هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "ثرثرة في قرطاج" (رواية)
المؤلف: د. منجي الأشعاب
دار النشر: دار ماستر للنشر، مصر
الطبعة الأولى: 2021
عدد الصفحات: 192
لا يزال الروائيون العرب على اختلاف تفرّعاتهم الأدبية، ينشدون التوفيق بين تحدّيين اثنين: شغف القارئ بتعرية دقائق الواقع المرير، بيومياته وانكساراته، وفي نفس الوقت جنوح دائم لنفس هذا القارئ نحو معابر الخيال السردي. فتغدو تحديات الرواية المعاصرة كثيرة أقلّها توليد مضمون سياسي واجتماعي وابتكار الأدوات الجمالية اللازمة.
يضاف إلى ثنائية مضمون الرواية وجماليتها الفنية اشتراطات أخرى ذكرها "روجر آلان"، من ألمع المستشرقين المعاصرين اهتماما بالأدب العربي الحديث وأبرز من نقل الروايات والقصص العربية إلى الانجليزية، على وجه الخصوص أعمال نجيب محفوظ وعبد الرحمان منيف وجبرا إبراهيم جبرا، في كتابه "الرواية العربية: مقدّمة تاريخية ونقديّة"، وهي الإنسانيّة والجدّة والتعلق بهموم الإنسان الفرد وهموم الجماعة التي ينتمي إليها.
في تونس، ولئن نجحت الرواية في التعريف بمعاناة المواطن ونقل هواجسه الاجتماعية والسياسية، على وجه الخصوص تيار الأدب السّجني أو الرواية السياسية، بدءا برواية "كريستال" لجلبار نقاش وانتهاء برواية "أسوار وأقمار" لمحمد عز الدّين الجميّل، فإنّ مجمل الأعمال الروائيّة المذكورة ظلّت حبيسة الرواية التاريخيّة والتسجيلية، بما يجعل منها أقرب ما يكون إلى السيرة الذاتية. وهو ما يجعل الحاجة ماسّة إلى نقلة نوعيّة في مجال الرواية تنقلها إلى رحاب التجريبيّة والواقعيّة الجديدة التي ألفها القارئ العربي في روايات نجيب محفوظ، "خان الخليلي" على وجه الخصوص.
في هذا الإطار تتنزل الرواية الجديدة للدكتور منجي الأشعاب والتي تحمل عنوان "ثرثرة في قرطاج"، الصادرة عن دار "ماستر للنشر والتوزيع" المصرية، وهي رواية من صنف التجريب ويمكن عدّها رواية سياسية تاريخية تحليلية نقدية. ولئن كانت شخصيّات الرواية خيالية ولا صلة لها بالواقع إلا أنّها نجحت في تحليل الواقع التونسي وتحديدا زمن الثورة. وهي بذلك تعدّ أوّل رواية تعالج واقع الثورة التونسية وتحفر في نقد الواقع المعاش أملا في البحث عن "قرطاج جديدة" أو تونس جديدة في غمار حمّى التقلّبات السياسية التي يعرفها البلد منذ 14 يناير 2011.
ملخّص الرّواية
لئن استقى نجيب محفوظ شخوص روايته "خان الخليلي" وبطلها "أحمد عاكف" من الواقع وحافظ على كثير من ملامح شخصيتها الحقيقية، فإنّ مؤلف "ثرثرة في قرطاج" قد ابتدع شخصيات خياليّة. فشخصيّات "عبد الودود"، المناضل الإسلامي، و"فوّاز"، الزعيم الدستوري التجمّعي، و"فاطمة الشواشي"، المناضلة اليسارية سليلة العائلة الموريسكيّة، وحمّة، النادل البسيط في المقهى، وزينب أخت مهدي، المرأة تقليدية التي اشتغلت معلمة لتساعد عائلتها وإخوتها في الدراسة وتعرّضت إلى الطرد من العمل قبل الثورة وإلى الهرسلة بعد الثورة لتعيش أزمة نفسية حادّة خصوصا بعد أن سجن زوجها وحرمت من الإنجاب حتّى سنّ اليأس، و"ماريّا" الإيطاليّة، هي شخوص لا تمتّ للواقع بصلة، وإن كانت حافظت على نموذج للتيارات السياسية المتعارف عليها في الواقع السياسي.
