قبل أقلّ من 24
ساعة ودّعنا سَنة 2020، سَنة الصعوبات المُركّبة، وفيروس كورونا المدهش، والحروب
الساحقة، والطائرات المسيّرة، والموت، والاغتيالات، والهجرة نحو المجهول، وغيرها
من المآسي التي أذهلت الناس في عموم القارّات!
قبل ساعات استقبلنا
عاما جديدا، نأمل أن نستعيد فيه بعض السعادة، ونعيش فيه دون أن نبتعد عن الأصدقاء
والأحباب ما لا يقلّ عن مترين، وبلا هجران لواحات التلاقح الفكريّ، والتعايش المجتمعيّ
خوفا من وباء قاتل!
احتفل الناس
بقدوم العام الجديد، وملأت الأضواء والألعاب الناريّة سماء أغلب مدن العالم، وكلّهم
يأملون أن تكون أيّامهم خاليّة من الشوائب والفيروسات، وأصوات المدافع، وغدر
الأسلحة الكاتمة، وأنين الغُربة!
هنالك، في مدن
الهِجرة وفي عشرات الدول، ملايين المهجّرين الذين يحلُمون بوطن يحميهم، وبيت يظلّهم،
وحكومة تدافع عنهم، ولمّة عائليّة يتطلّعون إليها!
لا شكّ أنّه ليس
من الهيّن الكتابة عن أحلام المُغتربين وسط أمواج النزوح المظلمة والقاتلة؛ لأنّ
من الصعوبة عَصر سنوات التغرُّب وحصرها بكلمات معدودة، ولأنّ المحاولة ستفشل حتما في ترجمة حدود آلام الترحيل، وفي نقل حرارة الدموع، أو غليان الأرواح، وأنين
الذكريات!
سأكتب بعد أكثر
من 15 سنة من الهجرة الإجباريّة عن وطني
العراق، وأدوّن بعض لحظات الحرمان،
والغربة، والأشواق، والآمال البسيطة، والصعوبات المتكرّرة، بل والمُعقّدة والمَاحيّة
للكرامة أحيانا، في زمن نكتب فيه عن حقوق الإنسان، والرفاهيّة، والكرامة، والسعادة
لجميع البشر!
سأكتب عن
العراق والقلق الذي يساورني:
هل إذا ذهبت
لبلدي سأدخل من بوّابة المطار كأيّ مواطن، أم أنّ هنالك حواجز (قانونيّة) باطلة،
ربّما تَدفعني لظلمات السجون، وتسحقني، ولأجد نفسي حينها في دهاليز الموت، وزنازين
الانتقام، وفي وطني الذي حلُمت بالعودة إليه؟
يأخذني الحنين
إلى بغداد وديالى حيث مدرستي، التي أقِلْت منها رغما عني، هناك حيث الذكريات والأيّام
الجميلة، بل وحتّى تلك اللّحظات الخالية من الوئام والتفاهم، وكأنّها سَراب مرّ
على عقولنا، وليس حقيقة كُنا جزءا منها في يوم ما!
يهزّني، في
دروب الغرباء، شوق وتلهُّف للأصدقاء والزملاء والطلاب بعد أن تقطّعت بيننا الدِيار،
وتمزّقت أغلب تلك الذكريات التي كانت مليئة بالوفاء، والصدق، والنقاء، والعلاقات
الإنسانيّة البريئة الخالية من المصلحة، والأنانيّة، والغدر، والهجران!
سأكتب عن البؤس
في غربتنا المليئة بالحسرات والتوق لبلاد هُجّرنا منها بلا ذنب، وبلا أيّ مبرّر
قانونيّ، أو شرعيّ، أو عرفيّ!
تتصارع في دروب
الغربة الأحلام والذكريات، وتتنافر الأمنيّات مع الواقع المفروض على الغرباء بتفاصيله
الفتّاكة!
زخرت سنوات
الغربة بحسرات مزّقت الأفراح، وزرعت الأتراح، وقست على النفس لدرجة الشقاء، وكأنّه
صراع من أجل البقاء على "قيد الحياة"، وليس لأيّ غاية إنسانيّة أخرى!
سأكتب عن الأشواق
التي تأبى الجفاف، ولا ترضخ لليأس، وتتمسّك بالأمل والحياة، ورغم كلّ العقبات، بل
والفواعل القاتلة، أجد تلك الأشواق المتنامية تهرب من عقلي، وتتشبّث بقلبي، وتقول:
لن أكفّ عن الحنين، ولن أمسح الذكريات بتفاصيلها الدقيقة!
سأكتب عن
أمنياتنا البسيطة، التي أصبحت من المستحيلات أحيانا!
فهل تُصدّقون
أنّ المُغترب يَحنّ لأبسط أطْعِمة الفقراء في أرض الوطن، ويتمنّى رغيفا من خبز
التنّور، وجلسة جميلة تجمعه بأهله، ويتحسّر حتّى على زيارة قبور أهله، وكلّ هذه
الأحلام المتواضعة بعيدة المنال لأنّ بينه وبينها حدود، وعقبات، ومخاوف، وظلمات!
سأكتب عن بعض
صعوبات المهجَّرين، التي تبدأ من الإقامة وتعقيداتها، وشروطها التعجيزيّة في بعض
البلدان، وتنتهي بالتفاصيل اليوميّة التي يجد المُغترب نفسه، أحيانا، كأنّه عالة
على بعض سكان تلك البلدان!
السعادة
الحقيقيّة للمُهاجر أن يَجِد نفسه في ربوع الوطن، وبين أهله وأحبابه، وهي تطلّعات
وأحلام، ربّما ستكون، ولكن بعد فوات الأوان! وحينها ستبْرُد الأشواق، وتذبل الأمنيّات،
وتموت الذكريات، وساعتها تتساوى لحظات الأمل واليأس، والسعادة والتعاسة، والبياض
والسواد، والجفاف والربيع!
المغتربون
ضحايا السياسات الطائفيّة المُبغضة للخير والسلام، والحاقدة على الحياة والوطن!
مهما كتبنا عن هموم الغُرباء والمُهجّرين فلن ننقل لحظات عذابات الغربة، فكيف
سنبيّن هموم عشرات السنوات ببضع كلمات؟
الغُربة رحلة،
أو ربّما عقوبة مليئة بالهموم، والدروس، والأمنيّات المؤجلة، والذكريات المَحْبُوسة!
وكأنّ لسان حال
الغُرباء يقول:
ما أصعب الحنين
لوَطن كان وطنك!
ولبيت كان بيتك!
ولذكريات كانت ذكرياتك!
ولأيّام كانت أيّامك!
كلّ عام وأنتم في
أحضان الوطن بأمان وسعادة!
twitter.com/dr_jasemj67