لم يكن الشيخ "أحمد المحلاوي"، إمام وخطيب مسجد القائد إبراهيم بمحافظة الإسكندرية، هو المعارض الوحيد الذي شملته قرارات التحفظ التي أصدرها الرئيس
السادات في أيلول/ سبتمبر 1981، ولم يكن هو الداعية الوحيد الذي يقود المعارضة ضده، فضلاً عن أنه لم يكن الأكثر ذيوعاً أو انتشاراً من بين هؤلاء الدعاة!
فقد كان الشيخ عبد الحميد كشك هو الأشهر، وقد انتقل بصوته وعبر الكاسيت إلى القُطر المصري كله، بل تجاوز حدود مصر إلى خارجها، ومع ذلك فعندما جاء ذكره على لسان السادات اكتفى بتأليف قصة شكوى الرئيس السوداني جعفر النميري منه. وكان غضب السادات منه مبعثه أنه دعاه إلى مؤتمر إسلامي عقده، فلم ينتبه للدعوة إلا بعد انتهاء موعدها. وقد نقل له الشيخ عبد الرحمن بيصار، شيخ الأزهر، كيف أن السادات مال عليه كثيرا وهما على المنصة ليسأله: هل حضر الشيخ كشك؟!
ومع هذا فلم يكن حاداً وهو يتكلم عن الشيخ الأكثر ذيوعاً وشهرة، والأعلى صوتاً وجاذبية، كما فعل عند ذكر "المحلاوي"، فقال: "أهوه مرمي في السجن زي الكلب"، وهو ما أزعج السيدة جيهان السادات وهي تستمع للخطاب من شرفة البرلمان. وبعد ذلك وعندما سئل خالد الإسلامبولي عن الأسباب التي دفعته لاغتيال السادات؛ عددها ليكون في مقدمتها أنه وصف الشيخ المحلاوي بالكلب!
فلماذا اختص السادات "المحلاوي" بهذه الحدة، إلى حد تجاوز الحدود؟ وقد نُسب للشيخ الشعراوي، دون التأكد من صحة ذلك، أنه أرسل للرئيس في اليوم التالي خطاباً يستنكر ذلك، ويقول له إن الأزهر لا يخرج كلاباً!
سيئة مصر الأولى:
الشيخ "المحلاوي" فسر بنفسه هذا اللغز، عقب اغتيال السادات والإفراج عنه. فجهاز أمن الدولة رفع للرئيس الراحل تقريراً ذكر فيه أن الشيخ اعتاد في خطبه أن يصف حرمه السيدة جيهان السادات، سيدة مصر الأولى، بأنها سيئة مصر الأولى، ونفى "المحلاوي" أن يكون قد ذكر هذا الوصف أبداً، ليطرح هذا سؤالاً بدون إجابة عن السر الذي يجعل "كاتب التقرير" يخترع هذه المقولة وينسبها للمحلاوي، فيوغر صدر السادات، ويفقد صوابه في خطاب علني على هذا النحو!
وقد كان
الظهور العلني للسيدة جيهان السادات وقيامها بالعديد من الأنشطة؛ سبباً من أسباب النقد للسادات، الذي لم يطرح للنقاش العلني أو في صحف المعارضة، لهذا فقد حفظت الذاكرة مقالاً واحداً بدا هو المقال الوحيد، الذي عبر عما كان يدور في الجلسات الخاصة والمناقشات غير العلنية، والذي كتبه الدكتور "حلمي مراد" بعنوان "الوضع الدستوري لحرم السيد رئيس الجمهورية"! ويلاحظ هنا انتقاء العبارات بعناية رغم أن الدكتور مراد كان من أشجع المعارضين في زمانه، فهي "حرم"، وهو "السيد رئيس الجمهورية". وكان الاعتقاد السائد أن "جيهان السادات"، هي من تحكم مصر أو على الأقل تشارك في الحكم، وأنها المسؤولة عن الكثير من القرارات السيئة التي يتخذها السادات.
