القيم معتقدات راسخة متجذرة في نفس الفرد أو في المجتمع، منها تنتج الدوافع والسلوك والاتجاهات، ومنها تُقوَم الأشياء والموضوعات والأشخاص والأحداث، ومنها يصدر حكم تجاهها، بالرفض أو بالقبول.
ولكل إنسان في هذا الوجود منظومة قيم خاصة به، ولكل مجتمع منظومته. ونقصد بها مجموع القيم التي يؤمن بها ويتخذها عقيدة في الحياة، كما أن لكل فرد ولكل مجتمع سلم قيم خاص تتموضع عليه القيم حسب أهميتها وحاكميتها فيه.
فالفرق في القيم بين الأفراد أو المجتمعات هو في انتقاء القيم ثم في ترتيبها التفاضلي، ثم في نسبة كل قيمة على سلم الحاكمية. ولو دققنا بشكل جيد في هذه المفاهيم لوجدنا أن لكل إنسان بصمته القيمة التي لا يشبهه فيها أحد، وكذلك لكل مجتمع بصمته.
بيد أن علم الأكسيولوجيا ليس دقيقا إلى درجة تسمح بتحديد البصمات القيمية، التي بدأ بعض الكلام عنها مؤخرا دونما القدرة على تحديدها بسبب غياب أدوات القياس الدقيقة والصادقة. لكن الأيام القادمة حبلى بمزيد من الاهتمام بالقيم جراء الطلب الكبير على تفعيلها في ميادين الحياة المختلفة للتعايش وللتقدم الحضاري، الأمر الذي جعل مؤسسة "قيمي هويتي" العالمية تطرح شعارا "بالقيم حياة أفضل لكل البشر".
وبسبب تعدد مهام القيم ووظائفها في حياة البشر جماعات وأفرادا، نجد أن العالم أصبح يولي اهتماما كبيرا بها: في
التربية والتعليم وفي السياسة والاقتصاد وفي الإدارة والتكنولوجيا، وفي الحرب والسلم..
لقد أصبحت كل مؤسسات العالم اليوم، سواء أكانت تعليمية أو تربوية أو اقتصادية أو تجارية أو سياسية أو غيرها، بعدما تُعرف بنفسها وتقدم رؤيتها، تعلن عن القيم التي تلتزم بها وتعمل عليها لتكسب مكانة وتميزا. ولقد أوجد هذا الاهتمام حالة من التطور السريع في العمل على القيم في العالم إلى درجة ظهور تخصص في القيمة الواحدة، وإلى درجة أن مقاطعة كيبك في كندا أصدرت قرارا باجتياز اختبار في القيم للراغبين في العيش أراضيها. وليس هناك راسب مطلق في الاختبار، لأنه بعد عدة محاولات فاشلة تخضع المتقدم للتكوين في قيمها إلى غاية أن ينجح تماما. والنتيجة أنه لا يقيم في أراضيها إلا متشبع بقيمها، أو على الأقل متعرف عليها ويفهم ماهيتها وأهميتها.
يفسر هذا التوجهَ أيضا الاهتمامُ بغرس القيم في الناشئة أو في العاملين أو في المواطنين بشكل عام، وهو ما أسس لظهور استراتيجيات كثيرة ومتنوعة عبر العالم. منها ما يدمج القيم ضمن برامج التعليم، ومنها ما يخصص لها منهاجا خاصا، ومنها ما يتم في المجتمع بالحملات الدعائية والتوعية والبرامج المجتمعية. أي تتم التربية القيمية إما أفقيا على الأفراد أو عموديا في المجتمع.
في العالم العربي بدأ الاهتمام بالقيم متأخرا لكنه يبدو واعدا، ومن رواده إبراهيم الديب وزكي الجلاد وزهير المزيدي وأمجد سعادة وعلى الصيفي وعبد الله الميمان والأستاذة هناء شعبان، حيث أن لكل هؤلاء عملهم المميز والجاد على القيم.
لكن النموذج الأكثر تداولا والذي ينتشر بشكل مطرد هو نموذج إبراهيم الديب الذي يعمل على تأصيل القيمة وتقعيدها أولا، ثم توسيع المفهوم من خلال البحث فيه في علوم مختلفة، ثم تطوير المفهوم بما يقتضيه استشراف المستقبل، ثم يعمل على تفكيك القيمة إلى العناصر الأولية المكونة لها ثم يليها البحث في المهارات السلوكية لكل عنصر، والتي يعمل على غرسها مهارة تلو أخرى وفق مراحل أربع:
- الإثارة والتعريف.
- الفهم والاستيعاب.
- التطبيق والتمرين.
- التعزيز.
