رحمة الله على "الجميع"، فذلك "الجميع" المسكين صار مضطهدا ومنبوذا ومحتقرا، لا بد وأن يبقى دائما في الحضيض ليعلوه كل شيء، فالمملكة فوق الجميع، والجمهورية فوق الجميع، والنادي فوق الجميع، كذلك النقابة، والمصلحة العليا، والنجم، والنجمة، ومصانع صبور، وأحلام سلمى الشيمي، ومعجزات الرئيس، وفواتير الغلابة..
بتعبير فلسفي ساخر حزين: يبدو أن "الجميع فوق الجميع".
أعجبتني أقوال "فتاة سقارة" في تحقيقات النيابة، وأعجبني رفضها للمحامي المنتدب "مفيش تهمة عشان أحتاج محامي، أنا هتكلم عن نفسي، أيوه عاوزة الشهرة، فيها إيه؟ هل ده غلط؟.. أنا ما دخلتش خلسة وما اعملتش جريمة، أنا دفعت تذكرة، وطلبوا مني فلوس لترضية الموظفين دفعت ألف جنيه، ولو كانت مكتوب لوحة أن التصوير برسوم كنت دفعت الرسوم، فهي بالتأكيد أوفر لي من ترضية الموظفين"!
لسبب ما، لم تلحق "كليوباترا العصر" بزميلاتها اللاتي خطفتهن "نداهة الشهرة" على "تيك توك" وإخوته من تطبقيات فاترينة عصر الجماهير الغفيرة، أو بمعنى أكثر علمية "ثورة التمرد على الحشود".. ثورة أن تخرج من تحت (حيث يقبع الجميع) لتعلو فوق الحشود.. فوق الجميع.
هل كان السبب في الردود المنطقية لفتاة الاستعراض؟
لا أعتقد، فالنيابة ومؤسسات الدولة التي فوق الجميع، لا تهتم بالمنطق، لأنها بطبيعة المرحلة مؤسسات "فوق المنطق" لدولة فوق المنطق.. دواة معجزات تصنع مفرداتها ومشاريعها ونجومها بطريقتها الخاصة. ويبدو أن شيئا ما في سلمى الشيمي جعلها على وفاق خفي مع "دولة الاستعراض"، ربما الازدواجية التي تجمع على نفس الجسد بين "العباءة والخلخال" و"أزياء العرض" حسب الموقف وحسب الحاجة، وربما بدون ترتيب مسبق حضرت الألفة وأوجه الشبه بين "دولة أعرض كوبري معلق" و"أعرض عارضة أزياء"
أتفق مع "فتاة الشهرة" في أسئلتها وطموحاتها، فهي لم ترتكب جريمة بأي توصيف، لا في الصورة ولا في الواقع، فالسعي للشهرة ليس جريمة، والصور الشخصية لا تشكل أي تهديد للأمن القومي، وأي محاولة لوضعها تحت تابو "ممنوع التصوير" ستنال من هيبة الثكنات والكباري ومنشآت
الأمن القومي التي نخفيها من أعين المواطنين، بينما هي تحت التصوير المتواصل من جانب الأعداء!
لذلك ربطت بين جريمة اغتيال العالم الإيراني فخري زاده وبين الضجة التي عاشتها
مصر الرسمية والشعبية بسبب صور فتاة سقارة، إذ يبدو أن طرفاً آخر "فوق الجميع" كان يصور أدق التفاصيل في الداخل الإيراني ويتابع خطوات عالم الذرة المحاط بحراسة مشددة، وبينما يهتم الأمن الإيراني بمتظاهرة خلعت نقابها وطالب كتب شعارا على جدار، كانت الصور من أعلى هي التي تخترق أمنه القومي، وليس صور وتحركات المواطنين.