وربما بسبب هذا المقال كان السادات يتحدث مع مقربين منه بشكل سلبي عن الدكتور حلمي مراد بإيجاز وبدون تفصيل، وبكلمات عائمة يذهب بها الخيال بعيدا، فإذا عُرف بأنه انتقد سياسات الحكومة في عهد عبد الناصر فكان هذا الموقف سبباً في عزله من منصب وزير التعليم، فإن السادات يقول إن الرائج عن شجاعته ليس صحيحاً، وأنه لم يكن ليجرؤ أن ينتقد عبد الناصر!
وكانت مشكلة "جيهان السادات" لدى الرأي العام أن حضورها كان قوياً، وأنها بدت في الشكل والمظهر، ليست من المجتمع المصري في عمومه، فهي ابنة لامرأة إنجليزية، وكانت لديها تطلعات منذ أن كانت فتاة في سن المراهقة، ولم تتمكن من أن تكون قريبة من الناس، رغم انشغالها بالأعمال الاجتماعية. ثم إن المقارنة دائماً كانت بينها وبين السيدة تحية عبد الناصر، التي لم تكن جزءا من الحياة العامة، ولم يشاهدها الناس إلا مرتين أو ثلاث مرات عند استقبال الضيوف السوفييت بزوجاتهم، وكانت هي من تشبه المصريين؛ منهم وعليهم، لكن جيهان بدت عليهم وليست منهم!
وكان السادات غريب الأطوار، يعيش في دور الرئيس لدولة حديثة، فيصطحب زوجته في المحافل العامة، وترقص مع الرئيس الأمريكي، ثم يغضب كرجل شرقي على من يقترب منها بالنقد أو الإساءة، أو ينقل عنه ذلك، فيخرج عن شعوره عندما يتحدث عن الشيخ المحلاوي. ولا ينسى للدكتور حلمي مراد مقاله الذي يتساءل فيه عن الوضع الدستوري لحرم السيد رئيس الجمهورية! ولم يكن ما كتبه إلا تعبيراً مهذباً عما يشيع عنه في المجالس الخاصة وفي الشارع، وربما كان يُنقل إليه بالشكل الذي نقل به وصف الشيخ المحلاوي لها، والذي لم يطلقه الرجل ولكنه كان شائعاً في أوساط العامة!
وهذا التناقض الحاد في شخصية السادات هو هذا التناقض بين حرصه على أن يرتدي الجلباب الريفي ويمسك عصا بيده وكأنه عمدة قريته "ميت أبو الكوم"، وبين ولهه بأن تكتب عنه المجلات الأجنبية أنه "أشيك" رجل في العالم. وفي الأولى هو يصف نفسه بأنه "كبير العائلة المصرية"، وليس رئيس دولة، ويتحدث عن أعضاء الجماعات الإسلامية فيصفهم بـ"أولادي المغرر بهم"، فهم رغم موقفه المعادي لهم فإنهم "أولادي". ويقف في لحظة اغتياله ليخاطب قاتله "يا ولد"، ولسان حاله يقول من الذي يدفع بهذا "الولد" العاق ليصوب مدفعه في وجه "أبيه"؟ وهو في الثانية يتصرف كـ"لورد" إنجليزي، ويدفع بزوجته للحياة العامة لتوصف بأنها "سيدة مصر الأولى"، ويكون حضورها كما لو كانت هي من تحكم مصر، وليس أنور السادات!
صمام أمان:
وقد جنى عليها أن المصريين لم يشعروا أنها منهم، وأن الإعلام خاطب فيها الجانب "المغرور" فصورها كما لو كانت إمبراطورة في القصر الرئاسي، ولم يكن هذا صحيحاً.
وفي مقابلة صحفية مع الكاتب الكبير مصطفى أمين، والذي كان قد ذهب بعيداً في نقده للسادات، سئل عن دورها في إحداث الأزمات بين الرئيس الراحل والمعارضة، فقال بل كانت صمام أمان!
