قضايا وآراء

"فهم عربي" لتفجير بيروت..

نزار السهلي
1300x600
1300x600
من الأمور التي أصبح الاتفاق عليها كاملاً، أن تفجير بيروت وتدمير مدن عربية أخرى في سوريا واليمن والعراق وليبيا ومصر، أسقط مفاهيم كثيرة كانت سائدة في بديهيات الواقع العربي، وأصبح مواطن الشوارع والساحات والحواري والأزقة يدرك متطلبات مواجهة هذه الحقائق، والحاجة القصوى لتغييرات عميقة في الواقع السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي؛ بدأها مع الثورات التي أمل منها في إحداث هذا التغيير، خصوصا بعدما ساد انطباع دوام وقدرية الاستبداد والفساد إلى ما لانهاية، وترتبت عليه نتائج خطيرة جداً، أدت إلى سقوط وتراجع الفاعلية العربية على مختلف المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

فالتفجير الذي حصل في بيروت مسح بلمحة عين أثر العاصمة الأهم، والدمار الذي لحق بمدن عربية أخرى مسح حواضر وأوابد تاريخية.

المواطن العربي المفجوع والمهزوم من بغداد إلى دمشق والقاهرة وصنعاء وبيروت وبنغازي، لا تحمل له مؤشرات الواقع دلائل مشجعة على نهاية مأساته، والمواطن المقموع في الرياض وأبو ظبي والمنامة يرى كل يوم اندفاعات جديدة نحو هاوية الظلم والتسلط والقهر. لكن يمكن القول سلفاً إن القانون الطبيعي الذي يرافق الكوارث، وما يترتب عليه سياسياً واقتصاديا، يسود بمنطق بقاء الصراع العنيف بين السلطة والمجتمع. وقد كانت لشرارة الربيع العربي علامة فارقة في تدمير جدران الخوف والرعب، وأنهت منطق الطاغية والسلطة الفاسدة.

سيكون للرابع من آب/ أغسطس على الصعيد اللبناني، تأثيرات هامة توفر الأساس الموضوعي لاستكمال الثورة على الطبقة السياسية، وتزيد الضغط على لوردات الطوائف وأمراء الفساد. ومثلما ولدت شرارة الربيع العربي من جو إشاعة أسباب التفقير والظلم والقهر وانعدام الكرامة الإنسانية، ولعبت دوراً فعالاً في إعادة الشعور بقيمة هذه الأسباب، وفي خلق أجواء الثقة بالنفس وانعدامها بالسلطة القائمة وأحزابها وبرامجها المذلة والمهينة للإنسان، فإن تعاظم الأسباب والظروف الموضوعية للواقع هي الشيء المتحرك في عالم الجمود للنظام الرسمي العربي، في مواجهة كوارث سابقة وأخرى قادمة.

حجم الدمار الذي لحق بمدن عربية في سوريا والعراق واليمن وغزة ليبيا، وتدمير ميناء بيروت، يدل على ضعف هائل في بنية أنظمة وأحزاب ما زالت ترفع شعارات قومية وثورية ومقاومة، جميعها سطحية، وتدل مواقفها في مسيرة الخراب الحاصل والفساد الناخر لبنيتها وعملها على الارتجالية البعيدة؛ عن عدم ملامسة جوهر الأفعال المرتبطة بكرامة وحرية ومواطنة الإنسان، دون قولبته في شعارات طائفية ومذهبية وثورية يقصد منها في النهاية الثورة المضادة على الثورات.

وبكلمة قصيرة كانت الاستراتيجيات الرسمية للنظام العربي وستبقى مفتقرة للمضمون الذي يشير إليه شعارها، ويبتعد عن المضمون العلمي والأسلوب الصحيح في حماية الإنسان ورعايته. وبقيت فكرة المؤامرة برنامج عمل وشعارا مطروحا لإخفاء كل العجز والتستر على الفساد والجرائم المنتجة لخراب الأوطان.

الفهم الغريب والعجيب، الذي تقدمه برامج الأحزاب والحركات لواقع عربي منحدر، والوسائل التي قدمها النظام العربي لمواجهة تحديات كثيرة؛ تُبقي الاحتمال مفتوحا على مزيد من الانهيارات، وتخلق مناخا ثوريا متجددا نقله الواقع منذ عشرة أعوام من مرحلة الزيف إلى مرحلة الحقيقة، وأذاب التناقضات في لعبة الغموض والكلمات العامة عن النكبة والكارثة والفاجعة والمؤامرة، وقزم عملية التضخيم الإنشائي للشعارات في ذروة استهداف العربي وقهره وقتله وسحله.

لا فرق هنا بين أن يموت الإنسان قهراً من ظلم وفساد أو من بطش الجلاد في أقبية التعذيب العربية، ويذل في مطارات وحدود ومعابر عربية، أو تنفجر به أسطوانة الغاز أو ينهار سكنه عليه بفساد أو ببرميل متفجر، أو يُعتقل مئات الآلاف لخلاف في الرأي، طالما ستار التبريرات يؤمن هروباً من تحليل الواقع.

موانئ عربية لم تنفجر بعد من الفساد وتخزين المتفجرات، لكنها باتت محتلة وكذلك عواصم عربية، ومنها تمرر عصابات القتل وأدوات التفجير والقمع والسلاح، ومنها يتحكم المحتل في الأرض. ومدن عربية كثيرة محطمة بجيوش ودبابات وسلاح "وطني"، والكارثة تبرز عند شرح دور أنظمة فاسدة قمعية ووظيفية متكيفة مع كل هذا الخراب وملتحمة مع المؤامرات التي تدعي محاربتها لقهر الإنسان.

التداعي لنجدة بيروت كانت أطلقته (ولا تزال) حناجر عربية من مدن مختلفة قبل وقوع الكوارث وبعدها.. أطلقه سوريون وعراقيون ويمنيون ومصريون وليبيون ولبنانيون، لكننا لم نشاهد تآزرا بمثل هذه القوة التي تلاحم بها المستبدون والطغاة لنصرة بعضهم، لا لإنقاذ كرامة الملايين من محتل ومستبد.

وسيبقى الفهم العربي لتفجير بيروت دون فاعلية وحيوية، لأنه مجرب في أماكن كثيرة ولم يزل قيد التجريب من فلسطين وغزة إلى حلب وحمص ودرعا وسيناء وطرابلس، وفي المعتقلات والزنازين والبراميل والصواريخ التي تفتك بالأجساد.

twitter.com/nizar_sahli
التعليقات (0)