بورتريه

مالك بن نبي "يعود" بعد 47 عاما على رحيله (بورتريه)

قال لزوجته وهو على فراش الموت عام 1973: "سوف أعود بعد 30 سنة"- عربي21
قال لزوجته وهو على فراش الموت عام 1973: "سوف أعود بعد 30 سنة"- عربي21

أحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين، يرى كثيرون أنه امتداد لابن خلدون، إذ برز في التنبيه إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة، وكان لافتا تنبّؤه بأن إرثه سيعود إلى الحياة بعد عقود من وفاته.

 

ابتدع لنفسه منهجا خاصا في بحث مشكلة المسلمين على أساس علم النفس والاجتماع وسنن التاريخ. كان منشغلا بهموم أمته العربية والإسلامية، واحتل الهم الجزائري الحيز الأكبر من كتاباته. 

أحدث نقلة نوعية في الفكر الإسلامي الحديث، فلقب بألقاب عديدة منها "فيلسوف العصر" و"فقيه الحضارة" و"منظر النهضة الإسلامية". 

صبغت حياته الفكرية بثقافة منهجية، استطاع بواسطتها أن يضع يده على أسباب التخلف في العالم العربي والإسلامي. 

وربما لعبت نشأة مالك بن نبي دورا مركزيا في صلب تخصصه فهو ولد عام 1905 بمدينة قسنطينة شرق الجزائر لأسرة جزائرية محافظة ومتواضعة، فكان والده موظفا بسيطا بالقضاء الإسلامي، من هنا تابع مالك دراسته القرآنية والابتدائية بالمدرسة الفرنسية بالجزائر.  

سافر بعدها إلى فرنسا، لكنه ما لبث أن عاد إلى قسنطينة، حيث عمل موظفا في المحكمة واحتك أثناء هذه الفترة بالفئات البسيطة من الشعب الجزائري فبدأ عقله يتفتح على حالة بلاده وبلاد المسلمين، واستقال من المحكمة إثر نزاع مع كاتب فرنسي لدى المحكمة المدنية. 

استقالته الاضطرارية دفعته إلى أن يجرب حظه من جديد في فرنسا التي سافر إليها عام 1930 وفشلت محاولته في الالتحاق بمعهد الدراسات الشرقية لأنه لم يكن يسمح للجزائريين بدراسة مثل هذه التخصصات، وكان يأمل في التخرج محاميا. هذه الخيبة تركت في نفسه أثرا كبيرا رغم أنه تابع دراسته في تخصص لا علاقة له بميوله فالتحق بمدرسة اللاسلكي للتخرج كمهندس كهربائي. 

انغمس مالك بن نبي في الدراسة وفي الحياة الفكرية، واختار الإقامة في فرنسا وتزوج من سيدة فرنسية، ثم شرع يؤلف الكتب في قضايا العالم الإسلامي، فأصدر كتابه "الظاهرة القرآنية" عام 1946 ثم "شروط النهضة" عام 1948 باللغة الفرنسية، وأضاف مالك بن نبي فصلين إلى النسخة العربية، الذي طرح فيه مفهوم "القابلية للاستعمار" ووجهة العالم الإسلامي عام 1954، أما كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" فيعتبر من أهم ما كتب بالعربية في القرن العشرين. 

مشاركته الفكرية وكتاباته أثارت حفيظة السلطات الفرنسية بعد أن انغمس في النشاط الفكري والسياسي، وكان عنوان أول محاضرة يلقيها هناك "لماذا نحن مسلمون؟" وذلك أواخر عام 1931، واستجوبته الشرطة الفرنسية على إثرها. 

شارك في تأسيس "جمعية الوحدة المغاربية" تحت إشراف أمير البيان الشاعر اللبناني شكيب أرسلان، وأصبح ممثلا للجزائر فيها، وفي مارسيليا بفرنسا أشرف على نادي "المؤتمر الجزائري الإسلامي". 

لكن المقام في باريس لم يدم له فانتقل إلى القاهرة هاربا من فرنسا بعد إعلان الثورة الجزائرية عام 1954 وحظي في مصر باحترام كبير وقبول من مختلف أطياف الشعب المصري ومثقفيه، فكتب "الفكرة الأفريقية الآسيوية". وعين وقتها مستشارا لـ"منظمة التعاون الإسلامي" مما سمح له بمواصلة الكتابة الفكرية وإرسال المال ليعول زوجته في فرنسا.

تعمق ابن نبي باللغة العربية حيث راجع كل كتبه المترجمة إلى اللغة العربية وشرع بالكتابة بالعربية وإلقاء المحاضرات بالعربية وزار سوريا ولبنان لإلقاء محاضرات هناك. 

ومع تباشير استقلال الجزائر عام 1963 عاد إلى بلاده فتقلد عدة مناصب أكاديمية أهمها مستشارا للتعليم العالي، ومديرا لجامعة الجزائر ثم مديرا للتعليم العالي، إلى أن استقال عام 1967 وتفرغ بالكامل لنشاطه الفكري.

 

اقرأ أيضا: ما بعد مالك بن نبي .. وحتمية مراجعات الفكر الحضاري

 

واصل ابن نبي الكتابة وإلقاء المحاضرات والتأليف، فصدر له "آفاق جزائرية" وكذلك الجزء الأول من مذكراته.

وساهم بمقالات متتابعة في الصحافة الجزائرية خصوصا في مجلة "الثورة الأفريقية" التي شارك فيها بمقالات في صلب تصوراته حول إشكالات الثقافة والحضارة ومشروع المجتمع، وقد جمعت هذه المقالات كلها في كتاب بعد وفاته. 

