"لا
يكفي مقال واحد للحديث عن هذا الفارس الفذّ من فرسان أدب المقاومة، فقط خصّصت هذ
المقال للحديث عن هذا البعد في شخصية هذا الرجل، ذلك بأنه كشجرة باسقة كثرت وتعددت وتنوّعت ثمارها، وأخال هذه الشجرة
إلا من أشجار الجنّة، فعطاؤها ممتدّ ولتظهر تجليّاتها في هذه الدنيا القصيرة
السريعة، إلى تلك السرمديّة الدائمة التي لا حدود لتصفها عين تبصرها أو أذن تسمع
حفيفها أو قلب تخطر فيه ويقدر على وصفها او الإحاطة بحدودها. فعطاؤه كان كبيرا في عدة مجالات تميّز فيها،
بينما هذا الجانب الذي كان هو على وجل من طرح نفسه فيه، تواضعا وتورّعا وشفقة على
نفسه؛ حيث تكاثر أنصاف الأدباء والمثقفين تكاثر الفطر، وكذلك لتعدّد ميادين عطائه
فقد غفل الناس عنه أديبا ورأوه إماما وداعية ومصلحا اجتماعيا أكثر مما رأوه أديبا.
بدأ مع
الأدب بمؤهل علمي تميّز به، إذ منحته جامعة
النجاح درجة الماجستير في اللغة العربية وكان مشروع تخرجه يدور حول عتبة
الرواية
الفلسطينية وعنوانها، ثم كان له أن يؤسس مع مجموعة من الأدباء مركز بيت المقدس
للأدب، ويكون عضوا دائما في الهيئة الإدارية منذ عام 2004، حيث بذل جهودا مميّزة في
هذا المركز أذكر منها:
- رئيس تحرير مجلّة
الرحال الصغير (للأطفال).
- رئيس تحرير مجلّة مداد بيت المقدس (للفتيان).
- رئيس تحرير مجلة أدب بيت المقدس (للكبار).
- عضو لجنة تقييم الأعمال الأدبية.
- مشرف ومدير اللقاءات الشهرية للشعراء بعنوان: "نقش".
- مشرف وشريك في إدارة وتقييم أعمال المواهب الشعرية بعنوان:
"مشاعر".
وقد حرّر وراجع مراجعة
نقدية دراسات ودواوين شعر وروايات كثيرة؛ أذكر منها روايات كاتب هذا المقال، والروائية
منى النابلسي، وابتسام أبو ميّالة، وكان آخرها قبيل وفاته بقليل للأسيرتين
المحرّرتين نادية الخياط وميّ الغصين، وديوان الشعر لعمر عطاطرة، وغيرهم الكثير.
ووصل أدبه الفذّ إلى
أن يضع بين يدي أئمة المساجد على مدار عشر سنوات كتابا يضمّ مواعظ رمضانية على
مدار شهر رمضان، كخلاصة سائغة جميلة بلغة أدبية رفيعة فيها القص والعرض اللطيف
الطيّب لأجمل المعاني التي يقدّمها للناس، فكان بذلك مثالا عمليا لتقديم ما هو
محضّر وممهور ومشتغل عليه بشكل جيّد، بعيدا عن الارتجال الذي ملّ منه الناس، فكان
يتجدّد بذلك ويُبدع ويصدّر خطابا نموذجا يُحتذى به للأئمة والوعّاظ.
وكان له أن يضع أمام المعتمرين والحجاج في طريقهم من فلسطين إلى بلاد الحجاز قصص المعالم التاريخية
التي يمرّون بها، في كتاب أسماه: "قصص وعبر التاريخ لقاصد بيت الله العتيق".
كان شغوفا بتقديم ما هو جديد لم يسبقه إليه أحد.
ومن أجمل ما قرأت عنه في طريقة تعامله مع الذين
يشقّون طريقهم في عالم الأدب، ما قالته الكاتبة القاصّة منى النابلسي: "كان جميلا كالصبر، جوادا في عطائه لا
يكبو، ولطالما استندت عليه أقلام الواعدين، الراجعين منكسرين من خيباتهم الأدبية
الأولى، فكان حصنهم الأخير، دافعا إياهم نحو التقدم والتميّز. كان رجلا يعرف كيف
يحرك النبل المتجمد في قعر النفوس، فيذيبه بحكمة القول والفعل، كما يذاب السكر
الخشن في قعر الكوب، فتصبح النفوس حلوة على يديه".
أمّا في جانب العمل
الأدبي الروائي له، فقد وقفت على روايتين: واحدة بعنوان "المرياع"
والثانية: "قنديل البومة"، وبعد إلحاح كبير مني أعطاني إياها لقراءتها،
وهي تندرج في سياقات أدب المقاومة ومقارعة المحتلّ بأدب يحمل روحا عالية وقوة
عميقة تشحذ همة القارئ، وتضعه منحازا انحيازا تامّا لقضيته، فهي تجسيد لحكاية
الفلسطيني على هذه الأرض وفيها رفع عال لروح التحدّي والرباط في خندق الوطن
المتقدّم، وفيها رسم لشكل الاحتلال البغيض وما يقوم به من دور مشؤوم ساديّ مجرم.
وأنت تقرأ لفرج عبد
الحسيب، ترى شخصيته في ثلاثة أبعاد:
- ترى الإنسان الأبيّ الحرّ، ابن الوطن الذي ينحاز بوعي ومعرفة
لهذا الوطن، ويعرف من أين تؤكل الكتف وكيف يعرض قضيته.
