تُستخدم "
الدبلوماسية" في النظام الدولي المعاصر، كوسيلة وهدف يعبران عن أسمى معاني الرُقي والحضارة والتطور الإنساني للدول والكيانات، فيستخدمونها في مراحل الصراعات والأزمات الدولية، أو في أوقات السلم والاستقرار، للوصول إلى أقصى درجة ممكنة من التفاهم، ولتخفيف حدة التوتر والاضطراب والحرب. فتتوج هذه الجهود بإبرام معاهدات للسلام، واتفاقات ذات صلة بالمصالح المشتركة بين أطراف الصراع. كما أنها تنسج العلاقات السياسية بين الدول، على قاعدتي التعاون وإدارة الملفات والقضايا، بأُسس ذي صبغة متحضرة وعصرية، فلا تحرج الدول أمام المجتمع الدولي إذا ما فشلت، خصوصاً إذا كان هذا الفشل (وهو من نصيب التجربة) نتيجة محادثات تُعنى بأهداف نبيلة، تُزيح مسببات الدمار والكوارث، كالتي تنتج عن استخدام الوسائل الخشنة (القوة العسكرية، والضغط السياسي بمختلف ألوانه) عن واجهة الاختلاف والخلاف بين أطراف الصراع المعنيين.
وهذا مع التأكيد على ملحوظة في ما يتعلق بالدبلوماسية والحرب، وهي وإن كانت الدبلوماسية إحدى جولات المواجهة (أو قد تكون النقطة الأخيرة في تطور بعض الصراعات)، فإن تعثر المفاوضات لا يعني الحرب. فاختلال موازين القوى، ونوايا الجانبين، وسياقات
الأزمات، قد تلعب دوراً هاماً في قلب المعادلات، والانسياق لطريقٍ مسدود. وما الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، إلا خير دليل على ذلك.
وفي صدد الحديث عن "الدبلوماسية"، تجب الإشارة إلى نقطتين مهمتين: الأولى، أن الدبلوماسية كعلم وواقع، تحمل في طياتها معاني عدة بجانب ما سبق قوله، كالوظائف الدبلوماسية في الحكومة والمشاركة في مراكز صنع القرار، وما تتضمنه من بعثات وسفراء ودبلوماسيين. فمقر إقامتهم (السفارة) في البلد المعتمد لديه، يحمل أكثر أهمية وخصوصية ورمزية تكن الاحترام والانسجام بين أشخاص القانون الدولي، حتى بات المبعوث الدبلوماسي (ممثل الدولة) يتمتع بـ"قدسية" وحُرمة لشخصه.
تبلورت "الدبلوماسية الحديثة" في جولاتٍ دوليةٍ (منذ معاهدة فيينا العام 1815)، وحتى نُظمت بإطار قانوني دولي (اتفاقيات فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية، في الأعوام 1961، و1963، و1969، و1975)، وما تعنيه هذه البروتوكولات من ركائز ودعائم (كالحصانات والامتيازات) تسهل للبعثة الدبلوماسية القيام بعملها بأمان وسيادة.
أما النقطة الثانية، فهي أن "الدبلوماسية" وإن كانت وسيلة تُنّفذ بحيل الدهاء والمكر وربما الخِداع (الواقعية السياسية)، إلا أنها "مُشرعة" طالما كانت منفذاً لدرء الانجرار لدائرة الاقتتال وتهديد الأجيال، بل ومهارة قلّ نظيرها في تجارب الدول والأمم. وفي التاريخ المعاصر شواهد على ذلك، كـ"هنري كيسنجر"، على سبيل المثال لا الحصر، وما قام به من دور دبلوماسي لبلده (الولايات المتحدة الأمريكية)، كتمهيد زيارة الرئيس "ريتشارد نيكسون" للصين، وما تبعه من تطبيع للعلاقات الأمريكية- الصينية العام 1979، وتوقيع معاهدة الحد من التسلح "سالت" مع الاتحاد السوفييتي العام 1972، والتوصل لاتفاق مع الفيتناميين لوقف إطلاق النار في شمالي البلاد، أثناء وظيفته بمنصب "مستشار الأمن القومي"، وتالياً وزيراً للخارجية بين عامي 1973 و1977. وهذا ما يُحيلنا لملاحظة، وهي أن "الدبلوماسية" كوسيلة ليست منوطة بوظيفة بعينها (كالسلك الدبلوماسي)، وإنما هي نمط وكياسة تنمّان عن عقلية نجدها كثيراً في المجالات السياسية والاقتصادية والشخصية، لتحقيق أفضل المكاسب (الأرباح).
أما عربياً فهنالك حالات فردية في المجال الدبلوماسي، كـ"الأخضر الإبراهيمي"، مثلاً، وهو جزائري الأصل، وما تقلده من مناصب دبلوماسية، في بلده وفي المنطقة العربية بـ"جامعة الدول العربية"، وفي منظمة الأمم المتحدة، والتي كلفته الأخيرة كمبعوث أُممي لإحلال السلام في العراق وأفغانستان وسوريا، لكن للشرق الأوسط "استثناءً" حال دون تكلل جهوده بالنجاح.
لكن، في المقابل، هنالك كثير من المتابعين والمهتمين بالشأن الدبلوماسي والعلاقات الدولية تصعّب في الحديث عن مدرسة عربية في الدبلوماسية، أو أن تُرقى محاولاتٍ فردية على صعيد دولتها بـإلصاقها بالسياسة الخارجية للدولة المعنية.