ترك مالك بن نبي وراءه مجموعة من الأفكار القيمة والمؤلفات النادرة. وطُبعت العديد من الكتب عن حياته وفكره، خاصة من قبل المهتمين بالنهضة والإصلاح، من أهمها: "في صحبة مالك بن نبي" و"مقاربات حول فكر مالك بن نبي" اللذان كتبهما تلميذه عمر كامل مسقاوي الذي ترجم بعض أعماله إلى العربية، والوصي على نشر كتبه. 

ألّف مالك بن نبي سلسلة كتب تحت عنوان "مشكلات الحضارة" بدأها بباريس ثم تتابعت حلقاتها في مصر فالجزائر، وصلت إلى نحو 30 مؤلفا من أبرزها: "الظاهرة القرآنية"، "شروط النهضة"، "وجهة العالم الإسلامي"، "النجدة.. الشعب الجزائري يباد"، "فكرة كومنولث إسلامي"، "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة"، "إنتاج المستشرقين"، "الإسلام والديمقراطية"، "مذكرات شاهد للقرن"، "دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين"، و"مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي". 

لعل أكثر ما يعرفه المثقفون في العالم العربي الإسلامي هو طرحه لفكرة "أن الأفراد لا ينقصهم التدين في كثير من الأحيان ولكنه تدين فردي، فهو يحاول إنقاذ نفسه في الآخرة، ولكن لم يعد يملك التماسك الاجتماعي وتسخير ما خلق الله له لبناء حضارة"، فهم أفراد من بقايا حضارة يحملون بين جنوبهم ما يسميه ابن نبي بـ"القابلية للاستعمار" فهو يرى أن "المجتمعات الإسلامية المعاصرة لم تستعمر إلا لوجود هذه القابلية لديها" وخضوع مخيلة الشعوب المستعمَرة وفكرها للغة ومصطلحات ومفاهيم الاستعمار.

ورغم معرفة مالك الدقيقة بالفكر الغربي، وتأثره به في بعض الأحيان إلا أن أمله في التغيير "بقي معلقا في الأصالة الإسلامية، وبالرجوع إلى المنبع الأساسي للمسلمين". 

وفيما كان إرث مالك بن نبي يتحول إلى تراث فقد كان للحراك الشعبي الذي شهدته الجزائر العام الماضي رأي آخر بإعادة إحياء كتبه من جديد بما يليق بإنجازه وتاريخه وقيمته الفكرية.

الحراكيون رفعوا صورا لرواد النهضة الحديثة في الجزائر، وكانت صور مالك بن نبي من بينها، ففي عديد المدن الجزائرية، كانت كتب مالك بن نبي توزع على المتظاهرين بالمئات أسبوعيا، لتبث وعيا طالما احتاجته الجماهير في حركيتها نحو سلطة العقل، وأدوات الحضارة. كما بث التلفزيون الرسمي محاضرة له ألقاها عام 1970 عن الحلول المقترحة لأزمة "الحضارة الإسلامية".

مواصلة التمسك بأفكار ورؤى مالك بن نبي تشير إلى أن موروثه الحضاري ما زال مخزونا ويتناقل من جيل إلى آخر، وأن الجيل الحالي ما زال يؤمن بطروحاته.

وبالتزامن مع الحراك، وبمناسبة الذكرى الـ70 لصدور كتابه "شروط النهضة" (1949)، نظمت "كلية الدراسات الإسلامية" في "جامعة حمد بن خليفة" بالدوحة عام 2019 مؤتمرا دوليا تناول المشاركون فيه مشروع ابن نبي في النهضة الحضارية وأبرز طروحاته وكيفية مقاربتها اليوم.

وبدا وكأن كل ذلك يؤكد ما نقلته ابنته، الدكتورة رحمة، من أنه قال لزوجته وهو على فراش الموت عام 1973: "سوف أعود بعد 30 سنة". 

وتعليقا على توقع ابن نبي تقول ابنته رحمة إنه كان يدرك أن التاريخ قد عرف من قبل تأجيلا لتفعيل بعض الأفكار، وأن أفكاره ستفعل في يوم ما.

 

وينقل عن الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو قوله: "قد تهزم جيوش، ولكن لا تهزم فكرة قد حان وقتها"، وإعادة البحث عن ابن نبي وعن أفكاره من جديد تؤكد أنه عاد لينفض بعض الغبار عن "شروط النهضة". 

التعليقات (3)
عماد بن خليفة الدايني البعقوبي
الثلاثاء، 18-05-2021 06:10 م
رحم الله الأستاذ مالك بن نبي واخلفه في عقبه خيرا ما أحوج الأمة إلى مصلحين ومفكرين يسيرون على خطاه الإصلاحية. في نظرياته حلول جذرية لأغلب مشاكل مجتمعاتنا العربية الإسلامية وفهمها المريض لبعض القضايا
بسملة بن سعدي
الثلاثاء، 10-11-2020 06:42 م
شكرا على مجهوداتكم فنحن نفتخر به كعرب?????? فهو مات لكنه لا يزال حيا في قلوبنا ??????????????
الأحياء
السبت، 24-10-2020 07:02 م
شكرأ ، مالك بن نابي أكد و برهن رحمه الله أن محاربة القابلية للإستعمار هي أهم من محاربة الاستعمار، أنظروا اليوم كيف أن هناك حفنة من الرجال فقط أدركت الواقع و واجهت الجهلة مثل ماكرون و ذكرته بمبادئ الحضارة (الند للند) لكن الذين في قلوبهم مرض "القابلية " لا يفقهون

خبر عاجل