أفكَار

من المسؤول عن "تونسة" الصراع بين الإخوان وعبد الناصر؟

القوميون والإسلاميون.. خلافات التاريخ والأيديولوجيا تتغلب على تحديات البناء الديمقراطي- (حركة الشعب)
القوميون والإسلاميون.. خلافات التاريخ والأيديولوجيا تتغلب على تحديات البناء الديمقراطي- (حركة الشعب)

بالرغم من جهود المؤتمر القومي ـ الإسلامي، منذ اجتماعه التأسيسي ببيروت في 12 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1994، في تقريب الشقّة بين القوميين العرب والحركات الإسلاميّة، على وجه الخصوص تأكيد البيان الختامي الأوّل على "طيّ الصفحة الماضية، في علاقاتهم، بما حوت من سلبيات وجراحات بعد أن تمثّلوا عبرتها، فمواجهة التحدّيات المُهدّدة لوجود الأمة وهويتها لا بد وأن تجُبّ وتطوي كل ما يشغل عنها من صفحات" وعلى "العزم المشترك لديهما على التجدّد الحضاري للأمة، وفقا للنموذج الحضاري المتميّز بالعروبة والإسلام"، فقد أتت رياح الثورات العربية، على مضغة العمل المشترك وأركستها إلى حيث الصراعات الإيديولوجية المُعطّلة، بدل تمثّل الوعي الثوري والتقاط اللحظة التاريخيّة والاندماج في سياقاتها الجديدة.

وعلى النّحو ذاته في تونس، فإنّ التجربة النموذجيّة من العمل المشترك، بين شخصيات سياسية وحقوقية من مشارب إيديولوجية وفكريّة مختلفة، التي أسّس لها ائتلاف هيئة 18 تشرين أول (أكتوبر) للحقوق والحريات سنة 2005 والتي ضمّت قوميين وإسلاميين ويساريين، اتّحدت ضدّ دكتاتورية نظام الرئيس الرّاحل زين العابدين بن علي، فشلت في حياكة تجربة حكم نموذجيّة، بعدما أتاحت حكومة إلياس الفخفاخ، الحكومة المستقيلة، فرصة التعايش لأوّل مرّة بين معظم الأطراف المؤسسة لائتلاف 18 أكتوبر.

فشل القوميين والإسلاميين في طيّ صفحات خلافاتهم الإيديولوجية وتحييد ارتباطاتهم الإقليمية، فشل أعجزهم عن تنزيل ما كان ينادي به الراحل محمد عابد الجابري، منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي في نصّ له بعنوان "الكتلة التاريخية بأي معنى"، بضرورة استنساخ فكرة "الكتلة التاريخية" الغرامشية وتبيئتها في الفضاء العربي، يُعيد السؤال مُجدّدا حول خلفيات "تونسة" صراع عبد الناصر والإخوان في مصر، خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكلفته الأخلاقية والسياسيّة على كلا الفصيلين، ومدى قدرة طرفي الهوية في تونس على تجاوز نزاع المشرق وأخاديده الغائرة.

اختلاف المرجعيات الفكرية الفلسفيّة


يرى أ.د. مصدّق الجليدي، باحث بمركز البحوث والدّراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة وخبير دولي في التّربية، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ "فلسفة الفكر الإسلامي الإخواني هي فلسفة مقامة على جدلية الغيب والشهادة. بينما فلسفة الفكر القومي الناصري (لحركة الشعب وللتيار الشعبي) مقامة على جدل الإنسان. بدون إنسان لا يحدث تطوّر في التاريخ، بل محض تحولات مادية. بدون إنسان يبقى التاريخ بلا معنى وبلا غاية. ببنما الغاية في الفكر الديني هي العودة إلى الله وهي غاية غيبية حتمية. الغاية في فلسفة جدل الإنسان (عصمت سيف الدولة، نظرية الثورة العرببة، ج1) يصنعها وعي الإنسان. الفكر الإسلامي يشبه فكرا دينيا ماهويا (ماهيات مقررة سلفا) ويشبه جدل الإنسان فكرا وجوديا "الإنسان هو من يوجد الحقائق التاريخية ويصنعها".

