هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: معارك مصالي الحاج مع الاعداء والخصوم.
الكاتب : محمد برغام
طبعة خاصة 2019
عدد الصفحات: 269 من الحجم المتوسط
مقولة المنتصر هو من يكتب التاريخ تنطبق تماما على زعيم الحركة الوطنية في الجزائر أحمد مصالي الحاج، الذي يقر أعداؤه قبل أصدقائه أنه اول صوت سياسي جزائري طالب بالاستقلال التام عن فرنسا الاستعمارية بعد الحرب العالمية الأولى والتي تعد نهاية مرحلة الثورات الشعبية المسلحة التي عرفتها الجزائر منذ أن وطئت ارجل الاحتلال الفرنسي العسكري أرض الجزائر في 1830، لتكون نهايته الموت منفيا في العاصمة الفرنسية في الثالث من حزيران (يونيو) من عام 1974، أي بعد 12 سنة من استقلال بلاده، بعد ان سبقه تلامذته في الأحزاب الوطنية التي أسّسها، وسبقوه لتفجير الثورة، وقد آنفت نفسه أن يكون تحت مسؤولية من كانوا مناضلين بسطاء في تنظيماته السابقة، حين جاء الاستقلال ليجد نفسه مصنفا في زمرة المنتكسين والخونة وفق أدبيات التاريخ الرسمي.
ومنذ الاستقلال لم تتوقف محاولات بعض المؤرخين والمريدين تقديم الصورة الأخرى للزعيم التاريخي الكبير أحمد مصالي الحاج للأجيال الجديدة، وآخر هذه المحاولات كتاب المناضل في الحركة الوطنية والسفير السابق محمد برغام الذي أسماه "معارك مصالي الحاج مع الأعداء والخصوم".
الهوية شرقية والتنظيم يساري
تشابهت المنطلقات الفكرية والتنظيمية للأحزاب الوطنية الاستقلالية في بلدان المغرب العربي وبالأخص تونس والجزائر والمغرب منذ نشأة الحركة الوطنية بعد الحرب العالمية الأولى، فتنظيميا كان تأثير أحزاب اليسار الأوروبي وبالخصوص منها الحزب الشيوعي الفرنسي على ولادة جل الأحزاب في البلدان المغاربية الثلاثة مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى وعلى أسلوب نشاطها، حتى أن حزب نجم شمال إفريقيا الذي اسّسه عدد من الشباب المغاربي المهاجر بفرنسا كان له ارتباط تنظيمي بالحزب الشيوعي الفرنسي، عن طريق عبد القادر حاج علي القيادي الشيوعي الجزائري المكلف من قبل سكرتير الحزب الشيوعي الفرسي "بيار سيمار" باستقطاب الشباب المغاربة عن طريق نجم شمال إفريقيا.
ولم تكن المطالب المادية والاجتماعية والصراع الطبقي هي غاية المناضلين المغاربة، وإلا كانت مطالب "التجنيس" والاستفادة من نفس حقوق المستوطنين الفرنسيين التي دعا إليها عدد من أبرز النخب الليبيرالية في البلدان المغاربية الثلاث كفيلة بذلك، بل كانت الغاية المعلنة في كل أدبيات الأحزاب الوطنية المغاربية قبل الحرب العالمية الثانية هي المطالبة سياسيا وسلميا بالاستقلال التام عن فرنسا.
وهكذا تمكنت أحزاب الدستوري بزعامة عبد العزيز الثعالبي ثم الحبيب بورقيبة في تونس، ونجم شمال إفريقيا ثم حزب الشعب بزعامة مصالي الحاج في الجزائر، وحزب الاستقلال بزعامة علال الفاسي في المغرب، من قيادة حركات التحرر في أقطارها بعد أن استفادت من التجربة التنظيمية لأحزاب اليسار لصناعة أحزاب تقوم بنيتها الفكرية على الهوية العربية الإسلامية، وجدت فيها شعوب الأقطار الثلاث أفضل قائد في طريق التحرر والانعتاق.
كانت الغاية المعلنة في كل أدبيات الأحزاب الوطنية المغاربية قبل الحرب العالمية الثانية هي المطالبة سياسيا وسلميا بالاستقلال التام عن فرنسا
ويرجع المؤلف محمد برغام نجاح الاحزاب المغاربية الثلاثة ـ وفي القلب منها حزب أحمد مصالي الحاج في الجزائر ـ في تحقيق هذا التوازن إلى الرعاية الفكرية المباشرة التي كان يوفرها الأمير شكيب أرسلان من مقر إقامته في جنيف السويسرية. / ص 43.