وفي مذكراته "50 عاماً في قطار الصحافة"، روى "موسى صبري"، الصحفي المقرب من السادات، كيف كانوا يستعينون بها في بعض الملفات، وكيف كانت تخطط معهم لوجود جو مناسب يمكن من خلاله الحديث معه في ملفات حساسة، فتحشدهم في يوم زواج ابنتها، لتندفع معهم نحوه ويحيطون به في نهاية الحفل، وبهذه المناسبة يطلبون منه الإفراج عن مصطفى أمين الذي قضى تسع سنوات في السجن بتهمة التخابر بقرار من عبد الناصر.
ولم تكن هذه الأدوار مرئية، فترك حضورها السياسي أثراً سلبياً في نفوس المصريين تجاه أي حضور لزوجات رؤساء الجمهورية. وعندما تولى
مبارك الحكم، طلب منه إبراهيم سعده، رئيس تحرير "أخبار اليوم"، أن يأذن له بإجراء حوار مع "الهانم"، ورفض مبارك وقال إنه لا يريد أن يكرر قصة "جيهان السادات".
لكن بعد سنوات من ذلك، حضرت السيدة سوزان مبارك بكل قوة في المشهد السياسي، ويبدأ الحضور دائماً بالملفات الاجتماعية، ثم يذهب إلى التأثير في السياسة، وقد تجاوزت دور جيهان السادات في ذلك. وكانت المقارنة في البداية لصالحها، ثم انقلب الحال بعد أن صار لها نفوذ سياسي واضح، لا سيما ضلوعها في ملف التوريث، وكان هذا ما يحسه رجل الشارع.
وكانت تفاصيل الدور تصل للصحفيين فلا تنشر، فموضوع المعارضة هو الرئيس، فلا شأن لهم بأهل بيته. ولا شك أن مجال تحركها العريض هو بسبب الرئيس، فيستطيع أن يقوم بتحجيم هذا الدور، فما شأنهم بحديث حساس لدى عموم المصريين؟ والكائنات الفضائية التي لم تلامس الأرض المصرية أبداً، تعتقد أن شرط الابتعاد عن
النساء من أن يكن هدفاً للهجوم مرتبط بابتعاد النساء عما يخالف طبيعتهن، وهي تصورات هلامية لا تقف على أرض صلبة، فالمرأة في المجتمع التقليدي كائن فاعل، ولو تم التحقيق الجاد في كثير من جرائم الأخذ بالثأر مثلا، لثبت أن المرأة تقف وراءها، إذا لم تكن الزوجة أو الأم، فالجدة! ومع هذا فلا تكون النساء أبداً طرفاً سواء في التحقيق الجنائي في الواقعة، أو هدفاً للانتقام، أو منصة للاستهداف!
جيهان ومبارك:
ولكي نعرف حساسية الموقف، فقد حدث في منتصف التسعينيات أن نشرت إحدى الصحف الحزبية موضوعاً يحمل قدراً كبيرا من الإساءة للسيدة جيهان السادات، ولم يكن مبارك يحمل لها أي ود، وكما قال لي طلعت السادات، ابن شقيق الرئيس الراحل، إنه - يقصد مبارك - يتصور العمى ولا يتصور أحدا اسمُ السادات ضمن مكوناته ولو الجد السابع. وهذا أمر شرحه يطول، وكانت جيهان السادات تدرك هذا، فعاشت معظم الوقت خارج مصر، ولم تكن لها علاقة بالشأن العام إلا من خلال أحاديث صحفية عن زوجها عندما تكون هناك مناسبة لذلك!
لكنها بعد هذا التحقيق الصحفي، قامت بالاتصال بمبارك شاكية، ويبدو أنها بحاستها كانت تدرك أنه رغم أي خلاف سينفعل ضد ما كتب وهو ما حدث بالفعل، لقد اتصل برئيس الحزب، وكانت هذه هي المرة الثانية على مدى عشرين سنة التي يتحدث فيها معه عن شيء منشور في صحيفة الحزب، منذ أن تحدث معه في خبر خاص بالجيش، وقد كان فيه معاتباً، أما في الواقعة الثانية فقد كان غاضباً، ولهذا لم يتصل مرة واحدة، بل مرتين، الفاصل بينهما ثلاثة أيام، في المكالمة الثانية أوضح أسباب غضبه: إن من يهاجم جيهان اليوم، سيهاجم غدا سوزان!
