كتاب عربي 21

الإعراب والبناء في اللغة والسياسة والمناطق العشوائية

أحمد عمر
1300x600
1300x600
تقول الصحف ووسائل الإعلام في الخبر غير العاجل: إنَّ مسنّا سورياً مات من البرد في مخيمات لبنان، أو إنه قضى في بلده. والخبر شائع، فشعوب كثيرة تموت من البرد ومن الحرِّ ومن الاعتدال المناخي. نحن نموت من كل شيء، حتى من فرحة النصر.

ولا يقول الخبر إنَّ "شيخاً" أو كهلاً مات من البرد، وهو أولى وأبدى لغةً، لأنَّ الشيخ يحيل إلى الدين في لغة الصحافة، ونحن في بلاد علمانية بيّنت بين الدين والدنيا بينونة كبرى من غير طلاق ومن غير كنيسة وكهنوت، حتى إنَّ مدائن صالح صارت قبلة للسياحة.

لقد بانت الكلمات من أوطان معانيها ونزحت مع الزمن إلى منافي المعاني الجديدة، ولن يسمح لها بالعودة إلا بدفع مائة دولار غرامة، و"خذوها من هذا الذقن" ولا ترجعوا، كما قال المسنُّ الشيخ زهر الدين.

تأخرتُ حتى عرفت الفرق بين المعرب والمبني، والسبب هو فساد المعلم أو قلّة علمه ورشده، ونقص أعداد المعلمين، وقد درّسني في حياتي التعليمية معلمون كثير أحببت بعضهم بالمعاشرة والصحبة، وبغضت بعضهم ولا أزال، لكن لا أذكر معلماً جمع فضائل التعليم.

وقد خسَّت وذلَّت كتب العربية في المناهج الحديثة، فلم تعد تستشهد بأمثلة على التمييز والحال والنعت من القرآن الكريم، النص العربي المعجز، ولا من الشعر العربي، وإنَّما من صاحب قصيدة "المناطق العشوائية"، فيصحح لي صديقي:

- ليست المناطق العشوائية، وإنما "الأرض الخراب"، وهي للشاعر "ت س اليوت"!

سوسة صوف الأيتام:

ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يكتب المرء في صحيفة تكتب فيها الشاعرة الخبصاء، إنها شاعرة، ومن الأقليات، وتظنُّ نفسها خنساء ترثي الوطن. والخبصاء شاعرة تكثر من كلمة التفاصيل في أشعارها عن انتظار الحبيب والوحدة والخراب، من غير أن تذكر تفصيلاً واحداً لأنَّ الشيطان مثل القمل يسكن في شعث التفاصيل. وهذه كلمات تشيع في القصائد الحديثة، ولها دواوين ومقابلات على الفضائيات، وتتكلم في المقابلات من أنفها لشدة تكبرها وتجبرها، وهي متكئة على الكرسي وتخاطب المذيع كأنه عبدٌ أجرب، والمذيع يتذلل لها ويسألها كأنه يتسول، فتقول له إنها ثائرة، وإليها يعود فضل الثورة السورية وبالوناتها، وإنَّ اسمها ورد في القائمة الطويلة للجائزة الفلانية، وإنَّ فلاناً (وهو فيلسوف من بلاد الجبنة الضاحكة، والجماجم الجزائرية) رشحها لجائزة نوبل، فاحذر منها أيها المذيع.

وإنها معروفة بالعدل والإحسان في اللغة، فهي إن كتبت قصيدة وذكرت حبيباً على الشرفة ينتظر حبيبته، أضافت للحبيب تاء تأنيث هكذا (الحبيب- ة) من أجل التوازن الجنسي بين الذكور والإناث في اللغة العربية الظالمة. وقد ظُلمت المرأة كثيراً كما تعلم، واللغة العربية لغة ظالمة، إنها لغة ذكورية، ولن يهدأ لها حتى تفرق جمع المذكر السالم، وتحرمه من السلم والسلامة.

"شاذ" الآفاق:

أعرف أكاديمياً كردياً لا يكتب إلا بالعربية، مع أنه شديد التعصب للكردية، ولا يؤمن بنبوة إبراهيم عليه السلام، لكنه يذكره كل مرة يشرق فيها على الناس من قناة سكاي نيوز. وعبارة "عليه السلام" من عندي، فأنا رجل قليل التقدمية، ويقول إنه كردي، ويدرّس في جامعات كردستان، ولا أعرف ما هو الخشنكان الذي يدرّسه فلا بد أنها جامعة كرتونية. وإنّ فضائية العربية وسكاي نيوز تكثران من استضافته مع محلل سياسي تركي، فتؤلب أحدهما على الآخر.