نظرياً، لا يمكن الجزم أو مقارنة "دبلوماسية بلد عربي ما" بمدارس ودول معاصرة من آخذي صدارة النجاحات الدبلوماسية على الصعيد الدولي. لكن ما تدعي وتفترض به هذه السطور هو أن هنالك أنموذجاً عربياً بات يؤتي أُكله في الصعود الدبلوماسي، وجدير بالدراسة والاهتمام، لعله يؤسس لقواعد وتبني لبِنات مدرسة عربية مستقبلية في "الدبلوماسية"، وهي دولة
الكويت محور الجزء الثاني في هذا المقال.
ليس خافياً على متابعي الشأن
الخليجي أن الكويت دولة مُسالمة ومحايدة في ملفاتٍ عربيةٍ وإقليميةٍ ودوليةٍ (باستثناء موقفها من إسرائيل). فمنذ استقلالها عن بريطانيا العام 1961 وهي رائدة في مجال الانفتاح على الآخر وإقامة علاقات دبلوماسية مع مختلف الدول والقوى الدولية. فبعد تأسيس الدولة وانضمامها للمنظمة الدولية (الأمم المتحدة)، سعت الكويت لإرساء قيمها ومبادئها على قاعدة عدم الانحياز لطرفٍ ما، أو الانزلاق في مربع التجاذبات الدولية والإقليمية، دون الانصياع لأحد أو التنازل عن ثوابتها الوطنية والقومية والعربية والإسلامية.
فرغم أن شقيقاتها الخليجيات (دول مجلس التعاون الخليجي، الذي أُنشئ بمجهود كويتي)، تبنت الرؤى المعتدلة والانسجام مع المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة لأسبابٍ اقتصادية وجيوسياسية، والكويت كذلك، إلا أن الأخيرة مثلاً أقامت علاقاتٍ دبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي العام 1963، رغم أنها ليست بشيوعية أو ذات توجهات اشتراكية (لم تقم الدول الخليجية علاقات مع موسكو إلا بعد الانفراج الدولي والانهيار السوفييتي نهاية الثمانينيات)، برسالة واضحة بالنأي بالنفس عن سياسة المحاور والأحلاف والتكتلات، وفق مضمون سياستها الخارجية بـ"صفر مشاكل".
كما أنها دأبت على لعب دور "الوسيط العربي" في الخلافات العربية- العربية، ونجحت في إنهاء بعضها، كالأزمة الخليجية العام 2013، على خلفية أحداث الساحة المصرية وموقف الدوحة بمعزل عن بعض الدول الخليجية، والسعي لحل الأزمة الخليجية العام 2017، والذي تم التوصل إليه مؤخراً بمساعٍ كويتية قادها أمير البلاد الراحل، صباح الأحمد الجابر الصباح (1929- 2020)، الذي لقبه الإعلام بـ"عميد الدبلوماسية"، مع تحركاتٍ أمريكية لاستئناف العلاقات القطرية- السعودية مطلع هذا العام (2021).
لم تأت هذه النزعة الدبلوماسية لدى الكويت من العدم، فالكويت مجتمع متناغم ومنسجم وحيوي، كما أنه البلد الخليجي الوحيد الذي أنشأ مجلساً تشريعياً يقره الدستور الكويتي الموازن للنظامين البرلماني والرئاسي، وتحكمه قواعد وأصول ومناقشات متنوعة في كيفية صنع القرار بصيغٍ نسبية، إلى جانب دور الأسرة الحاكمة (آل صباح) في رسم معالم السياسة الخارجية، ما أهّلها للاضطلاع بمهام مجلس الأمن الدولي الذي تسلمت الكويت رئاسته (عبر مقعدها غير الدائم) في دورتين: الأولى العام 1978، والثانية العام 2019، والتي استغلتها في استعراض ومحاولة حل بعض الصراعات، كالأزمة السورية وقضية لاجئيها، والدور الحثيث لتقديم كامل المساعدة للفلسطينيين وقضيتهم عبر محاولة إصدار قرارات دولية تعنى بحماية المدنيين الفلسطينيين، لكنه أجهض أمريكياً باستخدام "الفيتو"، إلا أنها استطاعت إسقاط مشروع أمريكي مضاد لتأييد إسرائيل.
ليس خافياً أن الكويت دولة صغيرة ومحدودة الإمكانات والقدرات العسكرية، ووقوعها جغرافياً بين دولٍ إقليمية كإيران والعراق. فصدام حسين أقدم على احتلال الكويت العام 1990، لمآرب واهية، ما حفز الكويت بعيد التحرير العام 1991، على الاتجاه والاستمرار بنهج الدبلوماسية مع "أعدائها" قبل أصدقائها، لمنع محاولات التغلغل والهيمنة الإيرانية في المستقبل القريب، خاصة مع تحركات وتهديدات طهران الأخيرة لمنطقة الخليج، وتواجدها العسكري في عدة دول عربية قامت بالتدخل في شؤونها وإسقاط ثوارتها.
في نهاية هذا المقال الموجز لتجربة ودور الدبلوماسية الكويتية، نجد أنه من المهم الاهتمام بالدبلوماسية والاحتذاء بالتجربة الكويتية. فالمنطقة العربية مشتعلة ورهينة للتجاذبات الإقليمية، وصيد ثمين للأغراب، خاصةً إسرائيل وإيران، وما المصالحة الخليجية الأخيرة إلا خير دليل على أهمية نبذ الخلاف جانباً والتصدي لمعارك قد تنذر بسقوط العرب الأخير، ولا ضير إذا كانت الدبلوماسية إحدى استراتيجياتنا للنهوض والتقدم.