خطيئة استيراد صراعات المشرق

يرى الأمين البوعزيزي، باحث في الأنثروبولوجيا، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ "توسّع أطلس الثورة التونسية في مدارات عربية، طالت بعض الدول التي اتخذ حكامها من العروبة أيديولوجيا سلطوية، وتدخُل الامبريالية وبعض الدّول الخليجية المرعوبة من هدير "الشعب يريد إسقاط النظام"، ساهما في تفجير كل ما راكمته ملحمة 18 أكتوبر وحواراتها من مشتركات نضالية، على وجه الخصوص بين العروبيين والإسلاميين، إذ تمّ استدعاء صراعات خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي بين مصر الناصرية وتنظيم الإخوان المسلمين، ناسفة بذلك كل الحوارات والمراجعات التي أنجزها مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت بين هذين التيارين الفكريين. 

 



في ذات السياق، يُشير البوعزيزي إلى أنّه "بينما كان عرب المشرق، بقومييهم وإسلامييهم ويسارييهم، يتطلّعون إلى أن تُشكّل الثورة التونسية حاضنة خصبة للخروج من حالة الانسداد التاريخي الذي طال كبرى تيارات الأمة، وتقيم الدّليل على إمكانيّة إنجاز تسوية تاريخية وبناء كتلة تاريخية قادرة على خوض نضالات مشتركة، لتفكيك منظومة الاستبداد، التي اكتووا بنارها جميعا، وبناء حياة ديمقراطية قادرة على بناء حاضنة مُواطنية للمقاومة، بعدما فشلت تجارب عسكرة المجتمعات باسم "علوية وأولوية المقاومة". لكن للأسف الشديد، تمّ استيراد صراعات المشرق و"تونستها" لتفجير كل ممكنات الثورة التونسية!!!".

انكسار أمواج المشترك على رصيف الحريّة

يشير الأمين البوعزيزي، باحث في الانثروبولوجيا، في تصريح لـ "عربي21"، بأسف كبير إلى ما آلت إليه تلك الرؤية المشتركة لـ"هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات" وروحها النضالية من تلاش وتفكّك بمُجرد الإطاحة بالدكتاتورية، غداة هروب رأس النظام الدكتاتوري يوم 14 كانون ثاني (يناير) 2011، حتى "عاد كل طيف يبحث عمّن يُشبهه أيديولوجيا على حساب من يشبهه نضاليا".

وأضاف: أنّه بالرغم من زخم النضالات التي راكمها معظم مناضلي التيارات السياسية العروبية واليسارية والليبرالية والإسلامية، المنتظمين في نقابات العمال والمحامين والمنظمات الحقوقية والطلابية، الذين خاضوا معا معارك حقوقية طيلة العشرية الأخيرة لحكم الرئيس الرّاحل بن علي، فإنّ الحصاد كان دون مستوى تلكمُ التضحيات، وهاهي خصاماتهم تفتح الباب مُشرعة لعودة القديمة وعربدتها.

ويضيف البوعزيزي بالقول أنّ صياغة وثيقة مشتركة حملت عنوان: "طريقنا إلى الديمقراطية : خلاصة الحوار الوطني بين إسلاميين ويساريين وقوميين وليبراليين: رؤية تونسية مشتركة لأسس الدولة الديمقراطية"، توّجت مسار العمل المشترك لهيئة 18 تشرين أول (أكتوبر)، لم تقو على إدارة الخلافات السياسية والإيديولوجية اللاحقة لثورة، مثلت نموذجا من خارج تنظيمات وسرديات القوى السياسية، التي تصارعت فيما بينها أثناء مقاومة استبداد الدولة ما بعد الاستعمارية، بحقبتيها البورقيبية والنوفمبرية. وهذا ما يجعل معضلة غياب تواصل العمل المشترك سمة كلّ الطيف السياسي التونسي، على وجه الخصوص التيارين القومي والإسلامي.
 
في ذات السياق، يرى البوعزيزي أنّ تقويض فُرص العمل المشترك بين مختلف مكونات 18 أكتوبر، في حكومات ما بعد الثورة، مردّه "انفتاح أحزابهم على العائدين والتائبين، الذين لم يتمرّسوا من قبلُ على ثقافة النّضال المشترك ضد الدكتاتورية، وجرفتهم التجاذبات السياسية الوليدة نحو مُربّع الصّراعات الأيديولوجية التي ألفوها زمن الحياة الطّالبيّة، في سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي، في الوقت الذي تمّ فيه تغييب أصوات من خاضوا النضالات المشتركة والحوارات المشتركة والأرضيات المشتركة!".