والأكاديمي الكردي حاصل على شهادة جامعية عالية من جامعات دمشق في الفلسفة، فيثور على التركي قبل أن يبدأ بالكلام. والتركي لا يتقن العربية مثله. وهو سريع الهياج، و"العربية" سعيدة بهياجه، وهي تحسن تسعيره وتهييجه، فيصف خصمه بالسلجوقي، وكأنَّ السلجوقي شتيمة، وقد كان السلاجقة يوماً يحكمون ربع العالم. وكتب مرة يسبُّ الأتراك السلاجقة: إن هؤلاء "الشذاذ الآفاق" هم كذا.. فهو يريد أن يشتم.. شذاذ الآفاق، صفة ترد نكرة غالباً، وقد احتار الأكاديمي المتعارب، فأضاف لام التعريف إليها، وجهد في تعريفها، فوضع أداة التعريف خارج القوس فخاب سهمه، وانقطع وتره حتى ارتّد على وجهه.

وكنت أكتب في صحيفة، فكان رئيس التحرير المصري يتغضّب عليَّ، فيتصل بي، ويقول: ماذا تقصد بقولك: إنَّ المرض جاحَ الناس يا عمنا؟

فأقول: اجتاح وجاح، وجاح أسهل وأسوغ وأمرأ وأهنأ.

فيسكت ثم يقول: وما أشراطها؟

فأقول: هي شروطها لكن أشراط اشتقاق أجمل.

ويسألني: يعني إيه الزمرة؟

فأقول: يعني الفئة.

ويسألني: ماذا يعني قولك سألت السيدةُ صدائقها؟

فأقول: يعني صديقاتها، لكني أجدد وأسدد وأقارب وأتجنب الكلمات "المبنية" المعروفة. تعرف أنَّ المذيعة تغيّر بين النشرة والنشرة هيئتها وزيّها وتسريحة شعرها، وكذلك أفعل بهيئة الكلمات، فهن مذيعات المعاني.

فيسألني: يعني إيه دثور الديار؟

فأقول: يعني اندثار، وهي نفسها، لكني غيّرت من شكل بناء الكلمة.

ويسألني ثم يقول: يا عمنا الصحافة ترفض هذه التعابير الجديدة، هذه مصيبتنا بكتاب الصحافة القادمين من الأدب، فالقارئ يريد معلومات عن الرئيس والملك وليس عنده وقت لمعرفة معاني الكلمات من القواميس والمعاجم. يا عمنا أنا مش عاوز كاتب يمشي جنب الحيطة أنا عاوز حيطة، أنت "مرفود" وأظن مرفود من كلمة "فايرد"، يعني محروق، أو مرفوض.

جراد الزرع الحرام:

فهمت متأخراً معنى الإعراب والبناء عندما شرحته لصديق ألماني يريد أن يتعلم العربية، فقلت إنّ الإعراب يعني الحركة، والبناء يعني السكون. العربة هي الآلة التي يجرها الحصان، فإن كان بغلاً فلله درُّ البغل الذي يحكمنا.

ثم إن قاطع طريق خرج علينا وهو يحمل لقب مثقف، ويقول: العربية لغة مقدسة ومتخلفة، يجب أن تكون لغة عاهرة. وقال: وهي لغة ذكورية، وإن اللهجات العربية أغنى، وإنها تكثر من المترادفات التي لا معنى لها. وهذا لعمري جهل، ويستشهد المثقف القاطع بديكارت وعلم السيمياء والجابري على صحّة قوله!

عرب:

قرأت لصديقي بعض معاني العروبة مثل: الاستعراب وهو الإفحاش في القول، وتبذل المرأة لزوجها، فهي عروب، وجاء في القرآن "عُرباً أترابا" في وصف حوريات الجنة، فهي المرأة الضاحكة، وفي حديث أم المؤمنين عَائِشَةَ: فاقْدُرُوا قَدْرَ الجارِيةِ العَرِبةِ.

قَالَ ابْنُ الأَثير: هِيَ الحَريصة عَلَى اللَّهْو. فأَما العُرُب: فَجَمْعُ عَروب، وَهِيَ المرأَة الحَسْناءُ الْمُتَحَبِّبَةُ إِلى زَوْجِهَا.

