قد يبدو من الغريب أن نتحدث عن
تونس في مسار
التطبيع الحالي مع الكيان الصهيوني. فالاهتمام العالمي موجه أساسا إلى الدول الشرق أوسطية التي أعلن الرئيس الأمريكي وبعض مسؤولي دولة الكيان أنها ستكون من بين الدول المطبعة قريبا. ولكنّ ما وقع في تونس "الثورة" منذ الفترة التأسيسية مرورا بمرحلة التوافق وانتهاء بالانتخابات الأخيرة التي أوصلت السيد
قيس سعيد إلى سدة الرئاسة؛ يجعل من بلادنا (بحكم رمزيتها في ثورات الربيع العربي واستثنائية مسار الانتقال الديمقراطي فيها، وكذلك بحكم علاقة بعض القوى الإقليمية المطبعة بنخبها الحاكمة) معنية بكل التسويات والتوازنات الجديدة التي ترتبط بما سُمي بصفقة القرن.
ونحن لا تعنينا تونس في ذاتها بقدر ما يعنينا (انطلاقا من هذا
النموذج الديمقراطي وما يسنده من إجماع شعبي على
رفض التطبيع) تدبر المآلات المتوقعة لمسار التطبيع العربي الرسمي مع الكيان الصهيوني، وتأثيراته المحتملة على الموقف الرسمي التونسي، هذا المسار الذي ابتدأ بمعاهدة كامب ديفيد مع مصر (1978) ثم اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين (1993) ومعاهدة وادي عربة مع الأردن (1994)، ولا يبدو حسب الكثير من المؤشرات أنه سينتهي بالتطبيع الإماراتي البحريني مع دولة الاحتلال (2020)، بحكم ضعف الموقف العربي الذي وجد صيغته التطبيعية المثلى والتوافقية في مبادرة السلام العربية التي أطلقها ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله، في قمة بيروت سنة 2002.
خميس الجهيناوي: التطبيع الذي يرسم السياسات الخارجية
لفهم حقيقة الموقف التونسي من التطبيع (وما يحدد ذلك الموقف واقعيا بعيدا عن المزايدات الحزبية والأيديولوجية)، سيكون علينا أن نجيب عن السؤال التالي وما يتفرع عنه من أسئلة مشتقة: ما الذي تغير في تونس بعد الثورة بحيث يمكن التأسيس عليه في بناء موقف "ممانع" حقيقي لمسار التطبيع؟أي ما الذي تغير في العلاقات التونسية مع الكيان الصهيوني منذ إغلاق مكتب الاتصال (أو رعاية المصالح) في تل أبيب؟ وفي أي اتجاه كان ذلك التغيير، في ظل واقع اكتسبت فيه النخب الحاكمة "شرعية انتخابية" دون أن تنجح في التوافق على مشروع وطني لبناء مقومات السيادة والتخلص من واقع التبعية للخارج ولوكلائه المحليين؟
بصرف النظر عن الفشل مرتين في تمرير مشروع تجريم التطبيع أمام البرلمان التونسي، وبصرف النظر عن العلاقات الملتبسة والمشبوهة للعديد من أدعياء الممانعة (خاصة حركة الشعب والاتحاد العام التونسي للشغل) مع عرابي صفقة القرن وصنائعهم في مصر وليبيا، يمكننا اعتبار "المسار المهني" للرجل الأول في مكتب تونس في تل أبيب "حدثا تأسيسيا" للسياسة الخارجية التونسية إلى أيامنا هذه. فهو قد بعث منذ المرحلة التأسيسية برسائل واضحة للداخل والخارج عن سياسات الدولة وخياراتها الكبرى في إدارة هذا الملف. ذلك أن تعيين الجهيناوي منذ 2011 كاتب دولة للشؤون الخارجية، ثم ارتقاؤه بعد ذلك إلى مستشار دبلوماسي للرئيس المرحوم قائد السبسي (2015) ووزيرا لخارجيته (2016) كان رسالة "طمأنة" واضحة للقوى الدولية التي توجّست خيفة من تغير الموقف التونسي بعد الثورة؛ من قضية التطبيع مع الكيان.
