هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: في أصول المسألة المصرية.
المؤلف: صبحي وحيدة
ط3، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2020
يصعب على أي دارس لتاريخ مصر أن يفصل بين مكوناتها العربية والإفريقية والإسلامية، ذلك أن هذه المكونات جميعا تتداخل فيما بينها في بناء شخصية مصرية فاعلة في جغرافيتها وتاريخها أيضا، وإن كان محرك كل هذه المكونات هو الفاعل السياسي.
الكاتب والباحث اليساري الفلسطيني عبد القادر ياسين، يعيد قراءة كتاب "في أصول المسألة المصرية" للكاتب المصري صبحي وحيدة، الذي كانت قد عرضت له في وقت سابق، هنا في "عربي21"، الكاتبة المصرية رباب يحيى، في محاولة لفهم لماذا آلت مصر إلى ما هي عليه اليوم، فالتاريخ والجغرافيا عوامل أساسية في فهم مآلات الدول.
في أهمية الكتاب
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب، في مصر، قبل نحو سبعين عاما، فأحدث هزَّة في الأوساط العِلمية، في حينه؛ ذلك أن مؤلفه يعمل أمينا عاما لاتحاد الصناعيين، في مصر، أي إنه بعيد كل البعد عن عِلم التاريخ. وأغلب الظن أن وحيدة اكتشف من خلال نشاط "اتحاد الصناعيين" تلك العلاقة الحميمة بين الاقتصاد والتاريخ، ويأتي هذا الاكتشاف من خلال التعليم في المدارس والجامعات. وهنا تكمن أهمية هذا الكتاب، ما جعل الأوساط العِلمية تحتفي بهذا الكتاب، فتُصدر طبعتين لاحقتيْن، لطبعته الأولى.
حين صدر، سارع رئيس "اتحاد الصناعيين"، إسماعيل صدقي باشا، المستحوذ على عضوية اثني عشر مجلس إدارة شركة صهيونية في مصر، وصاحب التاريخ الأسود ضد الشعب المصري، على مدى السنوات التي ترأس فيها الوزارة في مصر، فكتب معجبا بموهبة وحيدة في قراءة تاريخ مصر، بنزاهة ومهنية عاليتين!
بينما كتب رأسمالي كبير مصري آخر، هو عبد القوي أحمد باشا، في حينه، يُحيي في وحيدة إلقاءه حزمة من الأضواء على "خضوع المصريين للحكم الأجنبي"، وتعوُّدهم، ما يصحب هذا الحكم، عادة، من ظلم، وجهل، وفاقة، بين العامة ـ أيضا. وطال العهد، حتى أصبحت المصدر الأول للكثير من مظاهر الاستهتار، التي تُحيط بحياتنا، اليوم. وسارت، لذلك، خليقة بأن يقف عندها الذين يهتمون بمصير هذه البلاد، ويخشون عاقبة مثل هذه الأفكار، على مستقبل أبنائها".
ورأى أحمد باشا في صدور كتاب وحيدة ما يسد النقص. واعتبر أحمد باشا هذا الكتاب بمنزلة "مقدِّمة لاتجاه جديد في دراسة ماضي القومية المصرية، وهو يستحق لذلك كل ثناء".
أعاد المؤلِّف توجهه لإنجاز هذا الكتاب إلى كون الكثيرين اعتبروا المسألة المصرية مسألة خارجية، فحصروا كتاباتهم في استعراض علاقات مصر ببريطانيا العظمى، فأراد وحيدة أن يرُد هذه المسألة إلى ظروف مصر الاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية؛ ويجعل منها مسألة داخلية.
مصر المتوسط
قسَّم المؤلف كتابه إلى خمسة فصول، حمل الأول عنوان "الفتح العربي"، ولعل المثير للدهشة، أن المؤلِّف عرض في هذا الفصل لدور مصر في حضارة البحر الأبيض المتوسط، وما أصاب هذا البحر من تطور؛ بانتقال طرق التجارة العالمية، منه إلى المحيط الأطلسي، وما صاحب ذلك من انقطاع علاقة مصر بالغرب، وبقائها بعيدا عن التطورات الاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية، التي تمت في الغرب (ص 19 ـ 60).
في الفصل الثاني من كتابه، عالج وحيدة ما أطلق علية "حكم المغُول" ـ حسب عنوان الفصل ـ وفيه استعرض المؤلِّف الاقتصاد المصري في العهد المملوكي، وربط حكم المماليك، وما أنزله بهذا الاقتصاد من تقزيم، وبين ظروف مصر، عند صدور الطبعة الأولى من الكتاب، ولا أدري لماذا قفز المؤلِّف عن فترة الحكم العثماني لمصر، التي استمرت نحو ثلاثة قرون متصلة؟ّ
لذلك، نجد وحيدة قد قفز، في الفصل الثالث، إلى "الموجة الغربية"؛ فعرض للنهضة الأوروبية، وعلاقة الدول الأوروبية بالسلطنة العثمانية، وتداعيات ذلك على مصر، خصوصا في الجانب الاقتصادي، بدءا من حكم محمد علي (1805 ـ 1884)، إلى حكم خلفائه: عباس، وسعيد، وإسماعيل، على التوالي.
في الفصل الرابع، استعرض المؤلِّف ما أطلق عليه "أعراض المراهقة"، وجعله عنوانا لهذا الفصل، وقد خصصه لما اعتبره وحيدة "الموجة الغربية"، وظروف مصر الاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية، كما انتهت إليه تحت حكم المماليك، وما تركته من آثار على الجيل المصري الحالي، عند صدور الكتاب؛ محللا أهم مظاهر الحياة، رادّا كلا منها إلى أُصوله، لينتهي إلى الصلة الحميمة بين أوجه الضعف في هذه الحياة، وبين إهمال البلاد شؤونها الاقتصادية، ثم أهمية الدور المناط بالصناعة، في الحضارة الحديثة عموما، وفيما يخُص مصر على نحو خاص (ص 180 ـ 247).
