هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لأن العدو مشترك، فإن الاهتمام المصري بما يجري في تونس، ربما يأتي مساوياً لاهتمام التونسيين بشأنهم، وأكاد أجزم أن الأفراح التي نصبها المصريون عبر منصات التواصل الاجتماعي لفشل القوم في سحب الثقة من الشيخ راشد الغنوشي، أكبر من تلك التي نصبها أنصار الرجل وحلفاؤه في تونس!
وإن كان لدى الثوار المصريين أحياناً حسابات مختلفة، مثلما تحمسوا لإنجاح المنصف المرزوقي في الانتخابات الرئاسية، باعتباره الأكثر تعبيراً عن الثورة، والأكثر انحيازاً للرئيس محمد مرسي، وقد تجاهلوا تماماً أن حركة النهضة لها مرشحها الخاص الشيخ عبد الفتاح مورو، وقد استشعر كثير من المصريين خيبة الأمل بعد سقوط المنصف، وليس لسقوط مورو، وكان أبلغ تعبير عن هذه الحالة، هو ما قرأته لأحد المعلقين الذي قال: "يبدو أن أحداً في تونس لم يتحمس للمنصف المرزوقي حماس المصريين له". لقد كان مرشحاً مصرياً أخطأ دائرته الانتخابية!
ولأن المصريين يدركون تماماً، أن العدو الإقليمي الذي ساهم في إسقاط المسار الديمقراطي في مصر، هو من يلعب في الحالة التونسية، فقد اعتبروا أن إفلات الشيخ الغنوشي من هذه المؤامرة، هزيمة ساحقة لهذا العدو، وكأنها نهاية المؤامرة، لكن فاتهم أن ما جرى في الحقيقة هو نصف انتصار، وهو ما يجعل الخطر لا يزال قائماً، فلم يكن انتصاراً كاملاً إلا من حيث الشكل، فقراءة الأرقام تؤكد أن كسب جولة في المعركة لا يعني ضمان نجاح جولات تالية، فالقصة لم تتم فصولاً.
لقد كتب البعض من فرط السعادة، أن البرلمان التونسي يجدد الثقة في الشيخ راشد الغنوشي، وهو تعبير غير دقيق، فقد كان المطلوب طرح الثقة فيه، وعدم النجاح في ذلك لا يعني أنه تجديد للثقة، لاسيما أن القراءة الجادة للأرقام تؤكد عدم دقة هذا الوصف لما جرى!
الأرقام تقول:
إن أربع كتل برلمانية (الإصلاح، وتحيا تونس، والوطنية، والديمقراطية) هي التي طلبت سحب الثقة من الشيخ الغنوشي كرئيس للبرلمان، بجانب الحزب الدستوري الحر الذي تترأسه (عبير موسي)، وذلك من جملة تسع كتل يُشكل منها البرلمان التونسي فضلا عن النواب المستقلين وعددهم سبعة عشر نائباً. وبلغ عدد النواب الذين أيدوا سحب الثقة 97 نائباً من جملة 217 نائباً هم أعضاء مجلس نواب الشعب (البرلمان)، ولم يكن مطلوباً سوى اثني عشر نائباً لاكتمال النصاب لسحب الثقة، وقد امتنع نواب النهضة وعددهم 54 نائباً عن التصويت، وغاب نواب ائتلاف الكرامة وعددهم 19 نائبا، لعدم اكتمال النصاب، ومجموعهم لا يكفي إذا صوتوا بـ (لا) على اللائحة لضمان إبقاء الغنوشي في موقعه، لولا أن نواب حزب "قلب تونس" الذي يترأسه نبيل القروي المنافس في جولة الإعادة لقيس سعيد، في تحالف مع النهضة وعدد نوابه 27 نائبا!