وحملت نجاحات زعماء تلك الأحزاب المتفاوتة في قيادة بلدانها نحو الاستقلال من الموروث التنظيمي والفكري السالف ظاهرة الزعيم الأوحد الذي لا يُعارض ولا يُخطّئ ، وهو ما كانت له انعكاسات بعضها دام على مسيرة الاستقلال وما بعده.
مصالي بين مرض الزعامة وعقوق الأبناء
خصص السفير السابق والمناضل في حزب الشعب الجزائري محمد برغام الفصول الأولى لكتابه لمحاولة الدفاع عن ريادة ابن مدينته تلمسان في الدعوة لاستقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي، ودفعه تضحيات جسيمة مقابل ذلك ليس أقلها تكرار اعتقاله ونفيه وحل حزبه ومصادرة ممتلكاته...
كما اعتبر الكاتب أن مصالي الحاج أبو الخيار الثوري العسكري لتحقيق الحرية بقراره إنشاء "المنظمة العسكرية السّرية" في 1947، التي اختير محمد بلوزداد اول رئيس لها.
وأورد محمد برغام عدة شواهد أخرى تؤكد على هذا الرأي، وأيضا تشكك في جهود الأحزاب والجمعيات والشخصيات الوطنية الأخرى ودورها الوطني ومنها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وقادة حزب الشعب الذين اختلفوا مع مصالي وعلى رأسهم الدكتور محمد أمين دباغين وبن يوسف بن خدة وغيرهما.
ولجأ الكاتب محمد برغام لإثبات استنتاجاته إلى تصريحات بعض المؤرخين والمناضلين الذين عايشوا المرحلة، ولكنه وقع هنا في مطب يعيب بحثه التاريخي من ناحية المنهجية العلمية الصرفة، حيث أن كل مصادره ومراجعه هنا هي لأنصار مصالي والمؤيدين لزعامته وريادته الناكرين لأي دور للشخصيات المخالفة له حتى منها الشخصيات الثورية التي قادت تفجير الثورة المسلحة قبل "الزعيم سي الحاج" وعلى رأسهم "محمد بوضياف" وبعضهم استشهد فيها مثل "رمضان عبان" مثلا. / ص 169 و171.
وأجهد محمد برغام قلمه في محاولة إقناع القارئ أن الثورة هي من صناعة أحمد مصالي الحاج، وأن "الزعامة" حق لا يجوز أن ينازعه عليه احد، حتى لو كان ذلك الأحد هو أغلبية قيادة حزبه "اللجنة المركزية" أو حتى "المجاهدين" الأوائل الذين أشعلوا ثورة الفاتح من تشرين ثاني (نوفمبر) 1954.
والقضية هنا لم تكن جزائرية صرفة فالعديد من الكتابات التاريخية العربية المعاصرة تحتكر صناعة الوعي التحرري والنضال الشعبي لزعماء أحزاب الاستقلال، فهم الملهمون وهم المرشدون وصناع الاستقلال، وإن حدث أي خلاف للزعيم مع مؤيديه وإطارات حزبه وحتى مع التنظيمات الوطنية الاخرى فذلك في نظر مؤرخي الزعامات العربية خيانة منهم للزعيم وللوطن ووصل الحد ببرغام إلى القول: ".. والتاريخ الذي يكتب بدون ذكر مصالي يكون تاريخا ناقصا ومبتورا أو أجوفا". / ص 201.
هل سرق جمال عبد الناصر الثورة الجزائرية من مصالي؟
عشاق مصالي الحاج وسدنة كرسي زعامته لم يجدوا ما يعلقون عليه تأخره في إعلان الثورة التحريرية المسلحة أسوة بما بادرت به الحركة الوطنية في تونس والمغرب، إلا مشجب الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر ومخابراته، حيث اعتبر محمد برغام (الذي عمل سابقا دبلوماسيا في القاهرة) أن ضابط المخابرات المصري فتحي ذيب ومن ورائه الرئيس جمال عبد الناصر كانت لهما اليد الطولى في منع قيادة أحمد مصالي الحاج للثورة التحريرية الجزائرية (1954 ـ 1962)، خاصة بعد توقيف رجال المخابرات المصرية للمناضلين أحمد مزغنة والشاذلي المكي بمطار القاهرة مباشرة بعد توقيعهما لميثاق القاهرة لتوحيد الحركات الوطنية تحت قيادة مصالي الحاج حسب الكاتب. / ص 186.
