كتب

الدين والدولة في فكر محمد الطاهر بن عاشور.. (2من2)

الطاهر بن عاشور وجد في الإسلام حلّا بديلا لحفظ نظام العالم وضبط تصرّف الناس فيه (عربي21)
الطاهر بن عاشور وجد في الإسلام حلّا بديلا لحفظ نظام العالم وضبط تصرّف الناس فيه (عربي21)

الكتاب: الدين والدولة في فكر محمد الطاهر بن عاشور.. دراسة تحليلية مقارنة 
الكاتب: محمد بن عبد الجليل
دار النشر: مجمع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المختص- تونس
عدد الصفحات: 251 صفحة

الإصلاح في صميم العلاقة بين الدين والدولة

 

ينزل الباحث طرح محمد الطاهر بن عاشور، لعلاقة الدين بالدولة في صميم حركة الإصلاح التونسية، فيرى أنها حركة سابقة للإصلاح الذي قاده الأفغاني وعبده في الربع الأخير من القرن 19؛ فقد عمل كل من الجنرال خير الدين ومحمد قبادو على التجديد في دعائم التعليم لمواجهة الخطر الأوروبي، بإدراج العلوم الحكمية والرياضية في ما يتلقاه الطلبة؛ اقتداء بالمناهج التربوية الغربية، وأسس أحمد باشا المدرسة الحربية بباردو والمكتبة الأحمدية سنة 1840، وعمل المشير محمد باشا باي على تنظيم المحاكم الشرعية. 

وضمن هذا المسعى الإصلاحي، ظهر "عهد الأمان"(1857) الذي يعد أقدم دستور في العالم العربي. ناصا على منح السكان التونسيين حقوقهم الأساسية في الأمن على أرواحهم وأملاكهم وأعراضهم. ثم أُعلن الدستور الجديد (1861) فحدد صلاحيات السلطتين التنفيذية والتشريعية، وكرس العديد من المبادئ السياسية، منها -خاصّة- إمكانية إقرار مسؤولية الباي السياسية أمام "المجلس الأكبر" عند مخالفته للقوانين، فكان مرجعا فكريا لمقاومة الحماية الفرنسية لاحقا والنضال ضدّها. 

لقد كان هذا الإطار الحضاري المنبت الذي انبثق منه فكر الطاهر بن عاشور، فجاء إصلاحيا يركز على التجديد في الشأن التربوي صياغة لأشكاله وتحديدا لمضامينه. ومن أهم ما ألف في هذا المجال أثره "أليس الصبح بقريب"، ثم اتجه إلى تفسير القرآن وعمل على تحرير التفكير الديني مما علق به من التقليد والجمود. فكان يقارب قضايا الواقع من منطلق العلاقة بين الدين والدولة، ويجعلها سؤاله المركزي. فينظر في الماضي ليفهم الأسباب التي جعلت دول المسلمين تصاب بالوهن والتقهقر وتغدو مطمعا للدول الرأسمالية. ويستشرف المستقبل متسائلا عن سبل النهوض من جديد. على أنّ انبثاق فكره من الحركة الصلاحية التونسية لا ينفي ذلك تأثره بالأفغاني وعبده، زعيمي التيار الإصلاحي في العالم العربي والإسلامي.

3 ـ فكر الطاهر بن عاشور الإصلاحي على مستوى الدين والدولة

أ ـ في الدين:

عمل محمد الطاهر بن عاشور على تقويم التفكير في الدين ضمن رؤية شاملة منسجمة، سواء على مستوى الأفكار الكبرى والأنساق الناظمة أو على مستوى الظواهر الفرعية أو الخاصة. فقد كان يصدر عن قناعة مدارها على أنّ غاية الدين عامة، سواء كان إلهيا أو وضعيا، تحقيق للفضائل والحيلولة دون الاستسلام لشهوات النفس. وهذا شأن الديانات السماوية طبعا. 

ولكن لمّا كان الاختلاط في الاعتقاد والتشريع قد غلب على الديانتين اليهودية والمسيحية، وعسر فيهما الفصل بين ما هو من حقيقة الدين وما هو من الوهم، وجد أنّ الدين الإسلامي وحده يمكن أن يوصف بالشمول والمركزية والقدرة على انتشال الإنسانية من الأوحال التي وقعت فيها. فهو يجري على ما فطر الله عليه البشر عقلا، وجميع أصوله تنبع من هذه الفطرة حتى يكون دينا عالميا موجها للإنسانية قاطبة، شاملا لمختلف مناحي الحياة. 