ويُروى: وماءٌ عَرِبٌ: كثيرٌ. والتَّعْريبُ: الإِكثارُ مِنْ شُرْب العَرِبِ، وَهُوَ الْكَثِيرُ مِنَ الماءِ الصَّافِي. ونَهْر عَرِبٌ: غَمْرٌ. وَبِئْرٌ عَرِبة: كثيرةُ الماءِ، والفعلُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ عَرِبَ عَرَباً، فَهُوَ عارِبٌ وعارِبةٌ. والعَرَبةُ، بِالتَّحْرِيكِ: النَّهْرُ الشَّدِيدُ الجَريِ. والْعَرَبةُ أَيضاً:

والتَّعْريبُ: قَطْع سَعَفِ النَّخْلِ.. وهكذا حتى تصبح عرب وكأنه الوجود والكينونة والمشيئة.

أما البناء فهناك كلمات قليلة في العربية مبنية، لا تتغير بموقعها من الجملة، مثل "هذا": فهي ترد هكذا، مثلها مثل قصر المحافظ، والمفرزة، وهي مصنع الخوف، ومثل السيد الرئيس الذي أحرق كل البلاد، وبقي مبنياً لا يعرب ولا يستعرب لأنه صنم وبهرزي. ومثل عقل هذا المثقف وصاحبتنا الخبصاء، وهي بهرزية مثله، وقد رأت الأنظمة العربية المبنية مثل الحيطة أن تجعل شعوبها مبنية أيضاً، تضم عندما تريد وتفتح عندما تريد أو تكسر. وإن الصحفيين العرب البناة باتوا يكتبون بلغة مبنية، فكلما قرأت لكاتب ملء السمع والبصر والشم، أجد أخطاء كثيرة.

ولا تجد مقالاً يخلو من تعبير "بالرغم من" حتى يرغمنا على قراءته قبل الأكل وبعده وأثناءه. والكاتب لا بد أن يكتب: المجتمع ككل، حتى ينوء بكلكله على صدرونا وينجح "بامتياز" في مقاله ككل، ويندر أن تجد في المقال معنى جديداً.

وجاءنا ضيف تزوج منذ عهد قريب وسألناه عن حاله، فقال إنه في أسوأ حال، وكان في الماضي سعيداً لأنَّ الماضي مبني دوماً، وهو في الزمن المضارع، وقد ساءت حاله لأنه اتصلت به نون النسوة. فقلت لو أنني صرت معلماً للعربية سأقسم اللغة العربية في الصحافة إلى معرب ومبني ومقصوف بالصواريخ وأنقاض في أيام الأبيض والأسود السعيدة.

وذكرت أن من طرائف العربية أني وجدت محمود ياسين يمثل دور ابن سينا، وكان قد استدعي على عجل إلى الكويت، فكان يخاطب صاحبه، فيقول له في حلقة: يا جوزجاني، وفي حلقة أخرى يا جوجزاني، وأنَّ عابد فهد عندما مثّل دور عمرو بن العاص، والعرب أضافت واواً لعمرو تفريقاً له عن عمر، فكان ينادي صاحبه مرة يا عَمْر ومرة يا عمرو (بواو تشبه واو زمور القطار: يا عمروووووو).

أُرسل مقالات إلى الصحف فأجد المصحح قد صحّح لي عبارة: أبدلت الخبيث بالطيب، فجعلها أبدلت الطيب بالخبيث، والباء تدخل على المتروك، ولعله محقٌّ فهذا ما فعلناه بأنفسنا وكان الإنسان ظلوماً جهولاً. وسألت صديقاً عالم لغة، فقال: إنَّ المجامع اللغوية قد أجازت الأمر، فساوت بين المتروك والمأخوذ والخبيث والطيب والصادق والكاذب، فعلى الدنيا السلام!

وكتبت مرة في مقال: وأن المرء مخيّر بين ثلاث، فإما أن يسكت فيموت غيظاً، وإما أن يتكلم فيُحبس، وإما أن يثور فيحور ويخور، فوجدت الجوزجاني المصحح قد استبدل أو بإما. وإما أصحُّ وأصوب من أو، لكنه "جوزها" بجواز سفر هو الأسوأ في العالم.

وقال بديع الزمان الهمذاني:

هَذا سُوسٌ لا يَقَعُ إِلاَّ فِي صُوفِ الأَيْتامِ   وَجَرَادٍ لا يَسْقُطُ إِلاَّ عَلى الزَّرْعِ الحَرَامِ

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (0)