أفكار فاسدة
كل ما سبق، ليصل المؤلِّف إلى ما يمكن اعتباره استنتاجات عامة، في الفصل الخامس، وقد اختار له المؤلِّف عنوانا "عُقَد النقص"، وفيه ألقى وحيدة الضوء على أبرز الأفكار الفاسدة، التي تتحكم في الحياة المصرية الراهنة، وفي مقدمتها تعوُّد أهل مصر على الاستبداد، والخلط بين ما هو روحي، وحياتي، والاعتقاد في الخرافات، والعزوف عن الاقتصاد الصناعي، والتأرجح بين الشرق والغرب، لينتهي وحيدة إلى أن مصر لم تخرج، هنا، عن بقية أمم البحر الأبيض المتوسط. دون أن ينسى المؤلِّف تحميل المماليك المسؤولية الكاملة عما أصاب اقتصاد مصر من تدهور ووهن (ص 250 ـ 298).
يؤخذ على المؤلِّف هنا، جعل أوروبا مركز الحضارة، وتحويله مصر إلى مجرد متلقٍ. وقد جانبه الصواب، حين ساوى شعب مصر ببقية شعوب البحر المتوسط، متجاهلا الإرث العربي ـ الإسلامي، وروابط مصر الحميمة ببقية أمتها العربية. وأغلب الظن أن وحيدة هنا وقع تحت تأثير المفكر المصري الكبير، طه حسين، بأن مصر تنتمي إلى شعوب البحر المتوسط، على الرغم من كل ما بين هذه الشعوب من اختلافات وتعارضات. دون أن ينفي هذا كله أن "الفرعونية"، كانت الفكرة السائدة في مصر، حتى العام 1956، لدرجة أنهم كانو يكتبون "نحن والعرب"! وكأن القومية مفهوم عرقي، وليس مفهوما حضاريا، يستند إلى أمة تكوَّنت تاريخيا، على أرض مشتركة، ولغة مشتركة، وتكوين نفسي مشترك، بينما يتأجل تحقيق الاقتصاد المشترك إلى ما بعد الوحدة القومية.
"العروبة" انتقلت من خانة الاستراتيجية إلى خانة القومية، غداة تأميم جمال عبد الناصر قناة السويس (26/ 7/ 1956)، والتفاف جماهير الوطن العربي من حوله، الأمر الذي تجلى، وتعزَّز، عند "العدوان الثلاثي" على مصر، خريف العام نفسه؛ حتى تُوِّج عبد الناصر زعيمًا بلا منازع للأمة العربية، وتفاعل الرئيس المصري مع هذا كله، وصُبغت الحياة السياسية والثقافية المصرية بالطابع العروبي، وأخذت "الأرض تتكلم عربي"
على أن هذا كله لا يُقلِّل من موقع كتاب وحيدة، الرائد في مجاله. وبعده، حفر في المجرى نفسه كل من شفيق غربال (تكوين مصر)، وصبري السربوني (نشأة الروح القومية المصرية)، وتم تتويج هذه الإصدارات جميعها بموسوعة د. جمال حمدان، أستاذ الجغرافيا، الذي أهدى شعبه موسوعة "شخصية مصر"، فكانت كعصا موسى.
لعل اللافت بأن القومية الفرعونية وشخصية البحر المتوسط ظلتا المهيمنتين على الحياة المصرية السياسية، إلى أن جاءت حركة الجيش (23 يوليو/ تموز 1952)، فغدت "الدائرة العربية" واحدة من دوائر ثلاث، مع الدائرتين، الإسلامية والإفريقية، تستقوي بها مصر. لكن "العروبة" انتقلت من خانة الاستراتيجية إلى خانة القومية، غداة تأميم جمال عبد الناصر قناة السويس (26/ 7/ 1956)، والتفاف جماهير الوطن العربي من حوله، الأمر الذي تجلى، وتعزَّز، عند "العدوان الثلاثي" على مصر، خريف العام نفسه؛ حتى تُوِّج عبد الناصر زعيما بلا منازع للأمة العربية، وتفاعل الرئيس المصري مع هذا كله، وصُبغت الحياة السياسية والثقافية المصرية بالطابع العروبي، وأخذت "الأرض تتكلم عربي"، حسب الشاعر اليساري المصري المرموق، صلاح جاهين. لكن وفاة عبد الناصر، ونجاح خَلَفه، أنور السادات، بإزاحة كل أنصار عبد الناصر عن سُدَّة الحكم (15/ 5/ 1971)، قلبت الاسطوانة، مع انقلاب السادات على كل ما حققه عبد الناصر، بسهولة ويُسر، أساسا، لأن الطبقات الفقيرة المستفيدة مما حققه عبد الناصر، لم تُسهِم في صنع مكاسبها، التي أتتها من أعلى، فتعاملت معها تلك الطبقات بمنطق: "الله جاب، الله أخذ، الله عليه العوض"!
وبعد، فلعل جمال حمدان قد أصاب في إعادة استسلام المصريين للمستبد الأجنبي، بأن الفلاح في الأقطار النهرية يخضع للحاكم، الذي يستأثِر بمفاتيح مياه النهر، فيستطيع أن يُميت الفلاح، وزرعه من العطش، إن هو فكَّر في الثورة على الحاكم. ومن يراجع تاريخ شعوب الأرض، سيتأكَّد من مدى دقَّة هذا التفسير، ذلك أن الأقطار التي تعتمد على الأمطار، يتقدَّم فلاحوها على غيرهم من الطبقات، في الثورة على المستبد الأجنبي، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى.