كتاب عربي 21

بينوكيو.. إنه عربي

طارق أوشن
1300x600
1300x600

عندما التقى بينوكيو بالجنّية بعد شفائه من المرض، في الرواية التي تحمل اسمه، سألته عن مكان النقود الذهبية، فكذب ثلاث كذبات متتالية أضحكت الجنّية منه. يسأل بينوكيو عن سبب ضحكها، فتجيبه: بسبب أنفك الذي يزداد طولا. أنا أضحك من أكاذيبك. فيسألها بينوكيو: كيف عرفت أنني أكذب؟ تجيب الجنّية: بُنَي، الأكاذيب تعرف على الفور. هناك أكاذيب حبلها قصير وأخرى أنفها طويل، ومن الواضح أن أكاذيبك من الصنف الثاني.

 

الحقيقة التي لا يحجبها غربال


عندما انتشرت الأخبار، بتواطؤ من الرقابة العسكرية الإسرائيلية وربما بموافقة ولي العهد السعودي، عن اجتماع الأخير ببنيامين نتانياهو ومدير الموساد بأرض نيوم، المدينة "الذكية" السعودية، فيما اعتبر أول لقاء معلن بين مسؤولين سعوديين وإسرائيليين، بادر وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، بعد تردد ساعات، إلى نفي الخبر عبر تغريدة يتيمة خطها على موقع تويتر. 

فداحة "الجريمة" المرتكبة تستدعي بيانات رسمية على أعلى مستوى للنفي إن كذب الإسرائيليون. لكن المملكة أضعف من أن تكذّب إعلام الاحتلال لأن اللقاء تم بالفعل بتأكيد من وزراء صهاينة أو مواقع متخصصة في تتبع حركة الطيران. بن فرحان قال إن الاجتماع لم يضم غير سعوديين وأمريكان، وهو الذي صرح قبلها بأيام أن المملكة لا تمانع في التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني شريطة الوصول "لاتفاق دائم وكامل يضمن للفلسطينيين دولتهم بكرامة"، وهو ذات الموقف الذي أعلنه السفير السعودي بالأمم المتحدة باعتباره لحن المرحلة الذي يتغنى به الساسة والإعلاميون في انتظار تغريدة من دونالد ترمب تقطع الشك باليقين.

الحقيقة التي لا يحجبها غربال التكذيبات وموجات النفي المحتشم أن السعودية ماضية في التحضير للخطوة الحاسمة، لا يمنعها من ذلك قيام دولة فلسطينية أو استرداد للحقوق العربية أو مبادئ مبادرة عربية صدرت عنها قبل ما يقارب العشرين سنة وماتت قبل ولادتها. الحسابات السعودية تأخذ بالاعتبار الوضع الداخلي في المملكة وبالأخص داخل العائلة المالكة وتوازنتها. 

فربان قطار التطبيع الحديث، في الإمارات، لم يجد من ذريعة لتبرير ارتمائه في الحضن الإسرائيلي علانية غير الحديث عن حقوق الشعب الفلسطيني ووقف الضم، وهو تبرير لم يصمد غير دقائق معدودة حين كذبه بنيامين نتنياهو أمام "شعبه"، لأن وجوده مرهون بالانتخابات عكس من وقعوا معه ممن وصلوا للحكم بفضل حيوان منوي.

عندما كتب كارلو لورينزيني رواية بينوكيو، بدأها بالقول: كان يا ما كان.. سيصيح قرائي الصغار لتوِّهم ملك... لا يا أطفالي، أنتم مخطئون. كان يا مكان قطعة من الخشب. قطعة الخشب هذه لم تكن لها قيمة، كانت مجرد لوح خشبي عادي كالذي يحرق في الشتاء...

 

يملكون مصيرهم ومصير رعيتهم

الملوك هم من يملكون مصيرهم ومعه مصير الرعية ويتخذون على إثر ذلك القرارات مهما كانت صعبة أو صادمة. لكنهم في الأول والآخر يتحملون مسؤولية القرار. في الوطن العربي، "زعماء" يشبهون بينوكيو أو هو من تشبه بهم. فهؤلاء ليسوا إلا خشبا مسندة إذا نطقوا أو "قرروا"، وهم ليسوا أيضا غير دمى خشبية في مسرح عرائس عالمي يحركها الكبار ويوجهونها كيفما شاؤوا وأينما استطابوا التوجيه، أما في الكذب والتضليل فهم "سادة" لا ينافسهم إلا.. بينوكيو.

في الرواية يطيل الكذب أنف الأخير فيفضحه أمام الناظرين. أما في واقع الأمة فالـ"زعماء" مفضوحون لكن كذبهم لا يطيل الأنوف بل يطيل من عمر جلوسهم على كراسي الرئاسة والملك والزعامة رغم أنوف الشعوب وإرادتها. في الرواية الأصلية (الجزء الأول قبل أن يغير الكاتب النهاية ويصدر أجزاء أخرى) لم يكن أنف بينوكيو يطول. من يدري فربما نرى اليوم أو غدا أنوفا تطول وإن كنا في غنى عنها لنشهد فضائح الحكام تسير بها الركبان.

 

عندما أعلنت السعودية عن إنشاء مدينة نيوم، قدمتها على أنها مدينة المستقبل حيث سيكون للعلم وللمعرفة عنوان. تبين أن الهدف مجرد تقرب بالنوافل للكيان الصهيوني وأنها مجرد منتجع لعقد اللقاءات المحرمة بعيدا عن الأنظار.