ينساب السرد الروائي لـ"ثرثرة في قرطاج" من ليلة الثورة التي تهجّم فيها "المهدي" على زوجته الإيطالية "ماريا" واتّهمها بأنّها سبب المآسي الّتي عاشها، ليهرب من منزله ويلتقي في الحانة بشاب جزائري فيتبادلا روايات المآسي: خاصّة مشاكل الشبان في أوروبا: العطالة والميز.
لا يزال الانتقال الديمقراطي يبحث عن مرفأ يقيه شرّ الاغتيالات السياسية وجحيم العمليات الإرهابية التي ما فتئت تغدر بعناصر الجيش والأمن على مقربة من مرتفعات البلدات التي قدحت شرارة الثورة العظيمة...
دفع الشاب الجزائري جليسه "المهدي" إلى العودة إلى الماضي ليروي له قصّته منذ يوم وفاة والده ونجاحة في البكالوريا والتحاقه بمدارج الجامعة في شعبة التاريخ ومناداته بالتصدّي للمد الرأسمالي، خاصّة بعد فقدانه لوالده في حادث شغل في معمل الرخام الذي كان يشتغل فيه... ثم أثناء بطالته، اضطر "المهدي" إلى الاشتغال في السياحة ليصطدم مرة ثانية بمشكل العنصرية بين الشمال (أوروبا) والجنوب (العرب)، مع الفتاة الإيطالية "ماريّا" التي أهانته وجرحت كبرياءه .
وبالرغم من تصدّي "المهدي" لعنصريّة "ماريّا" فقد طوّقته في حبائلها ومكرها ممّا اضطرّه للزواج منها والانتقال للعيش معها في إيطاليا، ليجد نفسه مسؤولا على شركتها الرأسمالية ويغرق في الرأسمالية المتوحشة وهو ما أدى به إلى عتاب الضمير وإحساسه بالغربة نتيجة فشله في الثأر لأبيه. لم يلبث بعدها "المهدي" أن عاد إلى وطنه تونس ولكن ذلك تمّ من خلال التقرب من نظام حكم بن علي. ومن سوء حظ "المهدي" العاثر أنّه بعيد انضمامه لـ"حزب التجمع" تندلع الثورة... ليعيش في دوامة كبرى من التوتر النفسي وفقدان الأعصاب، فيسترجع كل ذكريات نضاله في الجامعة مع أصدقائه ليستعيد قصصا مع صديقه "فوّاز" التجمعي.. و"عبد الودود" الإسلامي وحبيبته "فاطمة"، المناضلة اليسارية و"حمة" العامل البسيط وأخته رمز العادات والتقاليد. ولم يفت الراوي الإحالة على فترات تاريخية كان فيها الصراع السياسي على أشده بين رفقاء الكفاح، فيما عرف بصراع الستينيات بين بورقيبة وصالح بن يوسف والذي انتهى بتصفية بن يوسف في أب أغسطس 1961 في ألمانيا.
رواية تعدّد الأصوات
تهتمّ رواية "ثرثرة في قرطاج" بنقد الواقع السياسي لتونس "قرطاج" وتنبش في عديد المحطات التاريخية المفصلية في تاريخها السياسي المعاصر على وجه الخصوص. فمن تاريخ انفتاح تونس (قرطاج) على "الأغالبة" (الدولة الأغلبيّة) في القيروان والمورسكيين الوافدين من الأندلس من خلال نظرة (انفتاح قرطاج على حضارات أخرى) وانعكاسات ذلك على طبيعة المجتمع التونسي المتعدد والمنفتح على دوام العصور، إلى التغيير الذي تمّ على رأس السلطة السياسية في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1987.
ولم تكتف الرواية بنفض الغبار عن تلكم الأحداث التاريخية المهمّة بل عمّقت السؤال عمّا إذا كان "التحوّل" (تولّي الراحل بن علي السلطة في 7 تشرين الثاني / نوفمبر 1987) وليد ظروف اجتماعية قاهرة أم ثورة مجتمعية أم تدبير خارجي أم كان انقلابا فجّا؟... ثم لم تلبث الرواية أن جرّت قارئها إلى التساؤل عمّا إذا كان هذا "الانقلاب" أو"التغيير" سببا غير مباشر في اندلاع ثورة 17 كانون الثاني / ديسمبر ـ 14 كانون الثاني / يناير 2011؟ هل كانت ثورة عفوية؟ هل كانت تونس ضحيّة مؤامرة خارجيّة حيكت من قبل أعداء خارجيين وداخليين؟... هل كان مسار الثورة ناجحا؟ هل حققت الثورة أهدافها؟ وإذا لم تحقّق الثورة أهدافها: ما هي العناصر المهدّمة التي حالت دون تحقيق أهداف الثورة؟ كلّ هذه الأسئلة وغيرها طرحتها الرواية. ومن خلال الرواية تيسّر التعرف على مختلف الآراء السياسيّة. لذلك يمكن الجزم بأن "ثرثرة قرطاج" ما هي إلا صوت المهمشين... وصوت اليساريين، وصوت الإسلاميين، صوت التجمعيين، صوت المحايدين...
