهضة من جهة وبين حركة الشعب وكتلة الإصلاح وحزب تحيا تونس من جهة ثانية. فقد أثبت التصويت هشاشة الحزام الحكومي وإمكانية التقارب بين الأحزاب "التجمعية الجديدة".

أما لائحة ائتلاف الكرامة لطلب الاعتذار من فرنسا، فقد أكدت أن هذا الائتلاف قد يكون أكبر مستفيد من الخزان الانتخابي "المغاضب" للنهضة في الاستحقاقات القادمة، كما أكدت تلك اللائحة (رغم كل ما يقال عن سواء تقدير زعيم النهضة لتأثيراتها الكارثية على حركته) أنّ النهضة مستعدة لخسارة جزء من قاعدتها الانتخابية التقليدية في سبيل اكتساب قاعدة انتخابية جديدة، وهي قاعدة انتخابية قد لا يكون ميلها للنهضة على أساس أيديولوجي، بقدر ما سيكون على أساس "براغماتي" بحكم ما ثبت من عدم تهديد هذه الحركة للمنظومة القديمة واللوبيات والشبكات الزبونية المشكلة لها.

كما أكدت لائحة الائتلاف أن عين النهضة تتجه إلى الخارج (خاصة فرنسا التي لا يمكن إلا لجاهل أن ينكر أنها قد أعطت الضوء الأخضر للإمارات والسعودية لإفساد الانتقال الديمقراطي في تونس التي هي جزء من مجال نفوذها التقليدي في أفريقيا) أكثر مما هي مشغولة بالداخل، سواء الداخل النهضوي أو الداخل التونسي بصفة عامة.

الجمهورية الثانية أو الأفق الممكن والبعيد

ختاما، قد لا تكون "حرب اللوائح" في جوهرها إلا إمعانا من النخبة السياسية في الانحراف عن القضايا الحقيقية للشعب التونسي، ولكنها أيضا حرب تموقعات ستعيد تشكيل المشهد السياسي بصورة مغايرة.

 

"حرب اللوائح" قد أكدت أن حركة النهضة ماضية في خيارها الاستراتيجي القاضي بالتطبيع مع المنظومة الحاكمة بشروط تلك المنظومة، أو في الحقيقة بشروط سادتها في فرنسا

فهذه "الحرب" بقدر ما قرّبت بين ورثة المنظومة القديمة والبعض ممن يتقاطعون معها موضوعيا، كـ"حركة الشعب" ذات التوجهات الناصرية، فإنها قد باعدت بين النهضة وبين كل أولئك، ولكنها باعدت أساسا بينها وبين حليفها "الأوثق"، أي ائتلاف الكرامة.

كما أن "حرب اللوائح" قد أكدت أن حركة النهضة ماضية في خيارها الاستراتيجي القاضي بالتطبيع مع المنظومة الحاكمة بشروط تلك المنظومة، أو في الحقيقة بشروط سادتها في فرنسا الذين يتحكمون في خياراتها الثقافية وقدراتها الاقتصادية. كما أثبتت الأزمة السياسية الحالية أن رئيس الدولة لن يلعب أبدا دور الوسيط بين الأحزاب أو دور المخفف من حدة الاحتقان الأيديولوجي، لأن منطق التنافي بين الأحزاب والأيديولوجيات يخدم مشروعه السياسي القائم على رفض توسط تلك الأحزاب في إدارة الدولة. وهو وضع سياسي لا توجد إشارات جادة إلى إمكانية تجاوزه في المدى المنظور، مع ما يعنيه ذلك من تشكيك مشروع في مدى قدرة الحكومة على تنفيذ وعودها في مكافحة الفساد وتجاوز الآثار الكارثية لوباء كورونا.

twitter.com/adel_arabi21

التعليقات (0)