 

يفهم ابن عاشور الدين فهما مقاصديا؛ فيربطه بمصالح المؤمنين ولكنه لا يقيّد حياتهم التقييد الصارم الذي يجافي التحوّل والتّطور، فيترك مجالا واسعا للاجتهاد لاعتقاده بأن الإسلام لم يحدد كل مناحي الحياة، ولم يقتحم كل أبوابها، لا عجزا أو نسيانا، وإنما حتى يعول العقل على نفسه وأن يفكر بحرية، وأن يتحمل مسؤوليته في تفكيره الحر هذا.

 



ويلاحظ الباحث أن ابن عاشور يعتمد في أطروحاته مخاطبة العقل بالاستدلال والحجج التي يراها مقنعة، منطلقا من استقراء النصوص الشرعية الإسلامية وكاشفا انسجامها مع الفطرة البشرية بالعقل والبرهان.
 
ضمن هذا الأفق، ينزّل عمله على إصلاح وضع المرأة في أثريه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" و"التحرير والتنوير". فيرى أنّ المرأة قد عانت طويلا من إهدار حقوقها، وينادي بضرورة تعليمها لدورها في المجتمع ولدور العلم في النهوض بالأمة ويلح في طلبه، حتى كانت الدعوة إلى تعليمها أصلا من أصول فكره. 

ثم جسد ذلك عمليا عندما تولى مشيخة الجامع الأعظم سنة 1945؛ فمكّن الفتيات المسلمات من التعليم الزيتوني وفتح فرعا خاصا بالفتيات سنة 1949. ومع أنّ الإسلام يخاطب جميع الناس بصرف النظر عن العرق والجنس واللون لبعده الشمولي العالمي، يعتقد أن الاختلاف في الخلقة بين الرجل والمرأة ينتج تشريعا خاصة بهما. وفي هذا السياق ينزل الأحكام الموسومة بأحكام النساء. 

وإجمالا، جاء إصلاحه الديني متفاعلا مع سياقه الحضاري والفكري، مدافعا عن الإسلام ضد الأطروحات التي سادت عصرئذ وعملت على تصويره معاديا للمدنية والتمدن؛ "فالعقائد الإسلامية وشرائع الإسلام وقوانينه، حقائق تدركها العقول وتطبقها على الخارج فتجدها مطابقة للواقع. وهي كلها تحوم حول تقديم المجتمع الإسلامي أفرادا وجماعات في الاعتقاد والتفكير وفي الأعمال، على أن يأخذوا بالحقائق وينبذوا التوهمات والتخيلات وما نسميه بالخرافات". فجادل الطرح المادي الذي يرى أن في العلم غنى عن الدين وحلا لمختلف المعضلات التي يواجهها البشر، مبرزا أنّ التقدم التقني مهم له وظائفه وفضائله، ولكنه لا يحل محل الدين. 

ويفهم ابن عاشور الدين فهما مقاصديا؛ فيربطه بمصالح المؤمنين ولكنه لا يقيّد حياتهم التقييد الصارم الذي يجافي التحوّل والتّطور، فيترك مجالا واسعا للاجتهاد لاعتقاده بأن الإسلام لم يحدد كل مناحي الحياة، ولم يقتحم كل أبوابها، لا عجزا أو نسيانا، وإنما حتى يعول العقل على نفسه وأن يفكر بحرية، وأن يتحمل مسؤوليته في تفكيره الحر هذا.

ب ـ الدولة في فكر ابن عاشور

ينزّل الباحث تفكير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في الدولة ضمن الدفاع عن الدين؛ فقد ظهر في سياق سياسي وتاريخي وحضاري متحمس للقوانين الوضعية إثر سقوط الخلافة العثمانية نهاية الربع الأول من القرن العشرين وظهور تيارات وأحزاب علمانية، ويؤكد رحابة صدره وصبره على الاختلاف ومجادلته لخصومه الفكريين وفق تمش منطقي من وجهة نظره. فدافع عن مؤسسة الخلافة وجادل فيها علي عبد الرازق فكريا، مبرزا أنّ على وجوبها لا يقتصر على القرآن والسنة، مؤكدا أنّ وصول بعضهم لها باعتماد السيف لا يبطل أصلها. 