والغريب أن الكاتب محمد برغام لم يجد ما يبرر اتهاماته لجمال عبد الناصر بإبعاد مصالي الحاج ومساعديه لصالح أحمد بن بلة ورفاقه، إلا بحجة أن الزعيم المصري لم يكن يرتاح لمصالي "لكونه زعيما عربيا وإسلاميا معروفا عالميا الأمر الذي لن يترك الميدان لعبد الناصر وحده". وهو مبرر يبدو غريبا إذ كيف لرئيس تنظيم محلي في الجزائر انفض عنه جل اتباعه، وجاء يطلب الدعم والمساندة ينافس الرئيس المصري الذي كان قد انفرد حديثا بقيادة حكومة الثورة المصرية عقب إبعاده لرفيقه السابق لمحمد نجيب، كما أن أحمد مصالي الحاج كانت لغته العربية الفصحى ضعيفة جدا، وجل خطاباته باللغة الفرنسية أو بالدارجة المحلية، فكيف ينافس جمال عبد الناصر أو غيره من الزعماء العرب!!
الثورة التي نكص عنها "الزعيم"
تجنب الكاتب محمد برغام الحديث عن دور مصالي الحاج وأتباعه في الثورة التحريرية بين 1954 و1962، إلا في صفحات معدودة، متهربا من الإجابة عن السؤال الذي يطرحه كل من قرأ سيرة الرجل: لماذا لم يدعم "الزعيم" أبناءه من الوطنيين والثوريين الذين بادروا بإشعال الثورة المسلحة في الفاتح من تشرين ثاني (نوفمبر) 1954؟
ثم لماذا لم يتبرأ من مجموعات الحركة الوطنية الجزائرية المسماة اختصارا "الامانا" التي قاتلت ثوار جبهة التحرير الوطني أكثر من مقاتلتها للمحتل الفرنسي، والتي كانت تدين بالولاء لشخصه روحيا بل وتفرض على كل جندي منها القسم على صورته التي يحملها في جيبه، وقد تسبب هذا التنظيم في سقوط الآلاف من الشهداء، دون أن يصدر أحمد مصالي الحاج بيانا يبرئ فيه جانبه من تلك الدماء حتى الأيام الاخيرة قبيل الاستقلال في 1962. على الرغم من غضبه الشديد من الاتفاقية التي أبرمها قائده العسكري بلونيس مع الجيش الفرنسي لتسليحه، بعد مجزرة ملوزة التي وقعت في 29 أيار (مايو) 1957، وتبرئه من تلك الاتفاقية.
عشاق مصالي الحاج وسدنة كرسي زعامته لم يجدوا ما يعلقون عليه تأخره في إعلان الثورة التحريرية المسلحة أسوة بما بادرت به الحركة الوطنية في تونس والمغرب، إلا مشجب الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر ومخابراته،
محمد برغام في كتابه الأخير "معارك مصالي الحاج مع الأعداء والخصوم" لم يجد أي خطأ لمن يسميه بـ "أبو الوطنية" في حين جهد في جمع ما اعتبره خطايا قادة الثورة التحريرية التي جاءت بالاستقلال للجزائر عن المستعمر الفرنسي، وبالخصوص محمد بوضياف (رئيس المجلس الأعلى للدولة قتل في 1992) ورمضان عبان (قتل في المغرب على يد رفقائه في القيادة عام 1957) واعتبرهما رأس الحربة في نزع القداسة والزعامة عن مصالي الحاج قبيل الثورة وأثناءها، لأجل الاستحواذ على القيادة والزعامة لنفسيهما، واعتبر دعواتهما للقيادة الجماعية للثورة التحريرية كانت حجة فقط لإبعاد "الزعيم الأكبر" وقتل أتباعه، وقال برغام: "...جبهة التحرير الوطني اعطت الأوامر إلى أفراد جيش التحرير الوطني أن يعطوا ظهورهم للجيش الفرنسي ويوجهون أسلحتهم إلى أنصار مصالي الحاج" . /ص 178.. وهي اتهامات لم يشر الكاتب إلى أي مصدر لها.
التاريخ يكتبه المنتصر
بعد قرابة ستة عقود من استقلال البلدان المغاربية التي كانت تحت نير الاحتلال الفرنسي، لا تزال إلى حد الساعة صفحات كثيرة من تاريخ النضال من أجل الاستقلال وجهود المؤسسين الأوائل مغموط حقها في التاريخ الرسمي لتلك الدول، بالرغم من زوال المخاوف من المنازعة على المناصب بعد رحيل كل تلك الزعامات، فأسماء مثل عبد الكريم الخطابي في المغرب وعبد العزيز الثعالبي في تونس وأحمد مصالي الحاج في الجزائر، تستحق أن تسلط أضواء المؤرخين عن الجوانب المخفية من سيرهم ونضالاتهم بدون أحكام مسبقة.
كما تستحق الأجيال الجديدة أن تعرف سير ونماذج "محلية" بما يثري الذاكرة الجمعية، والميراث الوطني بما يعزز اللحمة، بعيدا عن الأخطاء والصراعات التاريخية على كرسي الزعامة الذي دُفن مع أصحابه.