منذ نحو عشر سنوات دعيت لحفل فخم في قاعة احتفالات كبرى بشارع "وايت هول" وسط لندن، حيث مقرات الحكومة البريطانية، لإعلان جوائز أفضل الشركات التركية العاملة في
بريطانيا. حضل الحفل وزراء من الدولتين بالإضافة لعمدة لندن آنذاك بوريس جونسون. كان الأمر أكثر من مجرد تسليم جوائز، إذ جرى الحديث عن الشراكة التجارية بين الجانبين ودور الشركات التركية في بريطانيا. وقتها كان الترحيب الغربي وخاصة البريطاني بالتجربة التركية في أوجه، ووصل الأمر وقتها لتأسيس منتدى "اللسان العذب" السنوي الذي لا يزال يقام بالتناوب بين البلدين لتعزيز الشراكة الحكومية والدبلوماسية والتجارية والإعلامية بينهما.
بعد عقد من الزمان وقد جرت في نهر
العلاقات التركية الغربية مياه كثيرة من الخلافات، يبدو أن بريطانيا لم تجد شريكا تجاريا استراتيجيا أفضل من
تركيا كبديل للاتحاد الأوروبي، لتكون بذلك الاستثناء الغربي وسط العقوبات الأمريكية والتوتر مع دول الاتحاد الأوروبي خاصة فرنسا. إذ أدارت الولايات المتحدة ظهرها لبريطانيا بعد وعود قديمة أثناء حقبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإبرام اتفاقية
تجارة حرة بين البلدين تعوض العجز التجاري المتوقع بعد
الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وقع البلدان أخيرا قبل أيام قليلة على
اتفاقية تجارة حرة لتعزيز التبادل التجاري بينهما، والذي وصلت قيمته لنحو عشرين مليار دولار سنويا، الأمر الذي يعني أكثر من 75 في المئة من البضائع التركية التي تصل لبريطانيا ستصبح معفاة من الرسوم الجمركية، وهو ما يرشح لارتفاع قيمة التبادل التجاري بين البلدين بصورة كبيرة خلال السنوات القادمة. هذا بالإضافة لبنود أخرى سابقة مثل التأشيرات التجارية للأتراك في بريطانيا، وغيرها من التسهيلات التي حدثت خلال السنوات الماضية.
أدارت الولايات المتحدة ظهرها لبريطانيا بعد وعود قديمة أثناء حقبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإبرام اتفاقية تجارة حرة بين البلدين تعوض العجز التجاري المتوقع بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي
ومع هذا الاتفاق الجديد قد تصعد بريطانيا، وهي ثاني أكبر سوق تصدير لتركيا بعد ألمانيا، لتصل إلى المرتبة الأولى للصادرات التركية.
لا يبدو أن هناك أية تحفظات داخلية على هذا التجارب الملحوظ بين أنقرة ولندن. فمن الناحية السياسية، فإن حزب المحافظين ذا التوجهات اليمينية هو الذي قام بالخطوة، وبالتالي لن تزايد عليه أحزاب اليسار ويسار الوسط في ملف كهذا. ومن الناحية الاجتماعية، فإن الجالية التركية في بريطانيا ليست بالكثافة ذاتها في دول مثل ألمانيا وهولندا، فالسواد الأعظم للمهاجرين في بريطانيا هم من الهند وباكستان، وبالتالي فإن سؤال الهوية والاندماج مطروح سياسيا بشكل رئيسي بين ذوي الخلفيات الآسيوية. وسيبقى فقط الجانب الحقوقي الذي نجحت في توظيفه الجمعيات التركية والكردية في كثير من الدول الأوروبية لإرغام حكوماتها على الضغط على أنقرة بشأنه، وهو جانب أعلنت الحكومة البريطانية عدم اكتراثها به أكثر من مرة في علاقاتها الخارجية.
التجارة ليست حركة رؤوس أموال فقط، بل حاملة لثقافة وعادات وعلاقات متشابكة بين الدول والشعوب، وهو ما يعني أننا مقبلون على مرحلة جديدة من التفاعل بين طرفي أوروبا في الجانب الآسيوي والجانب الأطلسي، من دون المرور التقليدي على بقية دول القارة
وكما هو معلوم، فإن التجارة ليست حركة رؤوس أموال فقط، بل حاملة لثقافة وعادات وعلاقات متشابكة بين الدول والشعوب، وهو ما يعني أننا مقبلون على مرحلة جديدة من التفاعل بين طرفي أوروبا في الجانب الآسيوي والجانب الأطلسي، من دون المرور التقليدي على بقية دول القارة. هذا الأمر سينعكس ولا شك على الوضع الجيوسياسي لكلا البلدين في المرحلة القادمة. هذه المرحلة التي سيتولى فيها جو بايدن مقاليد السلطة في الولايات المتحدة، حاملا معه علاقات جفاء مع أنقرة ولندن ومعظم العواصم الخليجية. وبالتالي ربما نجد أنفسنا أمام تحالف سياسي اقتصادي جديد غير مسبوق لدول الخليج مع تركيا من جهة ومع بريطانيا من جهة أخرى. وقد بدأت بعض ملامحه في الزيارات المكوكية للوزراء البريطانيين لدول الخليج خلال الأعوام الماضية لتعزيز الشراكة الاقتصادية معها، كي تعوض جزء من الفراغ التجاري الذي سيتركه الخروج من الاتحاد الأوروبي.
twitter.com/HanyBeshr