التوافق والتطبيع ذو الألف وجه
لقد كان المطبّع خميس الجهيناوي أكبر من شخصية دبلوماسية، وكانت "ترقيته" بعد الثورة أكبر من ترقية مهنية. لقد كان رمزا لسياسة دولة أريد لها أن تبقى رهينة السياسات الخارجية العامة للمنطومة القديمة، كما كان صمت جميع أعضاء المجلس التأسيسي (وباقي الفاعلين الجماعيين) أمام صلف المرحوم قائد السبسي عندما قال باللهجة التونسية "أنا نحكم وحدي" (أي أنا أحكم بمفردي)، إيذانا باستمرار التطبيع، بل بعودة الجهيناوي من مكتب تل أبيب ليصبح هو المشرف على هندسة مجمل السياسات الخارجية.
كانت مرحلة "التوافق" مرحلة تطبيعية بامتياز. فهي ثمرة التطبيع مع المنظومة القديمة ورساميلها الرمزية والبشرية، وهي أيضا ثمرة التطبيع مع الإملاءات الخارجية، خاصة في مستوى الاتفاقيات الاقتصادية غير المنصفة وفي مستوى الخضوع للأوامر "الثقافية"، مثل رفع الاحترازات عن اتفاقية سيداو وعن أنشطة "المثليين"، ولذلك لم تكن مظاهر التطبيع مع الكيان (حفل الصهيوني بوجناح، تكثيف الرحلات من دولة الكيان لزيارة كنيس الغربية بجربة، اغتيال محمد الزواري وشبهات تواطؤ جهات تونسية في هذه العملية.. الخ) غريبة عن هذا الجو "التطبيعي" العام.
قيس سعيد أو مشروع المطبّع الأخير
وقد كان وصول
الرئيس قيس سعيد إلى قصر قرطاج (وهو القائل في حملته الانتخابية "إن التطبيع خيانة") حدثا توقع منه الكثير من التونسيين إحداث قطيعة في شكلي التطبيع الأساسيين خلال مرحلة التوافق بين النهضة ونداء تونس وشقوقه: التطبيع مع منظومة الفساد، والتطبيع مع الكيان الصهيوني وأشياعه. ولكنّ استقراء مواقف الرئيس من هذين "التطبيعين" يجعلنا أمام هوة الاختلاف بين التوقع (مبدأ الرغبة) وما هو كائن (مبدأ الواقع).
فالرئيس التونسي لم يظهر أي رغبة حقيقية في النأي بتونس عن عرّابي "صفقة القرن" من القوى الإقليمية المعروفة (خاصة السعودية والإمارات) وحلفائهم المحليين، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما دعّم الموقف التونسي الرافض لإدانة التطبيع الإماراتي مع الكيان (امتناع ممثل تونس عن التصويت لمشروع القرار الفلسطيني)، وعيّن بعد ذلك الرجل الثاني في مكتب تونس لدى الكيان الصهيوني، طارق الأدب،
سفيرا لتونس لدى الأمم المتحدة.
ومن المهم هنا أن نذكر بأن كل "الممانعين" التونسيين قد صمتوا عن هذا التعيين، كما قد يكون من المهم أيضا أن نشير إلى أن تجنّب كل خصوم الرئيس جعل هذا التعيين محورا من محاور الصراع السياسي معه.
رغم حدّة الصراع السياسي في تونس، فإن مسار "التطبيع الناعم" يظل خارج مدارات الصراع الذي يبدو أن سقفه محدد أساسا في الخارج، وليس نتيجة صيرورات عفوية.
ففي ظل نخب سياسية عجزت عن منع التطبيع مع المنظومة القديمة، وفي ظل قوى "ثورية" و"إصلاحية" عاجزة عن بناء أي توافقات ضرورية لتحقيق مقومات السيادة، وفي ظل توافق عام على مرجعية مبادرة السلام العربية المؤسسة على حق "إسرئيل" في الوجود، يصبح من العبث أن نطالب النخب التونسية (على اختلاف مرجعياتها) بألا تلتحق ولو بعد حين بمسار التطبيع الشامل مع الكيان الصهيوني. فمن لا يفرض قراره السيادي على وكلاء الصهيونية وحلفائها في الداخل، ومن يدير معارك القوى الإقليمية بالوكالة ويتقاطع معها موضوعيا لضرب كل مشروع للتحرر من التبعية والتخلف والمعارك الهووية القاتلة، سيكون عاجزا عن رفض التطبيع مهما كانت مزايداته الخطابية ووعوده الانتخابية.
twitter.com/adel_arabi21