البحث عن قرطاج جديدة في غمار التقلبات السياسية
جعل منجي الأشعاب مقدمة قصيرة لروايته "ثرثرة في قرطاج" خطّ فيها: "المهدي هو "شيطان روائي" يسكنني فيلهمني بين الفينة والأخرى بعض الخواطر، وهي خواطر تتردد بين الحديث عن الإنسان تارة والحديث عن الوطن تارة أخرى، تنزل عليّ مشتتة غير منظّمة، فتحلّق بين الماضي والحاضر والمستقبل. فإذا ارتدّت إلى الماضي كانت مساءلة وإذا استشرفت المستقبل أضحت نبوءة".
إنّ التصدير بمثل هذا القلق الذي يسكن "المهدي" ويسكن كاتب الرواية والبوح به مبكّرا يُراد به جرّ القارئ نحو مربّع السؤال التغييري الذي ينشده الراوي لقرطاج (تونس). فبقدر ما أمّنت قرطاج لنفسها نموذجا متفرّدا في الانتقال الديمقراطي من دون بقيّة دول الربيع العربي، لا تزال أمواج الانتقال الديمقراطي تعصف ببيوت الرمل ومؤسسات الدولة الناشئة منذ عشر سنوات كاملة. فقد عجز سكان قرطاج ونخبتها السياسية على تركيز محكمة دستورية تقيهم شرّ "فتاوى" القصر وشطحات ساكنها.
لا يزال الانتقال الديمقراطي يبحث عن مرفأ يقيه شرّ الاغتيالات السياسية وجحيم العمليات الإرهابية التي ما فتئت تغدر بعناصر الجيش والأمن على مقربة من مرتفعات البلدات التي قدحت شرارة الثورة العظيمة...
على اختلاف مشاغل شخوص القصّة وارتباطاتهم السياسية، لم يفت الراوي التأكيد على الأواصر التي تجمعهم، حيث يشير في إطار تعريفه بشخصية البطل "عبد الودود" أنه "جمعه بـ"فوّاز" و"مهدي" صداقة لانحدارهم من مدينة واحدة بل لانتمائهم إلى حيّ واحد. فقد كانوا لا يفترقون في السكن والدّراسة والتنقّل. لكن باعدت بينهم المشاغل في السنة الأخيرة. فقد انخرط "مهدي" في سلسلة تحرّكاته النضاليّة فشغلته و"فاطمة" عن جميع الأصدقاء.
أمّا "فوّاز" فقد كان كثير التردد على مقرّ جريدة الحريّة يساعد في رقن بعض المقالات أو يتلقى تكوينا حزبيّا." فالتغيير الذي ينشده الراوي لقرطاج يمرّ عبر التفاف أبناء المدينة الواحدة بل وأبناء الحي الواحد وتعاونهم بعيدا عن الصراعات السياسية المدمرة أملا في وصول آمن لمركبة الانتقال الديمقراطي إلى شاطئ الأمان.
السرد المتقطّع دلالة على تشعّب أحداث الرواية
اعتنى أغلب نقّاد الرواية بالزّمن السردي لكونه من المرتكزات الأساسية في الرواية. فـاللغوي الروسي "ميخائيل باختين" يعتبر أنّ الميزة الجوهرية للرواية هي: "التعايش والتفاعل في الزمن وضمنه... والمهم هو رؤية العالم وتفكيره من خلال تنوّع المضامين وتزامنها والنظر إلى علاقاتها من زاوية زمنية واحدة" ويقدّم "رولان بارت" رؤية أخرى يقول فيها: "إنّ المنطق السّردي هو الذي يوضّح الزمن السردي وأنّ الزمنية ليست سوى قسم بنيوي في الخطاب ... ولا يوجد إلاّ في شكل نسق أو نظام... والزمن له وجود وظيفي دلالي".