ولم يقف الأمر عند الأشهر اللاحقة للثورة، وفق البوعزيزي، فبمجرد الإعلان عن نتائج انتخابات المجلس التأسيسي 23 تشرين أول (أكتوبر) 2011، التي أبانت عن فوز كبير للتيار الإسلامي، "انفلق المشهد السياسي الذي خاض نضالات مشتركة ضد الدكتاتورية ونفخ ثورجيو زمن رخاء الثرثرة في كير الخلافات الأيديولوجية وأصبحوا أصحاب القرار، داخل مؤسسات الأحزاب المناضلة وهيئاتها القياديّة. كلّ هذا بالرّغم من كمّ التّجارب النضالية المشتركة والحوارات الوطنية، التي راكمتها هذه الأحزاب، في سبيل رؤية تونسية مشتركة للدولة الديمقراطية". هذا المناخ السياسي المتشنج والعدائي جعل من التّذكير بالمشتركات الوطنية والنضالات المشتركة ضد الدكتاتورية، جريمة في عيون "ثورجيو زمن رخاء الثرثرة"، يضيف البوعزيزي.

مساع لتعطيل المسار الديمقراطي

إضافة إلى العوامل الذاتية الخاصّة بالأحزاب السياسية، يلقي الأمين البوعزيزي باللائمة على ما أسماها بـ"المنابر الإعلاميّة الواقعة في قبضة الخط التحريري للمنظومة النوفمبرية" في الترويج لـ"تزييف أيديولوجي وقح لطمس شعارات الثورة والدولة الديمقراطية وفرض دعاية "خطر الأخونة الزاحفة على تونس" تماما كما الحال زمن عقدي النوفمبرية اللصوصية الفاشية!

من جهته يرى أحمد غيلوفي، باحث في الفلسفة، في تصريح لـ "عربي21"، أنّه "بالإضافة إلى العوامل الذاتية الخاصة بتاريخ الصراع الأفقي بين القوميين والإسلاميين، الذي يتغذى من تجارب تاريخية تبدأ من "حادثة المنشية" وصدام عبد الناصر مع إخوان مصر، مرورا بالمسالة الليبية ووصولا إلي المسالة السورية، فإننا نكون إزاء جبهة داخلية على غاية من التفكك والصراع، وهو أمر لا يسمح بأية عملية بناء أو نهوض". 

 

 


وأضاف: أنّه من الطبيعي في كل تجاذب سياسي وفي فترة انتقالية متسمة بالتشنج أن تحوم أطياف الماضي وكوابيسه على أية محاولة للعمل المشترك، وأنّه الجميع قد ينساق إلى مربّع تعطيل الجميع، ممّا يضرّ بالمصلحة العامة. وإنّه لمن المؤسف أن يستغلّ أعداء الإصلاح وأعداء الديمقراطية، سواء كانوا قوى خارجية أم لوبيّات داخلية، هذا الصراع وتوظيفه في تعطيل المسار الديمقراطي برمّته، يضيف غيلوفي.

توارث فكر سياسي يقوم على التنافي

يرى أحمد غيلوفي، باحث في الفلسفة، في تصريح لـ "عربي21"، أن مشكل الخلاف القومي الإسلامي في تونس مردّه توارث العائلات السياسيّة التونسيّة لفكر سياسي يقوم على التنافي والإقصاء ووهم امتلاك الحقيقة وتخوين المُخالف وعدم الاعتراف بشرعيته كشريك سياسي.
 
يضيف غيلوفي بالقول أنّ "النخب السياسية التونسية ورثت هذا المنطق عن الدولة الوطنية أوّل نشأتها، بعد ذهاب الاحتلال المباشر، حيث عامل حزب الدستور، حزب الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، القوميين بوصفهم خطرا وُجوديا، يريد أن يربط مصير تونس بالجزائر وبالمشرق العربي ويرفع شعار "الأمة العربية" وهو أمر يتنافى تماما مع فكرة "الأمة التونسية"، التي طرحها بورقيبة. كما تمّت معاملة الإسلاميين بوصفهم شرّا مُستطيرا يُهدّد علمانية الدولة ومدنيتها ويرفع شعار "الأمة الإسلامية".

