قضايا وآراء

لبنان والحاجة إلى عقد اجتماعي جديد

امحمد مالكي
1300x600
1300x600

كشفت فاجعة انفجار مرفأ بيروت، يوم الرابع من آب/ أغسطس الجاري، عن حاجة لبنان إلى صيغة جديدة للعيش المشترك، أفقيا بين مختلف مكوناته الاجتماعية، وعموديا بين مجتمعه وكامل مؤسساته الدستورية، ونخبه السياسية والاقتصادية والمالية.

ويبدو واضحا أن الصيغة التي تمت على أساسها إعادة بناء لبنان الحديث (الميثاق الوطني 1943)، لم تُمكّن اللبنانيين من الاندماج الكامل والعميق في سيرورة إرساء وترسيخ دعائم مجتمعهم ما بعد الاستقلال واسترداد السيادة الوطنية. فقد ظل لبنان فسيفسائيا على مستوى تكوينه الاجتماعي متعدد الولاءات، غير قادر على توحيد انتسابه السياسي لكيان واحد وموحد اسمه الدولة.

ولأن الولاء لم يكن حصريا للدولة، بوصفها إطاراً دستوريا وسياسيا، وبيتاً للعيش المشترك، ظل المجتمع منشقاً على نفسه، تتنازعه الولاءات والانتماءات، كما ظلت سيادته مجالاً مفتوحا على الاختراقات الإقليمية والدولية، فكانت الحرب الأهلية التي مزقت البلاد وأضعفت كيانها لسنوات عديدة (1975-1990)، بعدما نخرت التوترات الداخلية والاغتيالات السياسية جسم المجتمع منذ إعلان الاستقلال الوطني (1943).

ولئن حاول اتفاق الطائف (1989) إيقاف الحرب الأهلية التي دامت قرابة خمسة عشرة سنة؛ حصدت خلالها ما قُدر بـ120 ألف قتيل و76000 من المشردين ومليون نازح، وإعادة بناء السلطة وتوزيعها بين المكونات اللبنانية، فإن المنظومة العامة الناظمة للدولة والسلطة لم تستقر بما يكفي، وسرعان ما عادت دورة الأزمات إلى لبنان من جديد.

 

فتح انفجار مرفأ بيروت المجال لكثير من الأسئلة حول حال لبنان، والآفاق الممكنة للخروج من وضعه العام الذي يزداد تعقيدا منذ سنوات

أعاد انفجار مرفأ بيروت بقوة المعضلة اللبنانية، ولأن وقع الفاجعة كان مهولاً، ونتائجها البشرية والاقتصادية والمالية كبيرة، فإن ردود فعل الشعب اللبناني كانت قوية، ومختلفة نوعيا عن حركة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، من حيث درجة الغضب، ونوعية الشعارات المرفوعة، وإرادة الاستمرار والصمود. كما أن التعاطف الإقليمي والدولي كان واضحا، وحمل دلالات عميقة بالنسبة لبعض القوى ، كما هو حال فرنسا، التي زار رئيسها بيروت مباشرة بعد الانفجار، وحمل رسائل سياسية للطبقة السياسية والشعب اللبناني معا.

فتح انفجار مرفأ بيروت المجال لكثير من الأسئلة حول حال لبنان، والآفاق الممكنة للخروج من وضعه العام الذي يزداد تعقيدا منذ سنوات.

فمن جهة، هناك واقع مركب، شديد التداخل والتعقيد، وهو في كل الأحوال محصلة تطور طويل، يقارب عمره أكثر من سبعين سنة، أي منذ الاستقلال والإعلان عن الميثاق الوطني لعام 1943، الذي رسم إطاراً لتوزيع السلطة واقتسامها بين الطوائف والفرقاء السياسيين، وخلق نوعاً من "المحاصصة" على أساس نمط ولاء طائفي، وليس على قاعدة مواطنة ضامنة حقوق وواجبات الجميع، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية والعشائرية، علما أن دستور لبنان التأسيسي لعام 1926 لم ينص قطعاً على مبدأ توزيع السلطة على أساس طائفي، ولم ينظم هذه الأخيرة على أساس ديني أو إثني.

فهكذا، كرّس خروج الانتداب الفرنسي سنة 1943 وضعاً بعيداً عن روح المواطنة ومتطلباتها، وإن صدرت وثيقة "الميثاق الوطني" (1943) بتوافق القيادات اللبنانية (الشيعة والسنة والموارنة)، واستناداً إلى التوزيع الذي أسست على قاعدته الشرعية الجديدة للسلطة، بل وفق روحه تمّ الإعلان عن استقلال لبنان الحديث.

فبغض النظر عن الجدل القائم حول من كان وراء هذا الميثاق: هل الانتداب الفرنسي ورغبة قادته (فرنسا) في تكريس الطابع الطائفي للبنان؟ أم أنه نتاج لتوافق إرادتي "السنّة" (رياض الصلح)، و"الموارنة" (بشارة الخوري)، فإن الميثاق، في كل الأحوال، وُلد وفي أحشائه أحكام ذات طبيعة دستورية (أعراف) ستُرهن تطور لبنان، ووتتحكم في آفاق مستقبله.