ولا يختلف الحال في مصر وغيرها من الدول، لأننا ببساطة نعيش عصر الأقمار الصناعية والسماوات المفتوحة، ونشتري خرائط وصور بلادنا من جهات أجنبية تقوم بذلك طوال الوقت، فأي خطر على الأمن القومي تجلبه صور وشعارات وتطلعات المواطنين داخل البلاد المخترقة "من فوق"؟
سلوكيات الشيمي وأخواتها من فتيات "تيك توك" تحتاج إلى معالجة اجتماعية وليست جنائية، فهي نتائج ثقافية وسياسية وتكنولوجية ترتبت على هزيمتنا في معارك كثيرة. وأدت تراكمات الهزائم المزمنة إلى أنماط سلوكية انتقلت من الدولة "اللي فوق الجميع" والمؤسسات "اللي فوق الجميع" إلى مواطنين يريدون نصيبهم من التمييز ومن التمايز، فعقدوا العزم على مغادرة الحشود المتشابهة في السفح ليصبحوا هم أيضا "مواطنين فوق الجميع"، مواطنين يشار إليهم في الشوارع والمحال، وتكتب عنهم الصحف ويظهرون في التلفزيون، ويتناول الناس العاديون سيرتهم في البيوت والمقاهي.
وبرغم أن البوليس والتحقيقات شيء غير مرغوب فيه، إلا أنه يصلح لتلبية هذه الشهوة في الصعود إلى "قمة الهواء".. قمة الارتقاء فوق الحشود، وقد ناقش المخرج الأمريكي الكبير جورج كوكور هذه الظاهرة في واحد من أجمل وأمتع أفلامه في خمسينيات القرن الماضي، بعنوان "يجب أن يحدث لك"، وأسس لما يمكن تسميته متلازمة "جلاديس جلوفر"، الفتاة التي تعمل كعارضة لأحزمة الفساتين في مدينة صغيرة، ثم فجأة يتم الاستغناء عنها لأن محيط خصرها زاد بمقدار ربع بوصة، فترحل من مدينتها الصغيرة إلى نيويورك لتحقق حلمها القديم بأن تصبح مغنية شهيرة، لكنها لا تجد في المدينة إلا الزحام الذي يجهلها ويجعلها مجرد واحدة من العابرين في الشوارع. وفي طريق عودتها من "سنترال بارك" إلى مسكنها تشاهد لوحة إعلانات فارغة للإيجار، فتذهب في اليوم التالي لاستئجارها ووضع اسمها عليها بلا أي شيء آخر: فقط لافتة مضيئة تحمل اسم "جلاديس جلوفر". وبالفعل يجلب إليها الإعلان الفارغ من أي معنى وهدف الكثير من الشهرة والكثير من المشاكل أيضا، وعندما يسألها مخرج الأفلام الوثائقية التي تعرفت عليها في الحديقة المركزية: لماذا كل هذا؟
تقول عبارتها الشهيرة: لكي أعلو فوق الحشود، لكي أترفع فوق الزحام. فيرد المخرج الوثائقي بيت شيبارد: ولماذا نعلو فوق الحشد؟.. لماذا لا نندمج معه ونحبه ونكون منه؟
وأعتقد أن السؤال أكبر من سلوك سارة ومودة وسلمى وأي اسم فردي من النساء والرجال، لأنه سلوك دول ومجتمعات أدانت للوحة الإعلانات حتى لو كانت بلا قيمة ولا هدف، بينما القيمة والهدف تعاني في المدارس والمصانع والجامعات، كما في الأكواخ والبيوت والمقاهي. الجميع هجروا السؤال عن المستقبل الغائم، وملوا الحديث عن الواقع المأزوم، وذهبوا بعيدا على طريق الاغتراب النفسي والمكاني، وسعوا لمغادرة الحشد البائس الحزين ليكون "فوق الجميع".
ولنا عودة في مناقشة أكثر تفصيلا للقضية، فالصورة أكبر وأخطر من صورة سلمى الشيمي في رحاب الأجداد الأموات.
[email protected]