وفي رده على الرافضين للدولة التيوقراطية، القائلين بأن الخليفة يستمد قوته من الله، يبرز أنّ الحاكم في الإسلام يستمد سلطته من بيعة الأمة أو من عهد من بايعه، "فمصدر السلطة إذن هو الأمة"، و"الخليفة لا يستمد سلطته من الله لا بوحي ولا باتصال روحاني ولا بعصمة". 

 

من الرابطة الإسلامية تتحقق في المجتمع مكارم الأخلاق والعدالة وما يلحقهما من إنصاف ومساواة وتعيين الحق والتسامح ونشر الدين وتأييد حرية المعتقد داخل النطاق الإسلامي السني

 


واستقر الرأي عنده أنّ الدين تشريع يقتضي تنفيذ قوانينه، والمؤسسة التي يعهد لها هذا الدور هي الدولة؛ باعتبارها من يمتلك السلطة التنفيذية. ومن هنا يجد أنّ الإسلام دين ودولة. وآيته في ذلك أن الرسول كان ينصب الأمراء والقضاة. 

لقد مثل مفهوم الأمة هاجسا في فكره، فعمل على ربطه بمفهوم المقاصد التي ترى أن الغاية من التشريع حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل والعرض وحفظ المال، بل إنه جعل حفظ الأمة القوية المهابة المطمئنة الآمنة أحد هذه المقاصد، ولا يتحقق ذلك إلا بالحرص على مصالح الإنسان في معاشه ومعاده. 

يدوّن "أهم مقصد للشريعة من التشريع انتظام أمر الأمة وجلب المصالح ودفع الضرر" أو "جميع تصرفات الشريعة تحوم حول إصلاح الأمة في سائر أحوالها بما في ذلك الزواجر والعقوبات. فما هي إلا لإصلاح حال الناس"، وهذا ما ينسجم مع الفلسفة الحديثة لفكرة الدولة التي تخصّها بالاستعمال الشرعي للقوة واحتكار العنف. 

ومما أضاف من المقاصد الجديدة للشريعة المستمدة من روح العصر وقيمه:

ـ مقصد الحرية ومنها الحرية في المعتقد والحرية في التعبير والحرية في العمل والحرية في العلم والتعليم والحرية في التأليف والحرية في البحث، وعدّ العدوان عليها نوعا من أنواع الظلم الذي يسلّط على الرعية.

ـ العدالة عبر "المساواة بين أفراد الأمة في تطبيق الأحكام والحقوق، ضعيفهم وقويهم لأنهم متساوون في الخلقة وفي حفظ الحياة. وسماحة الشريعة إنما تعني الوسطية لا غلوّ فيها ولا تفريط. فليس المقصود منها النكاية بالناس ولا إدخال الحرج عليهم".

ومن مظاهر رفضه للتقليد وعمله على مواكبة العصر، أنْ جاء تفكيره في الصلة بين الدين والدولة متفاعلا مع السياق العالمي الذي يكرس الحقوق ويلحّ عليها. فدعا إلى الحفاظ على مختلف مظاهر الحياة في الكون وخص الحياة الإنسانية فجعلها في الآن نفسه حقا من حقوق الإنسان، ومقصدا من مقاصد الشريعة، وأدان الحروب والاستعمار باعتبارهما من أسباب "التفاسد والتهالك"، ووجد في الإسلام حلّا بديلا لـ"حفظ نظام العالم وضبط تصرّف الناس فيه". وكان يصدر عن قناعة مدارها أن التربية أساس لمناعة الدولة وحصانة الأمة، فسعى إلى التخلص من الجمود والتقليد الذي يسم البرامج التعليمية، مقدرا أن العلوم التي تلقن في الزيتونة "إضاعة للأعمار وحشو للأدمغة"، مركزا على ضرورة الإصلاح التربوي من جهة المناهج والمحتوى، رافضا لأسلوب التلقين.