وحتى حين دمّرت الحرب الأهلية (1975-1990) لبنان، وأوقفت تطوره، وأجبرت النخبة اللبنانية على البحث عن صيغة جديدة لاستعادة الكيان اللبناني بدعم إقليمي ودولي، لم تتوصل في اتفاق الطائف (1989) إلى تعاقد جديد يجُبُّ روح "الميثاق الوطني"، ويؤسس واقعاً جديداً، بل حافظت على كل ما هو جوهري في أحكامه، وأدخلت تحويرات جديدة في موضوع توزيع السلطة بين المؤسسات الدستورية الثلاث، وعلى وجه الخصوص بين السلطتين التنفيذية (رئيس الدولة) والتشريعية (البرلمان)، وفي علاقة رئيس الوزراء بهما، ناهيك عن إقحام ترتيبات إقليمية (الوجود السوري في لبنان، والخروج الفلسطيني منه)، ودولية (استمرار حضور القوى الكبرى، لا سيما الأمريكية والفرنسية)، وبروز فاعل جديد سيكون له التأثير البالغ على الحياة العامة في لبنان (ظهور حزب الله، ومن خلاله النفوذ الإيراني).

 

هل بمستطاع لبنان تقويض البنية السياسية والمؤسساتية القائمة برمتها، ووضع أخرى بديلة، مختلفة جذريا عنها؟

يوجد لبنان إذن أمام وضعية دستورية وسياسية مركبة، كما يعيش أبناؤه تعايشاً اجتماعيا، ينطوي على عناصر التجاذب والتنافر أكثر مما يحوي على مقومات التعاضد والتكافل والتآزر. وفي غياب وجود دولة حاضنة للجميع، ويدين لها الجميع بالولاء، تبدو حظوظ الخروج من المعضلة اللبنانية صعباً ومعقداً، وربما بعيد المنال.

هل بمستطاع لبنان تقويض البنية السياسية والمؤسساتية القائمة برمتها، ووضع أخرى بديلة، مختلفة جذريا عنها؟ ثم كيف يمكن للبنانيين في ضوء واقعهم الوطني والإقليمي والدولي، القيام بهذا التعيير الجذري لمنظومتهم؟ أم أن ما هو ممكن ومتاح أمام اللبنانيين، لا يخرج عن منهجية الإصلاح التدريجي المُفضي إلى التغيير الجذري؟ وحتى على صحة هذه الفرضية، هل يقدر اللبنانيون وحدهم على إنجاز هذا المشروع؟ أم أنهم في حاجة إلى دعم دولي وإقليمي؟

ومن جهة ثالثة، هل المطلوب الآن، في ضوء فاجعة انفجار مرفأ بيروت، إعادة بناء المرفأ، وإعمار لبنان، وإخراجه من ضائقته الاقتصادية والمالية، عسى أن تُعاد الثقة إلى نفوس أبنائه، كي ينطلق بروح جماعية وثابة نحو الإصلاح المتدرج، أو التغيير الجذري؟ ومرة أخرى، ما هي حظوظ هذا الطريق؟ وما هي ممكناته؟

التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الإثنين، 10-08-2020 08:49 م
... الكاتب الكريم أستاذ جامعي مغربي، وأقام لسنوات في مسقط يواصل فيها عمله الأكاديمي الحقوقي، ومقاله هنا يقدم تحليلاً ضافياُ للأوضاع السياسية الداخلية في لبنان، متضمناً انتقادات واقتراحات معتبرة، رغم تركيزه بحكم تخصصه على الجوانب الدستورية والقانونية، ولا اعتقد أن غالبية اللبنانيين سيرون في ذلك تدخلاً في شئونهم، فالتضامن والترابط العربي وتشابك المصالح حقيقة واقعة، ورغم تفرد لبنان بنظام دستوري وسياسي طائفي، وعلى كونها تستخدم أدوات مستعارة من النظم الديمقراطية، فمن الناحية الشكلية فهناك حرية لتكوين الأحزاب السياسية وإعلام خاص مستقل، واختيار للسلطات التنفيذية والتشريعية بالانتخاب الحر، وحرية النشاط الاقتصادي مكفولة، ورغم ذلك فتبقى حقيقة أن أوضاعها السياسية والاقتصادية في كثير من جوانبها ونتائجها شديدة التشابه بغيرها من الدول العربية ذات الأنظمة الشمولية الدكتاتورية، والمدهش أن يصل هذا الشعب المثقف الواعي بمصالحه الوطنية والممتلك لأدوات التأثير في نخبته السياسية الحاكمة إلى ذلك الحضيض السياسي والاقتصادي الذي وصل إليه، فاللبناني له ذكاء ووعي اجتماعي وكفاءة في تسيير أعماله الخاصة، ولكنه ظن كغيره من المواطنين العرب أنه يستطيع أن يتقدم في حياته الخاصة في وجود الحكومات والطبقة الحاكمة الفاسدة، ويعتقد أنه إن ابتعد عن مقاومة فساد الحكام، فيستطيع أن ينجوا من قمعهم ونتائج فسادهم، والنتيجة أن الحضيض الذي تردت إليه غالبية الدول العربية تحت حكم الحكومات القمعية المستبدة الفاسدة ستؤدي لامحالة إلى موجة ثورية قادمة وصدام لا يمكن تجنبه.