هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "ابن تيمية.. الفقيه المعذب"
الكاتب: عبدالرحمن الشرقاوي
الناشر: دار الشروق، ط4، 2017
قام البعض ببتر بعض فتاوى ابن تيمية من سياقها على طريقة "لا تقربوا الصلاة"، و"ويل للمصلين"، مثل فتوى طاعة أولي الأمر حتى ولو كانوا جائرين، فينصف الكاتب ابن تيمية برواية الظروف والملابسات التي كانت سببا في إصدار تلك الفتوى، كما يأتي:
رأى السلطان محمد بن قلاوون أن ينتفع بالخليفة، ونفوذه الروحي على المسلمين، فدعاه أن يقود جيش الجهاد ضد التتار.
"واستنفر السلطان ابن قلاوون، سائر المسلمين، أن يهبوا للانضمام إلى جيش مصر والشام، الذي يخرج للقاء جيش التتار، تحت قيادة أمير المؤمنين، وأرسل بهذا رسائل بالحمام الزاجل إلى الملوك والأمراء المسلمين، الذين خجلوا أن يتخلفوا عن نصرة جيش الجهاد".
يكمل المؤلف في (صفحة 77): "لكن بعض الباطنية في جبال الشام، ومن والاهم من الأعراب، أعلنوا أنهم يرحبون بالتتار، زاعمين أن التتار أحسن إسلاماً من غيرهم، وحكامهم أكثر عدلاً، وأنهم ما جاءوا بغياً على أحد، ولكن لينقذوا الشام ومصر، من جور السلطان والأمراء والمماليك، الذين يظلمون الرعية، وينهبون أموالها، لينفقوها على الزوجات والجواري والغلمان، وعلى ملذاتهم وشهواتهم، وطالبوا الناس بأن ينقضوا على الخزائن السلطانية، وقصور السلطان، فيستردوا أموالهم، التي تحولت في هذه القصور إلى جواهر وحلي ترصع أحذية النساء، ثم أنهم دعوا الناس إلى الخروج بأسلحتهم، للانضمام إلى التتار، فمن لم يستطع، فليلق سلاحه، ويلزم بيته، فيأمن!.. وأفتى بعض العلماء: إن الله أمر بقتال الكفار وحدهم، وهؤلاء (التتار) ليسوا كفاراً".
أدرك ابن تيمية أن الفتنة توشك أن تشتعل، والتتار يزحفون، فنشط إلى الناس حيثما تجمعوا في الجوامع والطرقات يعظهم: "إن الله تعالى لم يأمر بقتال الكفار لأنهم كفار، ولكن لأنهم اعتدوا، فالاعتداء لا الكفر هو سبب القتال، يقول تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين...)، فالقتال فرض علينا لدفع المعتدين، حتى لا تكون فتنة، وهؤلاء جاءوا معتدين، وليس هذا وقت حساب الأمراء، ولا هو وقت اللجاجة في التفسير والفقه، ولا وقت اختلاف العلماء، إن السنة وإجماع الصحابة على أن طاعة أولي الأمر، في زمن الجهاد واجبة لازمة، حتى ولو كانوا جائرين، على أننا بعد أن يتحقق لنا نصر الله، سنقومهم، فنحملهم على العدل، وإنصاف الرعية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
خرج عسكر الشام بقيادة نائب السلطان، وأقبل عسكر مصر، يقودهم السلطان، وإلى جانبه الخليفة والأميران سلار وبيبرس الجاشنكير، وهما أشد أمراء المماليك بأساً وسطوة، ودراية بفنون القتال، وانضم العربان بقيادة الأمير حسام بن مهنا إلى معسكر الشام، ووقف ابن تيمية على صهوة جواده في ملابس عسكرية، يشد أزر الجميع.
ولاحظ ابن تيمية شعور الجنود بالإعياء والفتور، كان الوقت رمضان والحر شديداً، والعطش يرهق الأبدان، فأفتى بوجوب الإفطار ليتقووا على الجهاد، ووقف على صهوة جواده ليراه الجميع، وأكل وشرب، وجال بين صفوف الجند يأمرهم بالإفطار.
التقى الجيشان في مكان يدعى "شقحب"، وأدرك التتار أنهم سيلاقون هزيمة لم يعرفوها منذ "عين جالوت"، فلجأوا إلى أحد التلال، واختفوا وراءها والليل يقبل، ليخفيهم عن العيون، لكن ابن تيمية صاح في العسكر: "لا تتركوهم"، وطاردهم العسكر، وقتلوا منهم الكثير، وأسروا الباقين. وعاد الجيش المنتصر بقيادة السلطان، وإلى جواره الخليفة والفقيه الفارس الشيخ تقي الدين بن تيمية، ودقات الطبول وتكبير الجنود تعلن البشرى، لقد نصر الله جنده.
وقت الحساب:
هدأ الناس واستقرت أمورهم، بعد الانتصار الكاسح على التتار، إلا الشيخ تقي الدين، الذي حاول أن يستخلص العبرة، من كل ما مر بالأمة من أحداث، واستقر رأيه على أن يحاسب المفسدين، الذين خانوا الأمانة، وناصروا التتار والصليبيين، حينما كان الجيش يحارب، فهم سيظلون ثغرة يتسلل منها العدو، وعلى المؤمنين سد الثغور.
"طلب الشيخ من نائب السلطان أن يعلن الحرب على الباطنية الذين يعتصمون بالجبل، تأديباً لهم عما اقترفوه من خيانة الأمة، ومناصرة المعتدين الباغين عليها، وطلب منه نائب السلطان أن يمهله رويداً، فحرب كهذه يجب أن يأذن لها السلطان نفسه".
