هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لنستعير اسم الرواية ذائعة الصيت "خريف البطريرك" للكاتب الكولومبي "غابرييل غاريثا ماركيث"، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب، وربما استلهم من اسمها الكاتب محمد حسنين هيكل عنوان كتابه "خريف الغضب"، في وصف السنوات الأخيرة من حكم الرئيس السادات!
فالقادم بالنسبة للجنرال المصري ليس هو الأفضل، فقد انتهى شهر العسل الذي بينه وبين البيت الأبيض بسقوط ترامب، وبدا هو كما لو كان قد أصبح هدفاً للصحافة الغربية، التي تقوم بفتح ملفه في مجال حقوق الإنسان، وإذ هرب إلى فرنسا لفك حصارها، وهي تعيش مقاطعة موجعة لاقتصادها، فإن هذه الزيارة كانت الأكثر إثارة للجدل والرفض في الداخل الفرنسي، لدرجة أن لقاءات بمسؤولين فرنسيين مثل عمدة باريس، استحى الجانب الفرنسي من نشرها على المواقع الخاصة به، فالإثم هو ما كرهت أن يطلع عليه الناس!
وقد تفجرت من جديد قضية مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني بعد انتهاء النيابة من تحقيقاتها، وتوجيه الاتهام لعدد من الضباط؛ كان من اللافت أن النيابة حددتهم بالأسماء، وقد استبعدت خامسهم لعدم كفاية الأدلة، فكيف استطاعت أن تثبت أن الأربعة مدانون؟ وقبل أن يستعمل المرء خاصية التكهن أو "التخمين"، فإنه يفاجأ بالمعلومات الخاصة بالضباط المتهمين بتعذيب ريجيني حتى الموت، ومنها أرقام الهويات الخاصة بهم، وأماكن عملهم بالتحديد، وتحديد من أحيل منهم للتقاعد ومن لا يزال في الخدمة حتى الآن. وإذا كانت السلطات المصرية قد أكدت عزل أحدهم، فقد أكدت التحقيقات الإيطالية أنه لا يزال في الخدمة، ليثبت أنه بالفعل كذلك وأنه الضابط المكلف بعملية "المبادرة المصرية"!
ووجد السيسي نفسه لأول مرة في قفص الاتهام، فذهب يدافع عن نفسه في مواجهة الاتهام بأنه حاكم مستبد، بعد أن عزف ذات الأسطوانة المشروخة عن مواجهة الإرهاب، لكنه وجد أنها لم تعد مقبولة لدى الرأي العام الغربي، فهل أعضاء المبادرة من "الاسلامويين"، بحسب التعبير المعتمد لدى الرئيس الفرنسي؟
وجد السيسي نفسه لأول مرة في قفص الاتهام، فذهب يدافع عن نفسه في مواجهة الاتهام بأنه حاكم مستبد، بعد أن عزف ذات الأسطوانة المشروخة عن مواجهة الإرهابوتأتي قضية التعذيب الذي أفضى لوفاة الباحث الإيطالي بالتفاصيل التي نشرتها النيابة الإيطالية لتعزز لدى الجميع من فكرة الحاكم المستبد، الذي يشقى باستبداده الجميع، وليس فقط الإرهابيون!
الهاجس الذي يسيطر على الجنرال دائماً، أن هامش الحرية الذي كان في عهد مبارك في سنوات حكمه الأخيرة هو الذي أغرى المصريين بالثورة والخروج عليه، ومن هنا قرر أن يحكم بالحديد والنار
السيسي ليس مبارك، فلم يأت وفق القواعد المتوافق عليها، فقد انقلب على رئيس منتخب بقوة السلاح، وإذا كان هناك من قبلوا به وأحاطوا بكرسي الحكم، فقد تذكروا بعد أن ذهبت السكرة وحلت الفكرة، أن هذا لم يكن ما فكروا فيه
ما لم يدركه السيسي أنه كانت لحركة المعارضة لمبارك رموز لم يستوعبها النظام القائم حاليا، فقد كان جسمها العام من الشباب، لكن المعارضة المدجنة لم تستغل حالة الحرية النسبية في الخروج عليه، لقد ظلت معه حتى اللحظة الأخيرة!
ولا ننكر بطبيعة الحال الضغوط الخارجية، والتي كانت وراء العدول عن سياسة وقف منح التراخيص بإصدار صحف جديدة، بل وتعديل الدستور بما يسمح بانتخابات تنافسية بعد مرحلة الاستفتاءات. ولا ننكر أننا فوجئنا بذلك بإعلان مبارك، فالدعوة لتعديل الدستور كانت من المحرمات طيلة حكمه، ولو لإزالة النصوص الخاصة بالنظام الاشتراكي في دولة انتهت علاقتها واقعيا بالاشتراكية. فقد كان أي حديث عن تعديل الدستور يتعامل معه النظام على أنه يستهدف تعديل النص الذي وضعه السادات بالرئاسة المفتوحة!