ويستخدم في كل مرحلة مجموعة نشاطات علمية وتربوية تستهدف مناحي شخصية المتربي، حسب الخصائص النمائية لكل مرحلة سنية.
مثال: قيمة الصدق
عناصرها أربعة وهي:
- صدق النية ومهاراتها: إخلاص النية لله، تعدد النوايا، ربط الأهداف الخاصة بأهداف الأمة والوطن.
- صدق العزم ومهاراته: التسجيل، امتلاك الخطة، امتلاك الوسائل والأدوات.
- صدق القول ومهاراته: ضبط اللسان، ترك الفضول، التخفف من الوعود.
- صدق العمل ومهاراته: الوفاء بالعهد، الحقوق والواجبات، الإتقان.
لغرس قيمة الصدق يعمل المربي على كل مهارة من هاته المهارات، حيث يثير انتباه المتربي لكل مهارة على حدة ويعرفه بها، ثم يجعله يفهمها من خلال بيان أهميتها ودورها الوظيفي في الحياة، ثم يمرنه عليها لمدة ويعلمه كيفية تطبيقها. وفي النهاية، وبناء على تقويم مدى تمكن القيمة في المتربي وبناء على المقاييس الممكنة، يقوم المربي بعملية التعزيز.
ولا أعرف في حدود ما بذلته من جهد في البحث والاهتمام بالقيم أن أحدا عمل على غرس القيم إلا بالتركيز على القيمة في حد ذاتها، إما باستعمال مكوناتها: المكون المعرفي والوجداني والسلوكي، أو بمكوناتها الدقيقة كما رأينا مع إبراهيم الديب أو بالعمل على القيمة ككل.
مدخل جديد لغرس القيم
تتواجد القيم في الطبيعة على شكل أزواج متضادة (الصدق- الكذب، الأناة- التهور، الحرية- الاستبداد، والربانية- الشيطنة، المسؤولية ربما بقابلها التسيب.. وهكذا دواليك).
وهذا مدخل آخر من مداخل غرس القيم لم يعمل عليه أحد من قبل بشكل علمي مدروس، وهو استراتيجية يمكن تطويرها لتكون المدخل الأول للعمل على القيمة بالطرق التي رأينا سالفا. و بعبارة أوضح أقول إنه عند غرس القيم يفترض أن نعمل على ضدها أيضا، بل أن نبدأ به.
وللإسلام في هذا مشرب ودليل: ففي القرآن الكريم "فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ".
وكان صحابة رسول الله ﷺ يقولون إنه كان يخليهم ثم يحليهم. وكان الصحابي حذيفة ابن اليمان يقول :"كنت أسأل رسول الله ﷺ عن الشر مخافة أن يدركني".
فلتعليم الصدق أوصى رسول الله ﷺ "إياكم والكذب"، وقال إن من آيات المنافق الكذب، ووعد ببيت في الجنة لمن ترك الكذب.
طبعا ليس اعتباطيا أن يولي رسول الله ﷺ أهمية لاجتثاث الكذب، بينما هو يعمل على تعليم الصدق.
فعندما نعلم قيمة الصدق من خلال ضدها كمدخل للقيمة سنعلم المتربي أن هناك عناصر أخرى للكذب، ككذب في القول والعمل والمعاملات والعزم والنية، وسيتعرف على نفسية الكاذب والغشاش وما يحصل على مستوى شخصيته وتقديره لذاته ومقدراته، وما يترتب عليها من سوء على مستوى السلوك وإدراك الواقع والمكانة
الاجتماعية وتطوير الذات..
إن العمل على غرس القيمة بضدها هو منهج وقائي تعليمي للصغار ومنهج علاجي تعليمي للكبار.
ومن وسائل هذا المنهج الشرح والإيضاح والمناقشة العقلية وإعطاء الدليل العلمي والشرعي، وضرب المثال والقصة الهادفة والنمذجة والمقاطع المسرحية والأناشيد التربوية، والأمر والنهي والترهيب وحديث النفس.. وكل الوسائل الممكنة التي جاد بها علم النفس وعلوم التربية والتدريس، على أن تمارس في محضن تربوي صحي وأمن، لا يواجَه المتربي فيها بعقوبات معنوية كانت أم مادية، بل يكون أساسها الحب والتقبل والرحمة والصبر، وعدم ممارسة الإلزام مع الطفل، بل مرافقته ودفعه إلى الالتزام الذاتي البعيد عن أي شكل من أشكال الإكراه.
التربية القيمية هي غوص في أعماق النفس وثتائياها العميقة جدا، حيث نصل إلى ما جُبلت عليه من شر وخير، من تقوى وفجور ومن حب وكره، فنعمل على ثنائيات المغاور فنخلي ونحلي.