منذ رحيل المخلوع ودخول حركة النهضة إلى الحقل السياسي القانوني، كانت هذه الحركة مثار اهتمام إعلامي مكثف. فالنهضة (وهي الحزب الذي يُعرّف نفسه بأنه حزب سياسي "ذو مرجعية إسلامية") تمثّل انكسارا بنيويا في الحقل السياسي "المُعلمن" والرافض منذ بناء ما سُمي بالدولة الوطنية لأي حزب ذي مرجعية دينية. وبصرف النظر عن "قتل السياسة" خلال المرحلتين الدستورية والتجمعية (حيث ساد منطق الزعيم الأوحد والحزب الحاكم والمقاربة الأمنية في التعامل مع المعارضة)، فإن المنظومة السلطوية قد حرصت في أواخر عهد بورقيبة والمخلوع من بعده على وجود حقل سياسي"صوري"ومدجّن، ولكنه كان دائما منحصرا "قانونيا" في تشكيلات حزبية علمانية، سواء أكانت ذات مرجعية يسارية أو ليبرالية أو قومية.
الثورة أو الانكسار البنيوي للحقل السياسي المُعلمن
كان دخول النهضة إلى الحقل السياسي القانوني حدثا فرضه سياق الثورة التونسية، أي حدثا غير متوقع، وبالتالي لم يتم الإعداد الفكري والسياسي له سواء داخل النهضة أو في أذهان "خصومها/ أعدائها" من الذين تربّوا على مبادئ اللائكية الفرنسية، وعلى الخطاب السلطوي الذي يعتبر أن "الإسلام السياسي" هو خطر زاحف على "النمط المجتمعي التونسي" وعلى منظومة الحريات والحقوق الفردية والجماعية. وبصرف النظر عن المضمون الحقيقي لهذا "النمط المجتمعي" (الذي هو في الحقيقة نظام جهوي زبوني تابع ومتخلف)، فإنه كان بمثابة المبدأ التوليدي لكل المواقف والتحالفات التي وقعت بين فاعلين علمانيين مختلفين حدّ التناقض في المرجعيات الأيديولوجية، وفي الموقع/ الموقف من المنظومة السلطوية التي حكمت تونس قبل الثورة.
غياب المحاسبة الحزبية وأثره في التوافق مع المنظومة القديمة
لعلّ ما زاد من التباس موقع النهضة في الحقل السياسي التونسي وقلّص من قاعدتها الانتخابية هي ازدواجية مواقفها من أغلب القضايا التي شغلت الرأي العام التونسي منذ رحيل المخلوع، سواء في مستوى الشأن الحزبي الداخلي أو في مستوى الموقف من بقية الفاعلين السياسيين، خاصة منهم ورثة المنظومة القديمة.
ما زاد من التباس موقع النهضة في الحقل السياسي التونسي وقلّص من قاعدتها الانتخابية هي ازدواجية مواقفها من أغلب القضايا التي شغلت الرأي العام التونسي منذ رحيل المخلوع
ففي المستوى الحزبي، كان تراجع الأستاذ راشد
الغنوشي عن وعده بعد رحيل المخلوع بعدم تحمل أي مسؤولية سياسية أول خطوة في الألف ميل من التراجعات التالية. ونحن نزعم أن هذه التراجعات/ التسويات في المستوى الداخلي (وأهمها عدم طرح قضية محاسبة
القيادات التاريخية للحركة، تلك القيادات التي لا يمكن إنكار دور خياراتها التصعيدية في "الهولوكوست النهضوي" الذي وقع في تسعينيات القرن الماضي)، هي التي مهدت الطريق لتراجعات/ تسويات أخطر مع المنظومة القديمة تحت شعار "التوافق". فالتوافق هو خيار سياسي "داخلي" (توافق القيادات النهضوية على عدم طرح قضية المسؤوليات زمن بن علي)، وكان "التوافق" مع المنظومة القديمة نتيجة منطقية لهذا الخيار الحزبي.
تَونسة الحركة.. لكن بأي معنى؟
بصرف النظر عن مطالبة القوى "الديمقراطية" لحركة النهضة بـ"التَّونسة" (وهو مطلب يعني في النهاية أن تصبح النهضة مجرد "مسخ" أيديولوجي في خدمة المنظومة القديمة ونواتها الصلبة)، وبصرف النظر عن مدى تحقق هذه القوى ذاتها بمعنى الديمقراطية، سواء في تنظيماتها الداخلية أو في مواقفها من أغلب القضايا السجالية، فإن قضية "هُويّة" حركت النهضة هي قضية حقيقية لم تنجح "التأنقات اللفظية" (مثل استعمال تعبير" الإسلام الديمقراطي")، ولا سياسة التوافق في حلّها. فالنهضة التي ما زالت تصرّ على أنها حزب سياسي ذو مرجعية إسلامية؛ تبدو عاجزة حتى عن أن تكون "حزبا محافظا"، كما أن النهضة التي حررتها الثورة التونسية من واقع التهميش والمطاردة الأمنية، تبدو غريبة عن استحقاقات هذه الثورة، بل غريبة حتى عن انتظارات ناخبيها من المتحزبين والمتعاطفين معها.