وكانت لدى الناس حساسية شديدة بعد الثورة من
إعادة إنتاج سوزان مبارك، التي لم تستطع يوماً أن تقنع المصريين أنها واحدة منهم!
وبدا حضور السيدة
انتصار السيسي خجولاً في البداية، لكنها ظهرت مؤخراً في لقاء تلفزيوني، ومصدر قوتها أنها ليست من سلالة "جيهان السادات" و"سوزان مبارك"، إنها الأقرب إلى السيدة "تحية عبد الناصر"، التي لم يشعر المصريون تجاهها بأي فوارق رغم ما تردد عن أصولها الإيرانية، فقد نُشر أن والد السيدة تحية كان في مصر من رعايا الدولة الإيرانية، لكن مصر صهرتها في بوتقتها فصارت قريبة من نفوس المصريين!
ومنذ البداية، أخذت قراري بمشاهدة المقابلة مع عدم التعليق عليها، وعندما قال لي أحد الشباب إنه سيعلق لم أجد نفسي معنياً بأن أناقشه في ما ذهب إليه، لكنه لم يفعل، ومن فعل من المشتغلين بالعمل العام تعامل بحساسية لأنه يدرك حساسية المصريين تجاه هذا الملف، وبعض النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي خشي من أن تكون هذه الصورة القريبة من الناس يمكن أن تضيف
لشعبية السيسي، وهي أزمة حقيقية لدى هذا البعض، ممن لا يثقون في أن الخلاف مع
السيسي جذري، فلا يملكون انحيازا حقيقيا لقضية الديمقراطية ليروا في انقلاب عسكري على الحكم المنتخب ما يكفي وحده لتكوين موقف معاد للسيسي وإن صلى وإن صام!
ولا يشعرون بأهمية القضايا الوطنية، فيرون أن الإضرار بها يكفي وحده لأن نكون خصوما للسيسي لأبد الأبدين!
ولهذا لا بد من تقديم السيسي على أنه عدو للإسلام، وأن أمه يهودية، واعتبار أي كلام عن التزام ديني سابق له من شأنه أن يهز عقيدة الرافضين له ولحكمه!
فلا بد وأن يكون إبليس ليكون منطقياً أن يرجموه، فإذا رأوا في صورة زوجته ما يمثل إضافة له، فلا بد من الخروج على قيم المجتمع المصري بالتعرض لها والهجوم على من يطالب بالابتعاد عن التعارض مع قيم المصريين.
ودائما يتم استدعاء الدين لتوظيفه في الموضوع، بالحديث عن الظلمة وأعوانهم، ولا ندري أين سيذهبون بالآية القرآنية التي امتدحت زوجة فرعون! سيكون الرد حتماً: وهل هي زوجة فرعون؟ متى قالت ربنا نجني من السيسي وعمله؟! ليكون رداً: ومن سمع بحديثها الذي كان بينها وبين ربها؟!
لقد كفّروا عبد الناصر ليسهل عليهم التهامه، فهل كان عبد الناصر كافراً حقاً؟
ولا بد من وصم السيسي بالعداء للإسلام ليكون هذا مبرراً لاستباحته واستباحة أهل بيته!
ولو كان السيسي إماماً يقول و"لا الضالين" فيهتف الناس من خلفه "آمين"، لكان انقلابه، وسياساته، وإزهاقه للأرواح، واعتقاله للناس، وحكمه العضوض، وإضراره بالأمن القومي المصري يكفي ويزيد للوقوف ضده، دون أدنى خروج على قيم المجتمع.
يوم أن يؤمن الناس بأهمية الديمقراطية، لن نكون بحاجة إلى التلفيق!
twitter.com/selimazouz1