فقرر الشيخ أن يكتب بنفسه للسلطان الناصر محمد بن قلاوون، ليطير بها الحمام الزاجل إلى القاهرة. وخلال انتظاره لرد السلطان، لم يلتزم الصمت، بل جعل كل دروسه وعظاته، توجيهاً للناس ليتطوعوا لجهاد الباطنية.
يقول الكاتب في (صفحة 97): "وأذن السلطان بقتالهم.. وتحدث ابن تيمية في أمر القتال مع أحد زعماء الشيعة الإمامية، وهو نقيب الأشراف فوافق أن يخرج برجاله لقتالهم مع ابن تيمية، أداء للواجب الشرعي، وتطهيراً لسمعة شيعة آل البيت. خرجت حملة كثيفة على رأسها الشيخ تقي الدين بن تيمية، ومعه نقيب الأشراف، ومن بعدهم العسكر بقيادة نائب السلطان.. وشعر الباطنية بوطأة الزاحفين عليهم، فلاذوا بالغابات، واختفوا عن العيون، فأفتى الشيخ بقطع الأشجار وهدم المنازل.
وعاد ابن تيمية ونقيب الأشراف ونائب السلطان ورجالهم إلى دمشق، بعد أن هزموا الباطنية، ليواجه الأعداء الآخرين:
في صفحة (98) يصفهم المؤلف: "كانت طائفة تنتسب إلى التصوف، وتدعي أنها من أتباع السيد أحمد الرفاعي، تزحم الطرقات، وتشغل العامة وتستولي على أموالهم بألعاب تبهرهم، كمداعبة الأفاعي السامة، والدخول في النار والخروج منها دون أن تمسهم النار، وكانوا يقولون إنهم أصحاب طريقة في التصوف، ويضعون في رقابهم أطواق الحديد، تميزاً لهم عن الآخرين، ويسمون أنفسهم: الفقراء إلى الله تعالى".
أعلن الشيخ تقي الدين أنه ينزه السيد أحمد الرفاعي، عن انتسابهم إليه، وعقد نائب السلطان مجلساً دعا إليه هؤلاء العلماء، وابن تيمية، الذي ناظرهم في هذا المجلس، وأصدر نائب السلطان أمره أن "يخلع الرفاعية أطواق الحديد من أعناقهم، وأن من عاد منهم إلى البدعة، وخرج عن الكتاب والسنة، ضرب عنقه".
خرج الرفاعية منكسرين، أما الشيخ فقد بقي عند نائب السلطان، وسأله أن يأمر بإبطال بدعة منكرة أخرى: فقد علم أن في أحد الجبال صخرة بارزة يتبرك بها العامة، ويسألونها قضاء الحوائج، ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة، وكل طواف إلا الطواف بالكعبة بدعة، فأصدر نائب السلطان أمره، بإبطال الطواف حول الصخرة التي ذكرها الشيخ، لكن الناس ظلوا على حالهم، فطلب الشيخ من نائب السلطان أن يأذن له في الخروج لقطع الصخرة، فأذن له، وخرج برجاله ومعه بعض الحجارين بمعاولهم، فقطعوا الصخرة.
سجنه ووفاته:
بحث خصوم الشيخ في كل ما كتبه، وأفتى به، حتى وجدوا فتوى بخطه، يحتفظ بها أحد أهل دمشق، تبركاً بخط الشيخ، كان السؤال عن زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فأفتى الشيخ: "أن الزيارة للعظة والاعتبار مستحبة، أما القصد لزيارة قبر أحد الصالحين، أو أحد الأنبياء، للدعاء عند القبر، فهذا لا يجوز، فهذا الفعل ذريعة إلى الشرك والوثنية..".
هب الفقهاء والعلماء، يفندون رأيه، ويتهمونه بالابتداع، ومخالفة الإجماع المتواتر، وصدمت هذه الفتوى العامة، وتساءلوا متعجبين: "ما بال الشيخ الذي وهب حياته كلها للدفاع عن السنة وإحيائها، وقد اقترب من الخامسة والستين يمنع زيارة قبر الرسول، والدعاء عنده".
وصل إلى السلطان أمر هذه الفتوى، فأمر باعتقال الشيخ، ووضع الشيخ في سجن القلعة، بعد أن أُخليت له قاعة فسيحة في قلعة دمشق، وأقام معه أخوه يخدمه بإذن السلطان، ولم يكد الشيخ يستقر في محبسه بالقلعة، حتى أصدر قاضي القضاة، حكماً بحبس جميع علماء الحنابلة وتعزيرهم (عزر جماعة منهم بالجلد، وجماعة بإركابهم على الدواب والمناداة عليهم، وبعد ذلك أطلقوا من محابسهم ما عدا تلميذه شمس الدين محمد بن قيم الجوزية، لأنه حبس بالقلعة).
ظل الشيخ في سجنه نحو عامين ممنوعاً من القراءة، والكتابة، لا يستطيع أن يكتب إلا بالفحم على رقع صغيرة من الورق، تهرب إليه، لكنه لم يحتمل طويلاً وطأة المنع من الكتابة، ففاضت روحه في ليلة الاثنين والعشرين من شهر ذي القعدة عام 768 هـ.
خرجت دمشق كلها برجالها ونسائها وأطفالها، تودعه، وتبكيه. وهكذا صمت الرجل الذي ملأ الحياة من حوله ضجيجاً، وما زال فكره يملأ الحياة من بعده ضجيجاً. وما زال حتى اليوم يحتفظ بضراوة الخصوم، وحماسة الأنصار.
إقرأ أيضا: كيف أقنع ابن تيمية التتار بالانسحاب من دمشق؟