إن استمرار الشيخ راشد الغنوشي رئيسا للبرلمان التونسي إنما يعني هدفاً سهلاً ومغرياً للمركز الإقليمي للثورة المضادة ومقره دولة الإمارات العربية المتحدة، وإذا كان استمراره يعنى هزيمة أبو ظبي، فان القدرة على عزله تعني أنها حققت انتصاراً هائلاً له ما بعده،
وفي الحقيقة، فإن مجموع هذا التحالف الثلاثي لم يكن ليضمن بقاء الغنوشي لولا أن 16 نائباً صوتوا برفض اللائحة، ولو ذهبوا مع الكتل التي ترفض الغنوشي لحققوا للقوم حلمهم في الإطاحة به، فضلاً عن وجود 18 ورقة ملغاة وبجانب ورقتين لنائبين لم يكتبا شيئاً، فإنه ليس معلوماً إن كانت هذه الأصوات من "قلب تونس"، أم إنهم تسللوا من جبهة الخصم، بجانب نواب كتلة المستقبل وعددهم 9 نواب فضلاً عن غير المنتمين وعددهم 17 نائباً، وليس للكتلة موقف واضح. وبعيداً عن الذين صوتوا بوضوح بـ (لا)، فإن العشرين صوتاً الآخرين وإن كان لا يجوز حسابهم على أصحاب اللائحة بسحب الثقة فإنهم ليسوا من مؤيدي النهضة، التي لا تملك أغلبية مريحة في البرلمان، فقط 54 نائباً، والتي لم يفز مرشحها لرئاسة البرلمان بأغلبية ساحقة، فقط 94 نائباً!
التحالف مع القروي:
وإذا استبعدنا أن يمارس نواب ائتلاف الكرامة الخيانة، لأنه ائتلاف الاستقامة السياسية (19 نائباً)، فإن استمرار التحالف مع حزب نبيل القروي (27 نائبا) ليس مضموناً، وهو تحالف الضرورة، بعد استبعاد هذا الحزب من أن يمثل في الحكومة باعتباره حزباً ينتمي للدولة القديمة (دولة بن علي) وكان من نتاج تحالف النهضة معه وقوفهم مع رئاسة الغنوشي للبرلمان، مقابل انتخاب نائبته سميرة الشواشي نائباً أول لرئيس البرلمان، في حين أن النائب الثاني طارق الغتيتي ينتمي لكتلة الإصلاح وهي واحدة من الكتل الأربعة التي وقعت لائحة سحب الثقة!
والشواشي تنتمي في الأصل والفصل لمرحلة بن علي، فقد كانت نائبة عن حزب الوحدة القريب من الرئيس الأسبق، وهو حزب حماها محمد بوشيحة، فهي زوجة وحيده، وكانت نائبة في برلمان قبل الثورة منذ عام 2004 إلى 2011، وإن كانت بعد ذلك انتقلت بين خمسة أحزاب في تسع سنوات، وقد انتهى بها المطاف مؤخراً في حزب نبيل القروي!
إنها بحكم الأداء داخل البرلمان لاسيما في أزمة إفشال المجلس، وبحكم الانتماء السياسي، وبحكم كونها امرأة، ستكون "ضربة معلم" لو أن النهضة تنازلت لها عن رئاسة البرلمان لإحراج خصومها وحصارهم، لأن الأزمة لم تنته بعد وتظل كتلة نبيل القروي هي المرجحة أو المعطلة، لكنها قد تصبح مغامرة، إذا نجحت الرئاسة في استمالة هذا الحزب باختيار بعض أعضائه في الحكومة، وإذا نسي القروي هدفه الأسمى في أن يكون رئيساً للبلاد، ونسي أن قيس سعيد منافس له أكثر من النهضة التي ينبغي عليه أن يقوي من التحالف معها استعدادا للانتخابات الرئاسية القادمة، وكل الحسابات الحالية تقول إن قيس سعيد هو "رئيس الدورة الواحدة"!