الصراع القومي الإسلامي يهدد المسار الديمقراطي

ينبّه أحمد غيلوفي ممّا أسماها بالكلفة الباهظة المحتملة لتواصل الصراع بين القوميين والإسلاميين في تونس: أولى هذه النتائج تتعلّق بـ"بقاء التجربة الديمقراطيّة هشة على الدوام وتظلّ تعاني من عدم الاستقرار الحكومي والاجتماعي، وهو أمر أصبح يستنزف صبر الناس على المسار الديمقراطي ويُهدّد بعملية نكوص خطيرة قد تُعيدنا إلي الوراء. ثانيا، "سيترك الصراع القومي الإسلامي انطباعا لدى الناخب بأن القوى السياسية الجديدة، التي تقلّدت الحكم بعد الثورة، هي قوى لا تصلح للحكم وغارقة في صراعاتها التاريخية، وهو ما من شأنه أن يعطي انطباعا خاطئا بأنّ القوّة السياسية الوحيدة القادرة على الحكم هي المكوّن الدستوري ـ التجمّعي".  

ويضيف غيلوفي بالقول أنّ "اخطر من هذا كله: سيدفع الصراع كل طرف إلي سباق محموم من أجل الاستقواء على الآخر، فيدير تحالفات مشبوهة سواء مع الفساد أو مع قوى فاشية أو مع أطراف خارجية، وهو ما سوف يؤثر على مصداقية كليهما لدى المواطن الراغب في الكرامة والسيادة ومكافحة الفساد".

ويضيف غيلوفي ليؤكّد على أن "خيار التنافي بين القوميين والإسلاميين في تونس، سيجعل الصراع لا يقف عند حد، فيمتد إلى كلّ الأطراف ويصبح مُعمّما، فنكون إزاء حرب الكل ضد الكل، وذلك لأن الخلاف العقائدي بين القوميين في تونس واليسار أو المُكون الدستوري ـ التجمعي هو أكثر حدة منه بين القوميين والنهضة (انظر عصمت سيف الدولة "عن العروبة والإسلام").


الصراع القومي الإسلامي يخدم تيّار التطبيع مع الصّهاينة

يرى أحمد غيلوفي أنّ عدم اهتداء القوميين والإسلاميين إلى مصالحة تاريخيّة من شأنه أن يدفع إلى تشكل سريع وقوي لما أسماه بمحور التطبيع ومعاداة أشواق الشعوب في التحرر والكرامة والديمقراطية. مشيرا إلى أنّ هذا المحور يعادي القوميين والإسلاميين على حدّ السواء، وأنّه محور يعادي المقاومة ويعادي مطلب الديمقراطية في نفس الوقت.
 
ثالثا، ان كلا التيارين هما حركات نهضوية في اصل نشأتهما، بمعنى انهما نشآ استجابة للسؤال الحارق "كيف ننهض؟''، وكان ذلك سؤالا ناتجا عن استفاقة العرب على فاجعة الاستعمار المباشر وواقعة التخلف العلمي والتقني إزاء الغرب(انظر علي اومليل "الاصلاحية العربية والدولة الوطنية"، كذلك محمد القاضي وعبد الله صولة "الفكر الاصلاحي عند العرب في عصر النهضة''). ان عملية النهوض، وبعد التجارب المريرة للدولة الوطنية، لا تكون الا مشروعا مجتمعيا ينخرط فيه الشعب بقيادة كتلة تاريخية اقتعنت ان النهضة مشروع لا يمكن ان يقوم به فصيل سياسي واحد. هذه الكتلة التاريخية هي ماسوف يسمح بوجود وحدة وطنية تدافع عن المشروع وتحميه وتتحمل اعباءه واكراهاته، وبدونها يقع الاستفراد بمن يتصدر السلطة بمفرده مهما كانت عبقريته وصدق نواياه.

حتميّة المصالحة التاريخيّة

يؤكّد أحمد غيلوفي أنه إذا سلّمنا بأنّ المُشترك المواطني المنشود بين القوميين والإسلاميين هو "الحد الأدنى من القيم التي يتقاسمها التياران ، والتي تشكل قواعد العقد الاجتماعي التي لا يمكن النزول دونها أو الإخلال بها، مثل السيادة والعدالة الاجتماعية ورفض التطبيع والاحتكام إلي صناديق الانتخاب والتمسك بالديمقراطية وحرية الأفراد في التفكير والاعتقاد والتعبير، فإنّه لا مفر للتيار القومي، ممثلا في حركة الشعب في تونس، والتيار الإسلامي ممثلا في النهضة، إذا كانا جادّين في خوض معركة النهوض ومواجهة تيار التطبيع، من الحوار واكتشاف المشتركات والعمل معا ولو بسقف انتظار بسيط. سيقول كل طرف "لقد جربناهم" ويذكرنا البعض بالحوار القومي الإسلامي وكيف لم يلتزم به الإخوان في مصر، ويذكر الآخر بتجربة الحكم بعد انتخابات 2019 في تونس، ولكن لا مفرّ لهذين التيّارين من مصالحة تاريخية. وأكد يقينه القاطع بأنّ التيّارين سيذهبان إلي المصالحة بقوة الأحداث وقوة التاريخ.

