قد يبدو من المبالغة أن نتحدث عن الصراع حول إعادة التفاوض على المشترك الوطني (أو الهندسة المجتمعية)، وعلاقة ذلك بتنقيح المرسوم 116 المؤرخ في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 والمنظم لقطاع الإعلام في
تونس (وهو مرسوم رئاسي صدر عن السلطة المؤقتة في الفترة التأسيسية). ولكنّ إلقاء نظرة على طبيعة السجلات اللغوية أو الجمل السياسية التي تتصارع في هذا الملف ينبؤنا بأن الرهان يتجاوز المستوى الإعلامي البحت، ليرتبط بالمستوى المجتمعي وما يعنيه ذلك من إمكان تغيير شروط التفاوض على إعادة هندسة المجتمع بصورة قد لا تتوافق مع أطروحات العديد من الفاعلين الجماعيين، خاصة منهم أولئك الذين يُعرفون أنفسهم بالانتماء للقوى الحداثية والديمقراطية والتقدمية.
المرسوم ومشروع القانون: نحو إعادة بناء الحقل السياسي
رغم أنّ موضوع النزاع هو مرسوم (أي لا يرتقي إلى مرتبة القانون) ورغم صدوره في مرحلة انتقالية يعلم الجميع دورها الكبير في مأسسة أهداف الثورة بصورة تجعل منها مجرد تعديل صوري للمنظومة القديمة، فإن تقدم كتلة ائتلاف الكرامة بمشروع قانون لتنقيح المرسوم 116 أثار عاصفة من الردود، بل من الضربات الاستباقية التي حاولت نزع المشروعية (بل الشرعية) عن الائتلاف بقرار نقابة الصحافيين مقاطعته، والتزام الأغلب الأعم من وسائل الإعلام بهذا القرار الذي يحرم كتلة نيابية من حقها في الوصول إلى التونسيين والدفاع عن أطروحاتهم. وهو أمر كانت له آثار غير مقصودة، لأنه أكّد من حيث لا يقصد حاجة القطاع الإعلامي وهيكله التعديلي (الهايكا) إلى إصلاح جذري يجعل كل الأطراف في مأمن من الاستهداف الممنهج وسياسات الكيل بمكيالين.
بصرف النظر عن صمت
رئيس الجمهورية عن حرمان طيف سياسي كامل من حقه في التعبير والوصول إلى التونسيين (وهو الذي نصّب نفسه بحكم
غياب المحكمة الدستورية، الجهة التحكيمية الأولى في النزاعات الدستورية)، وبصرف النظر عن انخراط الرئيس في هذا الصراع في بلاغ رئاسة الجمهورية الذي "حذّر" منذ البدء من "خطورة خرق أي مبادرة تشريعية لأحكام الدستور أو خضوع بعض المبادرات في مخالفة واضحة لنص الدستور"، وأكّد دعمه "للصحفيين الشرفاء وإيمانه بضرورة التعويل على آليات التعديل والتعديل الذاتي" (رغم أنّ المرسوم 116 سابق للدستور الجديد زمنيا، ورغم أنه كان خاضعا في صياغته لـ"الحسابات ومصالح الأحزاب أو اللوبيات السياسية والإعلامية" التي ترسّبت منذ عهد المخلوع وكانت وراء صياغة المرسوم بتلك الطريقة، ورغم فشل منطق "التعديل الذاتي" الذي كان دائما مجرد ذريعة لمنع أي إصلاح حقيقي لكل القطاعات)، وبصرف النظر كذلك عن شبهات تعارض مقاطعة الإعلام لائتلاف الكرامة مع الفصل 31 من الدستور (حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يمكن ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات)، والفصل 32 (تضمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة. تسعى الدولة إلى ضمان الحق في النفاذ إلى شبكات الاتصال).. بصرف النظر عن ذلك كله، فقد جاء مشروع التعديل ليعيد هندسة الحقل السياسي ويُرسّخ الاستقطابات التي كانت تحكمه بصورة مخاتلة حينا وصريحة أحيانا أخرى.
دفاع عن حرية التعبير أم قمع للاختلاف؟
لقد أكّد قرار نقابة الصحافيين بتواطؤ الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، بل مع صمت ما يسمّى بمنظمات المجتمع المدني، بمنع كتلة نيابية كاملة من حقها في الظهور الإعلامي (مع ما يعنيه ذلك من حرمان هذه الكتلة من حقها في التعبير والوصول إلى عموم التونسيين حتى في القنوات العمومية التي يدفع لها الناخبون أداء ضريبيا منتظما)؛ أنّ الإعلام يحتاج فعلا إلى إصلاح، وذلك بصرف النظر عن موقفنا من مشروع التعديل الذي تقدم به ائتلاف الكرامة أو المشروع الذي تقدمت به الحكومة السابقة، ثم سحبته هذه الحكومة لتعيد الكتلة
الديمقراطية طرحه على أنظار مجلس النواب.