ومن منطلق الصلة بالدين والدولة، يحدد طبيعة الروابط في المجتمع؛ فرغم ارتباط الاجتماع بعديد الأواصر، تظل آصرة الدين الرابط الرئيسي وأولى الجوامع. فمن الرابطة الإسلامية تتحقق في المجتمع مكارم الأخلاق والعدالة وما يلحقهما من إنصاف ومساواة وتعيين الحق والتسامح ونشر الدين وتأييد حرية المعتقد داخل النطاق الإسلامي السني، "فللمسلم أن يكون سنيا سلفيا أو أشعريا ماتريديا، وأن يكون معتزليا أو خارجيا أو زيديا أو إماميا.. ولا نكفّر أحدا من أهل القبلة"

4 ـ الكتاب وبعد:

يطرح الكتاب إشكالية مهمة تناولتها أقلام كثيرة من زوايا مختلفة، وما يحسب له هو تسليطه الضوء على منجز الشيخ محمد الطاهر بن عاشور وإبرازه أنه كان يفهم الدين من منطلق دور الدولة ومصلحتها وسبل نهضتها، وفي الآن يفهم الدولة من منطلق تصور الدين ومصلحته. 

ولكن مع ذلك، يمكن أن يناقش صاحب الأثر في نقاط كثيرة. فالتأصيل النظري الذي ينفتح على منجز الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ في علاقة الدين بالدولة، ظل أقرب إلى الملاحظات المفردة المنتقاة من هذا الأصل أو من ذاك  المرجع، دون تبرير لهذا الانتقاء ودون أن يكسبه الترابط والتماسك الضروريين ليعكس رؤية واضحة متينة. 

وفضلا عن ذلك، فقد كانت وشائجه واهية بفكر محمد الطاهر بن عاشور حتى كاد الأثر يكون بحثين منفصلين، أولهما الدين والدولة في العلوم الإنسانية عامة، وثانيهما الدين والدولة في فكر محمد الطاهر بن عاشور. ولم يساعدنا الفصل الختامي من الأثر على تبيّن مدى تماثل فكر ابن عاشور مع هذا المنجز أو تباينه معه لإبراز طرافته، وإنما قفز إلى مبحث الإسلام السياسي بين الموجود والمنشود، ربطا لظاهرة الإسلام السياسي في تونس اليوم بفكر ابن عاشور في فصل مسقط، يفتقر إلى الحجاج والإقناع، وكأنه لا يعي ما بهذه الأطروحة من ثقل يفرض دراسة مقارنة معمّقة متأنية. وهذا ما يخرج بالأثر عن الغاية البحثية الموضوعية الرصينة. 

زد على ذلك، اعتماده أحيانا لخطاب متشنج يشكك في نوايا جميع مخالفيه في الرأي ويجرّح في مشاريعهم نحو: "لذلك تعيش الأمة اليوم صراعا محتدما في الداخل بين عناصر الشد والجذب، ولعل ما يقوم به الروافض من تشويه للماضي وهتك لأعراض رموز الإسلام من الصحابة وأمهات المؤمنين من زوجات الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما ينتهكه صهاينة العرب من حرمات باغتيالهم للحرية وخيانتهم لقضايا الأمة، يدخل ضمن هذا الصراع؛ فهم يمثلون بشعوبيتهم الرعناء وفكرهم المأفون الطابور الخامس داخل الأمة، تماما كما يفعل أدعياء الحداثة أو الذين ينسبون أنفسهم إلى التصوف والسلفية من المداخلة وسماسرة دكاكين السياسة الحمقاء، للحفاظ في ظنهم على مصالحهم الشخصية التي تحالفوا من أجلها مع الشيطان. 

وهم بذلك اختاروا الطريق الأقصر ونسوا أنها الأكثر أفخاخا وأن التاريخ لا يكتب بالحقائق العاجلة، وإنما بالحفاظ على المخيال الرمزي للجماعة". والحال أنه يثني على عمق أفكار ابن عاشور ورحابة صدره وعدم تشنجه في الرد على خصومه ومقارعته لهم بالحجة والبرهان.

 

اقرأ أيضا: الدين والدولة في فكر محمد الطاهر بن عاشور.. (1من2)

التعليقات (0)