 



لقد اعتادت الشعوب العربية على حقيقة أن نفي الأنظمة عبر بياناتها الوقائع شهادة على صحتها. رأينا ذلك في البيانات العسكرية التي أسقطت الطائرات وألحقت الهزائم بالعدو وحررت الأراضي وصانت المقدسات. رأيناه في بيانات "القمم" التي وزعت الوعود بالوحدة والعمل المشترك لتحقيق الطموحات. وانتهى بنا المطاف لنشهده في تغريدات "الصغار" من أمثال محمد رمضان، الذي عانق الصهاينة بحضور حمد المزروعي، قبل أن ينفي علمه بالجنسيات ويعلن أن الإنسان همّه ولو كان بلا عنوان. 

رمضان "الصغير" ليس إلا نبتة غير صالحة تعهدها العسكر بالرعاية ليكون بوقا لهم و"ترمومتر" لقياس الرأي العام. وكما ترفع الأنظمة شعار الدفاع عن فلسطين في العلن وترتكب المحرمات مع العدو بعضها في السر والبعض الآخر في العلن، وضع "الصغير" راية فلسطين "تكفيرا" عن خطيئة لا يريد الاعتراف بارتكابها. الحكام / الدمى في حاجة دائمة للأبواق الإعلامية وأشباه الفنانين لتزوير الذاكرة ونشر الأراجيف عن الإنجازات أو صرف الأموال على شركات العلاقات العامة لتجميل الصورة التي علاها القبح من مكان. السمعة السيئة لا تبيضها الأموال القذرة ولا الأصوات المنكرة مهما علت وصدحت وأسست لها القنوات شرقا وغربا.

 

اللقاءات لم تعد سرا


بينوكيو صاحب طباع سيئة وناكر للجميل اعتدى أول ما اعتدى على صانعه النجار العجوز بمجرد أن تعلم المشيء، وهو الذي قتل شخصية الصرار الخيِّر الحكيم، بعد أن قضى في البيت قرنا كاملا. وعندما احترقت رجلاه صنع له النجار، العائد من السجن، بديلا لهما لعل حاله ينصلح فعاد ليتنكر له من جديد. بينوكيو الكذاب واللص والمتسرب من المدرسة انتهى به المطاف مشنوقا على جذع شجرة، قبل أن ينقذه نجاح الرواية الذي اضطر معه المؤلف، بضغط من الناشر، إلى تغيير نهايتها والانطلاق في كتابة أجزاء أخرى. تلك رواية يمكن تغيير أحداثها، لكن الواقع حقيقة لا يمكن الحؤول دون تحقق نهايتها الطبيعية، نهاية الخائن والكاذب والقاتل والمنقلب والديكتاتور الذي انطبقت عليه طباع بينوكيو حتى أننا نخالهما شخصية واحدة فاقتها الشخصية الحقيقية دموية واحتيالا واستبدادا.

اللقاءات السرية العربية الإسرائيلية لم تعد سرا يحافظ عليه العالمون، ومذكرات كثيرين فضحت من الأسماء والأنظمة الكثيرين. وفي الأيام الحالية صارت تكذيبات الأنظمة المقبلة والمهرولة على التطبيع مثار سخرية وتندر، فهم يكذّبون ويكذِبون حتى يفضحهم سيد البيت الأبيض أو رئيس وزراء الكيان. هؤلاء لهم مصلحة فيما يقدمون عليه أما حكامنا فخائفون وجلون لأنهم أدرى من غيرهم بالجرم الذي يرتكبون. عروشهم وكراسيهم أهم لديهم من التاريخ والجغرافيا والماضي والحاضر والمستقبل سيان.
 
عندما أعلنت السعودية عن إنشاء مدينة نيوم، قدمتها على أنها مدينة المستقبل حيث سيكون للعلم وللمعرفة عنوان. تبين أن الهدف مجرد تقرب بالنوافل للكيان الصهيوني وأنها مجرد منتجع لعقد اللقاءات المحرمة بعيدا عن الأنظار. في قصة بينوكيو حكمة مفادها أنك ستبقى دمية في أيدي الآخرين يحركون خيوطها ما لم تنفتح على التعلم والمعرفة، رديفة التكنولوجيا في عصرنا الحالي. مدينة نيوم مجرد مجسمات معمارية لمعرفة مسطحة وعلم لا ينال بالتمني. تحريك الدمى مستمر إلى زمن لا يعلمه إلا عالم الغيب والسموات.

تروي قصة (الأنف) لنيكولاي غوغول، عن وقائع فرار أنف من وجه صاحبه ومغامرة البحث عنه حتى عودته لمكانه الطبيعي. فسر البعض ذلك بأن السيد لا يكون سيدا إلا باعتراف العبد. فإن شق العبد عصا الطاعة وتمرد نُكِّل به تنكيلا من آياته الوحشية في تاريخ التعذيب جدع الأنف. فمتى أنكر العبد سيده لا يفقد الأخير سيادته فحسب، وإنما يتأجج شوقه إليها وإلى اعتراف العبد به. وقد اتخذ هذا الشوق في قصة غوغول رغبة عاتية في استعادة "الأنف" الهارب من وجه مولاه، والهارب بوجاهته أيضا ومكانته بين وجوه الناس. فالوجاهة من الوجه، والأنف جزء منها لا يدرك السيد أنه من خواص سيادته ووجاهته إلا عن فقده.

مائة وأربعون سنة تحمل فيها أنف الدمية الخشبية "بينوكيو" وزر الأكاذيب والأراجيف رغم أنه في ميدان الكذب مجرد بيدق صغير أمام عمالقة الكذب والافتراء من شحم ودم.

التعليقات (1)
آل العجب
الجمعة، 27-11-2020 03:34 م
منذ أن جاء الإنجليز بفيروسات آل سعود و آل نهيان... و هو يستخف بهم "نيوم" لن تكون آخرهم، الفيروسات تتعلم و تتحول إلا آل الذل في الخليج صم بكم عمي.