وأذكر أنه قبل شهور من هذا الإعلان من جانب مبارك، أن صفوت الشريف كان يدعو أحد رؤساء الأحزاب للمشاركة في الحوار الوطني الذي يقيمه الحزب الحاكم، وهو يناقشه في الخطوط العريضة، قال رئيس الحزب الجديد إنه سيطالب بتعديل الدستور، وكان رد صاحب الدعوة أن الرئيس يغضبه ذلك، فهذا موضوع حساس، وقد التزم، وبعد أسابيع كان التعديل!
لقد كان التعديل بناء على ضغوط خارجية، لكن النظام التف على هذه الضغوط بتعديلات منها انتخابات بطعم الاستفتاء، تماماً كما التف على الضغوط بالإفراج عن معارضين، وفي عدم الخشونة مع المظاهرات، وكانت النصيحة التي اعتمدها النظام من قبل أحد المعارضين الرسميين هو أن تكون المواجهة من قبل الشعب، ولعله كان يقصد المنتمين للحزب الوطني، لكن جمال مبارك الذي نحّى القيادات التاريخية للحزب صنع حزبا جديداً مع الإبقاء على لافتة الحزب، فلم يجدوا الحزب فتركوا الأمر للأمن الذي كان يستدعي البلطجية، إلى أن كانت واقعة الاعتداء على الصحفية نوال علي أمام نقابة الصحفيين في يوم تظاهر فيه البعض على سلالم النقابة، وإذ انتقلت صورة قيام الشبيحة بذلك عبر الفضائيات، فاستفز هذا المجتمع، ودفع الرئيس الأمريكي باراك أوباما للتدخل وطلب من مبارك التوقف عن هذه السياسة بعد تبكيته على ما جرى!
وإذ تمت الدعوة لمظاهرات حاشدة، كان من المؤكد أن يد النظام لن تستطيع أن تقترب منها بعد هذا التدخل من قبل الرئيس الأمريكي، فتم تأمين الأمر عبر التنسيق الأمني مع المنسق العام لحركة كفاية جورج إسحاق، فالمتظاهرون قرروا أن تكون المظاهرة في ميدان ضريح سعد زغلول بوسط القاهرة، إذن فلتكن صامتة بالشموع!
وأذكر وأنني وعدد من الزملاء قررنا بعد المظاهرة أن نخرج من المكان بالشموع المضاءة، وكان الخروج يتم عبر مداخل أمنية، وقد رفضنا الاستجابة لطلب الضابط بإطفاء الشموع، فالتفت إلى إسحاق وهو يقول له: "لم نتفق على ذلك"، والذي أخبرني أن الخروج من المكان يكون بدون شموع. وأذكر أنني صحت فيه، فقد كنت غاضبا هذه الأيام لما جرى، وخرجنا بالشموع لكن ماذا يصنع خمسة أفراد بشموعهم في الشوارع؟!
أين المشكلة؟
ولا أدري لماذا يرى السيسي أن المشكلة في الحرية النسبية التي كانت في عهد مبارك، ولا ينتبه إلى الإجراءات القمعية التي اتخذها مبارك، فلم يكن مسموحا للمظاهرات بعيدا عن سلالم نقابة الصحفيين. وعندما حدثت انتفاضة القضاة، مكّن رجاله من السيطرة على النادي، كما أنه أعاد مرة أخرى إشراف الموظفين على الانتخابات، واعتقل معارضين له مثل الدكتور أيمن نور، وسحل آخرين في الشوارع، ومنع برامج لفضائيات كما جرى مع برنامج لبي بي سي، كما أغلق مكتب الجزيرة، وكانت النهاية بانتخابات زُورت بالكامل لصالح الحزب الحاكم!
لماذا لا يرى الجنرال أن هذا القمع قد يكون هو السبب في الثورة، أو "الفوضى" بحسب رأيه؟!
لا بأس، فالأمر لن يسير وفق قناعات السيسي لأنه ليس مولانا ولي النعم ومانح الحريات!
فالضغوط الأجنبية على مبارك آتت أكلها، وقد أنتجت صحفاً، وأحزاباً، وتعديلا لنصوص الدستور، وسوف تعود هذه الضغوط من جديد مع عهد بايدن، وإذا لم يكن الداخل وحده قادرا على صنع حالة الحرية النسبية، فإن الضغوط الخارجية ستجبره على ذلك وقد بدأت!
إن اجتماع مجموعة المبادرة مع سفراء أجانب بمقر هذه المنظمة لم تكن له سوابق على مدى سبع سنوات، هي عمر الانقلاب العسكري، فهو اجتماع إذن يدخل في سياسة جس النبض، وإذ اعتقل ثلاثة من قيادات المبادرة، فلا بد من ملاحظة أن المسؤول عن هذه المنظمة سابقاً حسام بهجت، أعلن أنه تولى المسؤولية لحين خروجهم، وفي هذا تحد كبير للنظام العسكري، فقد كانت هذه الخطوة تلزم بالقبض عليه حالاً، إلا أنه لم يفعل!
حدث أن أجبر النظام بسبب الضغوط الخارجية على الإفراج عنهم، والمعنى المباشر لذلك، أن هذه المنظمات ستعود من جديد لممارسة نشاطها، وهو أمر من شأنه أن يعيد الحرية النسبية التي يتخوف منها السيسي