ويذكّر أحمد غيلوفي، باحث في الفلسفة، بأنّ "مراحل الانتقال الديمقراطي تسير وفق الوتيرة التالية: مرحلة الصراع بين النخب حول شكل نظام الحكم في الدولة، ثم مرحلة المفاوضات وتبنّي قواعد النظام الديمقراطي التي تضمن لكل الأطراف حق المشاركة، وأخيرا مرحلة "التعوّد" أي قبول الفاعلين السياسيين للمشترك المواطني كقاعدة التقاء ينطلق منها الجميع، مثلما يؤكّد ذلك علي الدين هلال في مؤلفه: "الانتقال إلي الديمقراطية".

من جهته يرى أ.د مصدّق الجليدي أنّ المواطنة العربية (مراجعة في الفكر الإسلامي)، بل المواطنة الكونية(مراجعة في الفكر القومي)، غدت ضرورة حيوية. ذلك أنّه لا يمكن لتونس مثلا ذات الهشاشة الجيواستراتيجية الهيكلية، أن تنجح بمفردها في تأسيس نموذج ديمقراطي سيادي. وأنّ حل الإشكالات السياسية القائمة، أمر ملح وحيوي للغاية قبل التفكير في إقامة شراكات على المستوى المغاربي، في مرحلة أولى على الأقل، كما لا يمكن لتونس أن تبقى بمنأى عن التكتلات الاقتصادية والجيواستراتيجية الجديدة التي تنسج في عالم اليوم بدون تكوّن تحالفات سياسية قويّة.

 



كما يؤكّد الجليدي على أنّ اعتراف كلا الفصيلين بفضل الإسلام على العرب وعلى تكوين أمهتهم، وتبنيهما لمنظومة القيم الإسلامية وتسليمهما بالمكوّن العقدي والعبادي للشريعة، فإنّ الخلاف الفكري بين الفريقين يمكن حله بأن يخطو كل منهما خطوة مراجعة نقدية لمنظومته الفكرية للالتقاء على الأرضية الفكرية الآتية: أولا: الإنسان الخليفة هو من يصنع التاريخ بفقه سننه والعمل بها، وهي سنة الله في الذين خلوا من قبل. ففلسفة القرآن تطرح فعلا صيغة من صيغ جدل الإنسان. ولكن في إطار كوني..

ثالثا: جدل الإنسان يستوجب شرط الحرية. ولكن الحرية التي نفكر بها اليوم لم تعد فقط بمعنى التحرر من الاحتلال والاستيطان، بل أيضا وخاصة التحرر من الاستبداد وقمع الفكر الحي المؤدي إلى التطور. أي تحقيق الديمقراطية. ولذا لا يمكن مواصلة تبني أطروحة المستبد العادل، فهي تناقض جوهريا فلسفة جدل الإنسان وقدرة الإنسان على التحرر والتطور، والأمثلة في مصر والعراق وسوريا ماثلة أمام الجميع بوضوح صارخ.

على أهميّة المشترك الفكري بين التيار القومي والإسلامي في تونس، فإن تجاوز جراحات الماضي، في ما يتعلّق بالخصومات التاريخية بين الإخوان المسلمين، بوصفهم المدرسة الفكرية المرجع للحركة الإسلامية التونسية، وبين الرئيس الرّاحل جمال عبد الناصر، يقف على أمرين اثنين: أولهما يتمثل في مدى قدرة الطرفين على الدفع في اتجاه القيام بمراجعات سياسية بعيدا عن دخان التجاذبات الإقليمية وارتهاناتها، وثانيهما مدى وعي الطرفين بأهميّة استثمار المكون الهووي الجامع في مقاومة مجامع استلاب الوعي النيولبرالية والعمل على تونس جديدة تستثمر في المختلف ولا تتصارع فيه.

التعليقات (0)