هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الفتوى ليست علما فقط يقوله الفقيه الذي يفتي الناس، بل هي علم بالشرع، واتصال بالواقع الذي يفتي فيه الفقيه، وتبصر بما في المجتمع من معلومات ووقائع وتطورات، وكثير من الناس يظن أن الفتوى هي فقط حفظ المتون، والأقوال الفقهية والاختلاف الفقهي، والراجح منها مجردا، بعيدا عن الواقع، بحسب الأدلة والنصوص والقواعد الفقهية.
هذا هو ما نسميه علم الفقه، أما علم الفتوى فهو أمر آخر، ولذا نجد كثيرا من كتب المذاهب تتطور في الرأي الفقهي من زمن لآخر، وما يعتمده مجتهدو المذاهب في زمان، يعتمد غيرهم رأيا آخر في زمان آخر، وهو سبب ثراء الفقه الإسلامي، والسبب في ذلك: عودة كتب المذاهب لكتب الفتاوى عند علماء المذهب والشريعة بوجه عام.
والذي يجعل الفتوى تختلف وتتطور من رأي لآخر، هو الزمن ومتطلباته وتطوراته، فيما يقبل التطور، وليس له حكم الثبات، وهو ما أصل له الفقهاء بقاعدة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، وما كتب فيه وأصل ابن القيم فصلا بعنوان: تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والنيات والمقاصد والأحوال والأشخاص، وكتب فيه شيخنا القرضاوي كتابا بعنوان: موجبات تغير الفتوى في عصرنا.
وهناك محاولات معاصرة في كتابة: (علم اجتماع الفقه) لكنها وقفت عند المحاولات المحدودة للأسف، فكتب الشيخ محمد أبو زهرة سلسلة كتبه عن الأئمة، وفيها هذا البعد المهم، ببيان الجانب الاجتماعي في حياة هؤلاء الأئمة، وعلاقته بالبيئة، والآراء التي وردت عنهم، ويعد أبو زهرة أول من أسهم في العصر الحديث من العلماء في هذا المضمار، وهناك محاولات أخرى لم تكتمل بعد، وقد أشار إلى أهميتها دكتور إبراهيم البيومي غانم في كتابه (ميراث الاستبداد).
علم اجتماع الفقه مهم لدارسيه بلا شك، لكن علم اجتماع الفتوى صار ملحا وعاجلا في الإلمام به، نظرا لما اتسمت به حياتنا الآن، من سرعة الاتصالات، وكثرة مواقع وقنوات الفتوى، سواء المباشرة منها، أو غير المباشرة، فالسائل الذي يتصل ببرنامج فتوى مباشرة، قد يكون من نفس مكان المفتي، وقد يكون من مكان آخر، وقد وقد... الخ، وبعض المفتين له تضلع في علوم الشريعة، لكنه للأسف ليس متضلعا بنفس الدرجة بواقع الفتوى التي يفتي فيها، وهي معاناة لا يشعر بأثرها وخطورتها إلا من يرقب ويرصد هذه الفتاوى، ولذا حرص عدد من العلماء على تأسيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ومعظم أعضائه من أهل العلم ممن يقيمون في هذا المجتمع الأوربي.
وعلم اجتماع الفتوى تبدأ أصوله من فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم، فالمتأمل لها يجده يراعي هذا الأمر، وإلمامه بالجانب المجتمعي في الفتوى، سواء كانت لفرد أم لمجتمع، نجد ذلك في نماذج واضحة للمتأمل.
علم اجتماع الفقه مهم لدارسيه بلا شك، لكن علم اجتماع الفتوى صار ملحا وعاجلا في الإلمام به، نظرا لما اتسمت به حياتنا الآن، من سرعة الاتصالات، وكثرة مواقع وقنوات الفتوى، سواء المباشرة منها، أو غير المباشرة،
من ذلك: عندما يسأله أحد الناس سؤالا فيجيبه إجابة معينة، ثم يسأله آخر نفس السؤال فيجيب إجابة أخرى، أو يطلب منه النصيحة، أو العظة، فهو سؤال واحد، ولكن الإجابة مختلفة، فيقول لأحدهم: قل آمنت بالله، ثم استقم. ويقول لآخر: لا تغضب، فيلح في النصيحة، فيجيبه صلى الله عليه وسلم: لا تغضب، مرارا.
وهو ما مارسه صلى الله عليه وسلم مع المشكلات المجتمعية، ومنها نموذج مشكلة الشاب الذي طلب إليه أن يرخص له في الزنا، فقد أتى شابٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه. مه. فقال: "ادنه، فدنا منه قريبا". قال: فجلس.
قال: "أتحبه لأمك؟" قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم".
قال: "أفتحبه لابنتك؟" قال: لا. والله يا رسول الله جعلني الله فداءك قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم".
قال: "أفتحبه لأختك؟" قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم".
قال: "أفتحبه لعمتك؟" قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم".
قال: "أفتحبه لخالتك؟" قال: لا. والله جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم".
قال: فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه" قال: "فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء".
كان يمكنه صلى الله عليه وسلم أن يجيبه وفقط بحرمة الزنى، أو يذكر له الآية في تحريم الزنى، لكنه هنا ناقشه بما يصلح لمجتمعه آنذاك، وطبيعة تفكيره ونمطه، وهو ما لم يفطن له بعض الدعاة الذين ذهبوا إلى أوروبا، وقد قابلوا شبانا ولدوا في أوروبا لآباء عرب، فعندما يناقشه هؤلاء الشباب الذي نشأ في بيئة نمطها التفكيري غير بلاد العرب، فيناقشهم في الزنى، فيقول له الشيخ: هل ترضاه لأمك؟ فيرد إجابة صادمة: براحتها، لو قبلت فهذا قرارها!!
وعندما سأله صحابة يعملون بالبحر بالصيد، ويكون معهم ماء يكفي للشرب فقط، وقد سألوه عن الوضوء من ماء البحر فقط، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، لقد كان سؤالهم عن الوضوء، فلماذا يجيبهم عن الأكل أيضا؟ لأنه فهم صلى الله عليه وسلم أن حالة ومجتمع الصيد لا يقف عند الماء للوضوء فقط، بل سيحتاج إلى الانتفاع بصيد البحر.
وهكذا أصل النبي صلى الله عليه وسلم لمراعاة هذا الأمر في الفتوى، فالإنسان ابن بيئته، وابن مجتمعه، ولا ينفصل عنه، وهو ما عبر عنه صحابي جليل من الأنصار وهو سيدهم رضي الله عنهم، عندما غضبوا أن قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم وأعطى معظمها للمسلمين الجدد من أهل قريش، فلما نقل عتاب الأنصار له صلى الله عليه وسلم، سأله الرسول: وما تقول؟ قال: يا رسول الله، إنما أنا رجل من قومي. في دلالة واضحة في إجابته أن الإنسان لا ينفصل في الغالب عن مجتمعه، ولذا لا بد من دراسة هذا المجتمع عند إصدار فتوى تتعلق به.
الموضوع له تفاصيل طويلة للأسف لا يوجد حتى الآن كتاب يجمع شتاتها، أو رسالة علمية تتناوله، بحيث تكون جسرا بين الفقه والفتوى والاجتماع، أو بين الفقه والعلوم الإنسانية نظرا وتطبيقا.
[email protected]