والمشكلة تكمن، في أن استمرار الشيخ راشد الغنوشي رئيسا للبرلمان التونسي إنما يعني هدفاً سهلاً ومغرياً للمركز الإقليمي للثورة المضادة ومقره دولة الإمارات العربية المتحدة، وإذا كان استمراره يعنى هزيمة أبو ظبي، فإن القدرة على عزله تعني أنها حققت انتصاراً هائلاً له ما بعده، وقد ينجح المركز الإقليمي في كسب الرئيس قيس سعيد أو تحييده، والرجل الذي يفتقد للخبرة السياسية، قد لا ينتبه أنه سيكون الهدف في المرحلة اللاحقة، وإن كان سيطربه إيقاع الهزيمة بالنهضة، ظناً منه أنه بعدها سيكون رقماً صحيحاً، وأنه يمكن له في حال هزيمتها تعديل القوانين بما يمكنه من أن يكون رئيساً عربياً كامل الصلاحيات كأقرانه، ومن الواضح أنه ليس راضياً عن هذا النظام الحالي. لاحظ أنه يحيط نفسه بيساريين لا يكتمل ولاؤهم اليساري إلا باستئصال كل ما هو إسلامي!
خيارات قيس سعيد:
ووقوف الرئيس قيس سعيد في الجبهة المناوئة لحركة النهضة، سيجعل الخيارات أمامها محدودة، ربما يجعلها هدفاً سهلاً مع تركيبة البرلمان الحالية، للمركز الإقليمي للثورة المضادة، مع تمسك الغنوشي برئاسة البرلمان. وإسقاط لائحة سحب الثقة لا يعني توقف الفوضى، أو ترك المجلس التشريعي للقيام بالمهام المنوطة به، في بلد يعاني الكثير من الأزمات!
لقد قالت النهضة إن هناك تمويلاً إماراتياً وصل لمن يسعون لسحب الثقة من الشيخ راشد الغنوشي، لكن هذا الإعلان لا يعني توقف التمويل أو محاصرته، وحصاره وكشفه بيد الحكومة، لاسيما السلطات الأمنية فيها وهي لن تكون مع النهضة في ظل حالة الاستقطاب السياسي لأن ولاءها سيكون للرئيس، الذي يختار وزير الداخلية، وبيده تعيين الموظفين الكبار في الدولة وعزلهم، والذي لا يتصور إلى الآن أنه الهدف التالي للمركز الإقليمي للثورة المضادة. ولن يتوقف التمويل لاسيما أن وجود 97 نائباً مع سحب الثقة من الغنوشي يغري بالاستمرار، ولا يعني هذا أن كل هؤلاء النواب من الممولين إماراتياً، وليس بالضرورة أن الوقوف ضد رئاسة الغنوشي للمجلس التشريعي، أو الوقوف ضد النهضة، يعد انحيازاً للثورة المضادة!
وليس أمام النهضة من سبيل إلا أن تناور في حدود الممكن بالعمل على استمرار التحالف مع ائتلافي الكرامة وقلب تونس، بل وأن تمد يدها على القاعدة التي استحدثها الغنوشي من قبل بوضع يده في يد الدولة القديمة ممثلة في قايد السبسي، وإن كانت في الأولى فعلت هذا ضد الحليف المهم المنصف المرزوقي، فإن الهدف هذه المرة يكون لحصار غير الحليف وهو قيس سعيد، الذي قد يخرق السفينة دون إدراك كامل لما يفعل، فلو ضربوا على يده لنجا ونجوا جميعاً، ولو تُرك لغرق وغرقوا جميعاً.
كأزمة مصر:
إن أزمة تونس الثورة كأزمة مصر، فالثوار ليسوا على قلب رجل واحد، ومن بين الائتلافات التي شاركت في الثورة في مصر من في حكم من نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، فالعداء للتيار الديني دفعها للانتحار، والأمر نفسه في تونس، والذي يعطل من نجاح الهدف أن الجيش في الخضراء بعيد عن السياسة، فماذا لو حضر بقرار رئاسي غير مسؤول، في ظل حالة النفخ في الكير، التي تقوم بها قوى الاستئصال السياسي؟
ليس أمام النهضة إلا أن تتجاوز هذا الحصار بالذهاب بعيداً.. مجبر أخاك، وإلا.. فالمؤامرة لم تسقط ولكنها رحلت، والغنوشي كان في حكم من نجح على "الحركرك" أي على الحافة، وليس انتصاراً كاسحاً كما يتوهم البعض!
والمركز الإقليمي للثورة المضادة يسري عليه ما قاله شارل ديغول: "أيها الفرنسيون لقد خسرنا معركة لكننا لم نخسر الحرب"!
وهذا صحيح!