"المفارقة النهضوية" أو الهوّة بين الدعوى والمحصول
واقعيا، يبدو أن ما أسميناه في مقال سابق بـ"المفارقة النهضوية" (أي تحوّل النهضة إلى عامل مساعد لتسريع عملية تغريب المجتمع التونسي ورهنه ثقافيا واقتصاديا للخارج، على عكس ما هو منتظر منها أو على على عكس ما تدّعيه)، هو نتيجة منطقية لخيار الحركة أن تدخل سياسة التوافق بمنطق المنظومة القديمة وشروطها. فالنهضة التي كانت قبل الثورة تكتسب شرعية وجودها من خطابها الاحتجاجي دينيا واقتصاديا واجتماعيا، أصبحت الآن (بعد أن صارت جزءا من منظومة الحكم) عاجزة عن القيام بذلك لأسباب كثيرة لا يمكن بسطها في هذا المقال، وأصبح وجودها أكبر حليف موضوعي للنخبة العلمانية قصد تمرير مشاريع لم تكن لتحلم بتمريرها أيام المخلوع ذاته (رفع الاحترازات عن اتفاقية سيداو، تقنين نشاط الجمعيات المدافعة عن المثلية الجنسية، مناقشة قضية المساواة في الميراث، تخفيف العقوبات عن مستهلكي المخدرات، مهاجمة المقدسات بصورة علنية بدعوى حرية التعبير.. الخ).
الهوية السياسية للحركة ومنطق التوافق
إن اختزال الإشكال النهضوي في مسألة "الزعامة" أو في
شخص رئيس الحركة هو منطق مغالطي؛ يجعلنا نبتعد عن القضية الحقيقية التي ينبغي على المؤتمر القادم للحركة أن يواجهها بجدية: هُويّة الحركة. ونحن على يقين من أن قضية الهوية لا يمكن أن تنفصل في أحد أبعادها الجوهرية عن خيار "التوافق"، فالتوافق هو مظهر لخروج النهضة من منطق البديل للنخبة اللائكية إلى منطق الشريك لهذه النخبة في إدارة الشأن العام. ولا يمكن لأي عاقل أن يجادل في صوابية هذا الخيار "نظريا"، ولكنّ الجدال يصبح ضروريا عندما نطرح محصول ذلك التوافق، وعندما نتدبر أسسه وغاياته وطبيعة العلاقات اللامتكافئة التي تربط بين طرفيه الآن، أو نطرح إمكانية التوافق النهضوي مع أطراف لا تنتمي للمنظومة القديمة بالضرورة؛ والمشروع "السيادي" الذي ينبغي ألاّ يكون مجرد لحظة جديدة في حياة المنظومة القديمة وخياراتها الكبرى.
هل سيتغير خيارات النهضة بعد المؤتمر القادم؟
ختاما، قد لا تكون الثورة التونسية فعلا ثورة قابلة للتصدير (من جهة أولى، بحكم خصوصية الواقع التونسي وعدم امتلاك بلادنا للقوة/ للإرادة اللازمة للقيام بذلك، ومن جهة ثانية حكم إكراهات السياقات الإقليمية والدولية والحرب المفتوحة على أي مشروع تحرري). ولكن من المؤكد أنّ التغني بـ"الاستثناء التونسي" الناجح في سياق من فشل الثورات العربية وانتكاسها إلى انقلابات عسكرية أو حروب أهلية؛ قد أصبح حجة غير مغرية للدفاع عن مسار الانتقال الديمقراطي ومحصوله واقعيا أمام عموم المواطنين في تونس.
ولا شك في أنّ خيار التوافق وما انبنى عليه من خضوع لشروط المنظومة القديمة وإملاءات "الجهات المانحة" (أو الجهات الناهبة في الحقيقة) يتحمل مسؤولية كبيرة عن حالة "الخراب المعمم" التي تعيشها بلادنا اقتصاديا واجتماعيا وقيميا. وهو ما يعني أنّ على حركة النهضة أن تراجع موقفها لا من التوافق في ذاته، بل من شروطه وأطرافه وآليات اشتغاله وغاياته النهائية. وقد لا يكون من التشاؤم أن نُرجح عدم حصول هذا الأمر خلال المؤتمر القادم، بحكم أنّ
أغلب معارضي رئيس الحركة لا يُقدّمون مشروعا بديلا للتوافق الحالي، بل يطلبون مواقع متقدمة في إدارته (بعيدا عن وصاية الأستاذ راشد الغنوشي) دون إدخال أي تعديل جذري عليه.
twitter.com/adel_arabi21