ورغم أن تونس ما زالت تتصدر الدول العربية في مؤشر حرية الصحافة (حيث تحتل المرتبة 72 عالميا حسب منظمة " مراسلون بلا حدود")، فإن هذا الترتيب لا يعني الكثير في دولة كان من المفروض أن تجعلها الثورة في مرتبة أفضل، بحيث لا يكون معيار المقارنة هو واقع الحريات الصحافية في الدول العربية، بل واقع تلك الحريات في الـ71 دولة التي تسبقنا في الترتيب عالميا.
إن
معركة حرية الإعلام هي معركة هندسة اجتماعية بالضرورة. فالإعلام ليس سلطة رابعة كما كان الشأن قبل هيمنة "نظام التفاهة" كما أسماه الباحث الكندي آلان دونو، بل أصبح الركيزة/ المظهر الأهم في ذلك النّظام المعولم، أي السلطة التي تعكس توازنات باقي السلطات والفاعل الأكثر تأثيرا في بناء الرأي العام وتزييف الوعي وتعليبه بصورة تخدم الأطراف المتحكمة في الثروات المادية والرمزية وآليات تحصليها وتوزيعها.
كما أن الإعلام التونسي قد أكّد أكثر من مرة أنه قد أصبح عائقا أساسيا أمام إعادة التفاوض على المشترك المواطني (الكلمة السواء)، وذلك لاندراجه الصريح في الدفاع عن أساطير "النمط المجتمعي التونسي" ضد "الظلامية" و"الرجعية" و"التطرف" (وهي مخاطر يحملها حسب رأيهم الإسلامُ السياسي وكل من يتحالف معه أو يقترب منه سياسيا أو إيديولوجيا)، أي اندراجه في عمليات وصم/ شيطنة كل الخطابات التي تسائل تلك الأساطير التأسيسية، أو تدعو إلى أخذ مسافة نقدية منها ومن النواة الصلبة التي تتحكم فيها من وراء المرسوم وغيره.
ولذلك فإن الهجمة التي يتعرض لها مشروع تنقيح المرسوم 116 ليست دفاعا مبدئيا عن حرية الصحافة؛ في بلد يعلم الجميع أن صحافته الخاصة مرهونة للرأسمال السياسي وصحافته العمومية مرهونة لورثة الشُّعب المهنية وحلفائهم في اليسار الاستئصالي، بل إن تلك الهجمة هي دفاع عن احتكار النخب المُعلمنة (على مذهب اللائكية الفرنسية المتطرفة) لأدوات التواصل الجماهيري ومنع أي تغيير جذري لهذا الواقع.
ختاما، فإننا واعون بأن مرور مشروع التعديل لن يعنيَ تحرر الإعلام في رمشة عين من سلطتي المال والأيديولوجيا، ولن يعنيَ أيضا انتهاء الجدل حوله، خاصة بعد موقف الرئاسة الرافض لهذا التعديل، بحيث من المرجّح أن يرفض الرئيس إمضاء مشروع القانون وأن يعيده للبرلمان، ولكننا نؤمن بأن التعديل قد يكون خطوة "تقدمية" في سبيل تنويع مصادر التلقي الجماعي، وهو تنويع سيساهم في تغيير شروط التفاوض على إعادة هندسة المجتمع، بحيث نخرج من المأزق التاريخي الذي أوصلتنا إليه أساطير النمط المجتمعي التونسي من جهة أولى، وانتهازية أغلب النخب "الثورية" و"الإصلاحية" من جهة ثانية.
ولكن علينا عدم المبالغة في التفاؤل إلا بمنطق واحد؛ هو الدفع بتناقضات هذه النخب المتصارعة إلى أقصاها، وهو ما قد يكون تمهيدا لتغيير مواقفها وبناء تسويات جديدة انطلاقا من موازين الضعف (لأن موازين القوة لا تكون إلا في مجتمع ذي سيادة)، أو إظهار لا وظيفية كل المتصارعين أمام عموم المواطنين، بما قد يمهّد لظهور فاعلين جماعيين آخرين لا تحكمهم "النظرة العمياء" على حد عبارة فرانز فانون (مع ضرورة تغيير المقاربة من تفكيك للعنصرية وللاستعمار المباشر إلى تفكيك للسرديات الأيديولوجية التي تحولت إلى أكبر حليف للمنظومة القديمة وللاستعمار غير المباشر، رغم كل ادعاءاتها ومزايداتها).
twitter.com/adel_arabi21