- ترى اللغة الجميلة، لغة
السهل الممتنع، الميسّرة الممتعة التي يتجلّى جمالها وبلاغتها في بساطتها وقدرتها
على اختراق العقل والفؤاد، دون تعقيد أو تقعير أو تكلّف، أو استحضار للغة معقّدة لا
يرفع عنها أسرارها إلا جهابذة اللغة.
- وترى خفّة الروح وفكاهة
القول التي تداعب روحك، وتجعل مشاعرك تتراقص في جوفك على أنغام حروفه الناعمة
الثريّة، بما ينعش الروح وينشر الدفء والشعور بالمرح ورعشة القلب.
في روايته الأولى "المرياع": بحذاقة الغازل للنص
والراسم لمساحات فنيّة بهيجة بمحتوياتها الفكرية والسياسية والاجتماعية والتاريخية
العميقة، التي حلّق بها على الأجنحة اللغوية البديعة، ذهب بنا إلى قاع البحر بعيدا،
حيث وضع يده على أصل المأساة التي باتت الشعوب العربية ترتع فيها.
لم يقف عند حدود العرض والظاهرة المرضية، وإنما ذهب هناك إلى
الجذر المتعفن الآسن، وقد حمّل كل ذلك في العنوان، حيث حقل تخصّصه، ليبدع فيه
ويحشر كلّ ما في الرواية بكلمة واحدة هي: "المرياع"، ذاك الكائن المقيت
الذي بطل مفعوله ولكنهم أرادوا له أن يقود القطيع بما حمّلوه من أوسمة ونياشين
وانتفاش فارغ، ضخّموا شكله ونزعوا منه كلّ محتوى قد يُخرج خيرا في يوم من الأيام،
وجعلوه في مقدّمة الركب ليسير القطيع خلفه.
هل هناك أبلغ في الفهم السياسي للحالة العربية اليوم من هذا
الوصف البديع، وأديبنا الفذّ إذ يسير بقارئه في تاريخ بنيت فيه مدن الملح على رأي
الروائي عبد الرحمن منيف، وسار القطيع خلف المرياع على رأي أديبنا، فهو بذلك
يغنينا عن تحليلات السياسة وتعقيدات المعادلات الاقتصادية لدول طال عليها الأمد؛
في تبعية عمياء جعلوا بها خير الأمم أسفل قاع هرم الحضارة الإنسانية المعاصرة.
أشار أديبنا إلى المرياع ووضع يده على أساس الداء ومجمع العلل.
على الشعوب ألا تقلّد القطيع لتكون حرّة وتنفض عن كاهلها تراكمات الذلّ والهيمنة،
وأن تتحرّر من المرياع الذي بداخلها لتنتفض كل أمّة على مرياعها. الرواية تروي
قارئها بالحريّة والإحساس بالكرامة والنخوة والعزة والكبرياء، وتزوّد إرادته بوقود
حرّ خالص ليخرج من قاعه السحيق ويحلّق عاليا.
أمّا الرواية الثانية التي بين يديّ والتي ستطبع قريبا بإذن
الله، فهي تطواف جميل لفترة تاريخيّة سبقت انتفاضة الحجارة، فيها رسم لمشاهد واقعية
مرّ بها أحرار رفعوا راية الحريّة ومواجهة المحتلّ بإمكاناتهم المتواضعة ونفوسهم
الكبيرة، وكأنها ذكريات الإرادات الحرّة والعزائم النبيلة، رفعوا راية التحرّر في
وجه نكبات الاحتلال الشعواء، كما مرّ بها من خانوا قضيّتهم وطعنوها في الظهر، أناس
مردوا على النفاق وخدمة المحتلّ.
في الرواية معترك صاخب، تشقّ شخصية بطل الرواية "سليم"
طريقها بصعوبة بالغة، ينالها ما ينالها من أذى الاحتلال وعملائه وتبقى صابرة شامخة
لا تلين لها قناة، يذهب بنا معها إلى السجن بكل ما يحمل من مآسٍ وآلام، فيها
حوارات عميقة ولطيفة، تحمل فلسفة وبلاغة وأفكارا متصارعة وخلاصات حكيمة باهرة
مرفوعة بأدب مقاوم عظيم.
فرج كان بيننا بفعله العظيم، كان بيننا أدبا وروحا، كان بيننا إنسانا
طيّبا لطيفا جميلا، كان بيننا وسيبقى بيننا ومعنا بأدبه الخالد، وما حمّله لحرفه
السّديد من روحه العظيمة المتألقة الجميلة.
أبشّرك سيدي بأن من يترك علما يُنتفع به لا يموت أبدا، ولا ينتهي
من حياة الناس، خاصة أهل الأدب والعلم والمعرفة، ستبقى منارة عالية وراية خفّاقة، أديبا
رفيعا حيث كنت تتورّع عن تقديم نفسك، بينما قدّمت كثيرين وكنت رافعة طيبة لهم
فوصلوا إلى ما وصلوا إليه.
حقّ علينا اليوم بعد وفاتك أن نرتفع بك كما ارتفعنا بك في
محياك.
حقّ وواجب علينا أن نقدّم شيئا من حقّك علينا، وأن نرفع رايتك
وما تركته لنا من هذا الإرث الأدبي الطيّب.