ويرى "ميشال بوتور" أنّ: "الزمن هو الشخصية الرئيسية في الرواية المعاصرة بفضل استعمال العودة إلى الماضي وقطع التسلسل الزمني وباقي التقنيات الزمنية الّتي كانت لها مكانة مرموقة في تكوين السرد وبناء معماره". ويقسّم بوتور الزمن إلى نسقين : زمن الكتابة وزمن المغامرة.
وإن قمنا بتجميع هذه الآراء لانتهينا إلى أنّ الزمن هو الفاعل والمؤثّر في بنية السرد الروائي. وقد خضعت رواية "ثرثرة في قرطاج" إلى تداخل زمني غريب وهو زمن دالّ وإن بدا كثير التشتّت. ومن دلالته تنوّع الرؤى الزمنية لقرطاج / تونس عبر التاريخ. فقد قدّم الكاتب صورا زمنية مختلفة: قرطاج القديمة، قرطاج الأغالبة، قرطاج الأندلس، قرطاج بناء الدولة الوطنية الحديثة، قرطاج الصراع السياسي إبّان الاستقلال، قرطاج الثورة...
وعلى هذه الرؤى الزمنية المختلفة والمتشابكة فإنّها محكومة بمنطق روائي ذي دلالات جوهرية لأنّ الكاتب صوّب عدسته نحو مشاغل بعينها وهي الأزمات الّتي عاشتها تونس قرطاج ، مُبيّنا أنّ لكلّ حادثة تداعيات مباشرة أو غير مباشرة على الأحداث اللّاحقة لها. فاغتيال حشّاد على سبيل المثال ولّد اتّحاد بنمط مُعيّن، واغتيال صالح بن يوسف ولّد تونس أيضا بنمط مّا، وحكم العسكري المتسلّط أنشأ نظاما صارما ظالما في الحكم.
وإذا تشتّت الزمن بين الاستباق والاسترجاع فإنّه قد حكم بمنطق التشويق والحبكة القصصية. أمّا التشويق فمأتاه الحيرة المتواصلة للبطل الناتج عن العقدة والقادح كما يلي:
ـ العقدة: موت الأب ... القادح : الجنحة الـتي منعته من التوظيف
ـ العقدة: البطالة... القادح: العمل في السياحة
ـ العقدة: الثورة ... القادح: غياب محرّك فعلي للثورة
فكلّما اعتقد القارئ نهاية البطل بفعل العراقيل الّتي تعترضه يتولّد قادح دافع لتواتر الأحداث. وبهذا فإنّ ما يتحكّم في الرواية ليس الزمن الفيزيائي بل الزمن النفسي. ومن علامات ذلك أنّ الكاتب قام بإسقاط الكثير من الأحداث عبر تواترها الزمني ليقف عند أحداث أخرى مدقّقا ومتوسّعا وسائلا ومستفسرا ومتفحّصا. وهو ما جعله ينجح في جرّ القارئ إلى حلقات السرد المتقطّع المتشابك والخاضع لثنائية الاسترجاع والاستباق والآني. تحقق له ذلك من خلال استرجاع "المهدي" لمآسيه ومآسي وطنه وعائلته، ثمّ تحدّث "المهدي" عن حيثيات الثورة وخلفياتها ومظاهرها ودوافعها.
ثمّ لا يلبث أن يعرج به إلى الحديث عن أهداف الثورة ونتائجها المستقبليّة. السرد المعقّد جدّا دلالة على تعقّد الأحداث داخل الرواية وهي أحداث محكومة بالمفاجأة في مواضع كثيرة. إنّ الرواية وإن كانت عابرة للأزمنة فإنّها محكومة بمنطق داخلي مميّز تفنّن الكاتب في إبداعه لينسج خطّية جديدة وأفق تجريبي جديد يضاف للرواية العربية.
الحبكة القصصية
يقف قارئ الرواية على حبكة قصصية متفرّدة ومأتاها توالد الأحداث من بعضها البعض. وكلّ حدث رئيسي تتولّد عنه أحادث فرعية ليعبر الكاتب عبر آلة الزمن ليتلقط مختلف الآراء. ومن أمثلة ذلك شغف فاطمة بأجدادها المورسكيين هو من دفعها إلى البحث في تاريخهم ودورهم الفاعل في تونس. ودفاع عبد الودود عن منصبه الشرعي دفعه إلى تذكير مهدي بالظلم الّذي تعرّضت له الأحزاب الإسلامية. وتذكّر حمّة للأمني الّي افتكّ منه حبيبته وردة دفعه إلى الانتقام منه.