اختلفت الأقوال في
الإسراء والمعراج، وانشغل العلماء بالإسراء إلى المسجد الأقصى؛ أكان بالجسد؟ والمعراج إلى السماوات أكان بالروح؟ وبعضهم قال بالرؤيا، ورؤيا الأنبياء حق. وكنت أغفل عن أمر وهو أن الإسراء كان بالبراق، والمعراج كان بالمعراج، وتخيلتها غرفة مصعد، أو صحناً فضائياً، وسيأتي بيانه. وقد يقع نسيان من بعض الرواة، والنسيان فيه أحياناً توسعة للمعاني، فالحق: إنه إسراء واحد، بروحه وجسده يقظة، في القصة كلها. إلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة.
القارئ يعرف قصة الإسراء والمعراج، فلن نلخصها له، لكن سنذكر تأويل بعض الوقائع.
السؤال: ما الحكمة في كونه تعالى جعل الإسراء ليلاً؟
يجيب شهاب الدين القسطلاني في كتابه "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية"؛ بأنه إنما جعله ليلاً تمكيناً للتخصيص بمقام المحبة، والليل أخص زمانا للمحبين لجمعهما فيه، والخلوة بالحبيب متحققة بالليل.
قال ابن المنير: ولعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيماناً بالغيب، وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم. إذ الليل أخفي حالاً من النهار، قال: ولعله لو عرج به نهاراً لفات المؤمن فضيلة الإيمان بالغيب، ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقي وجحد.
وفي سباق المقارنة: أن ليلة الإسراء أفضل في حق النبى - صلى الله عليه وسلم - وليلة القدر أفضل في حق الأمة.
مراحل المعارج:
والمعاريج ليلة الإسراء عشرة، سبع إلى السماوات، والثامن إلى سدرة المنتهى، والتاسع إلى المستوى الذي سمع فيه صريف الأقلام في تصاريف الأقدار، والعاشر إلى العرش والرفرف والرؤية وسماع الخطاب بالمكافحة والكشف الحقيقي.
وفي الإسراء والمعراج تصانيف، وله رواة وأسانيد لن نذكرها، وإنما غرضنا هو ذكر بعض الخصائص، وسنقارنها مع بعض الرحلات اللاتينية للفهم، وهي رحلة حافلة بالرموز والتمثيلات. قال البيضاوى: إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيراً، كما مثلت له - صلى الله عليه وسلم - الجنة والنار في عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس.
وقال العارف ابن أبي جمرة: فيه دليل على أن الإيمان والحكمة جواهر محسوسات لا معاني، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال عن الطست (الذي غسل فيه قلبه في حادثتي شق الصدر): إنه أتى به مملوءاً إيماناً وحكمة، ولا يقع الخطاب إلا على ما يفهم ويعرف، والمعاني ليس لها أجسام حتى تملأ، وإنما يمتلئ الإناء بالأجسام والجواهر، وهذا نص منه - صلى الله عليه وسلم - بضد ما ذهب إليه المتكلمون في قولهم: إن الإيمان والحكمة أعراض.
ويحتمل أن يكون توطئة وتمهيداً لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك بإفراجه عن السقف (عندما نزل عليه الملك للإسراء به) ثم التأم السقف على الفور كيفية ما يصنع به، وقرّب له الأمر في نفسه بالمثال المشاهد في بيته، لطفاً في حقه - صلى الله عليه وسلم - وتثبيتاً لصبره.
وفي التأويل: قد حصل من شق صدره الكريم إكرامه - صلى الله عليه وسلم - بتحقيق ما أوتي من الصبر، فهو من جنس ما أكرم به إسماعيل الذبيح بتحقيق صبره على مقدمات الذبح شدّا وكتفاً وتلاًّ للجبين، وإهواء بالمدية إلى المنحر. (ثم أتيت بطست من ذهب)، وإنما أتى بالطست لأنه أشهر آلات الغسل عرفاً. وقيل لم شقَّ صدره مرتين؟ الجواب: شق إعداداً لكل مرحلة.
فإن قلت: إن استعمال الذهب حرام في شرعه - صلى الله عليه وسلم - فكيف استعمل الطست الذهب هنا؟
أجاب العارف ابن أبى جمرة: بأن تحريم الذهب إنما هو لأجل الاستمتاع به في هذه الدار، وأما في الآخرة فهو للمؤمنين خالصاً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هو لهم في الدنيا وهو لنا في الآخرة". قال: ثم إن الاستمتاع بهذا الطست لم يحصل منه - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان غيره هو السائق له والمتناول لما كان فيه حتى وضعه في القلب المبارك. فسوقان الطست المبارك من هناك، وكونه كان من ذهب دال على ترفيع المقام فانتفي التعارض بدليل ما قررناه.
ويمكن أن يقال: إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع في تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب، فيلحق بأحوال الآخرة، أو لعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب في هذه الشريعة. ويظهر ها هنا مناسبات: منها أنه من أواني الجنة، ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب، وأنه لا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر فناسب قلبه - صلى الله عليه وسلم - لأنه من أواني أحوال الجنة، ولا تأكله النار ولا التراب، وإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولا يلحقه الصدأ، وأنه أثقل من كل قلب عدل به، وفيه مناسبة أخرى وهي ثقل الوحي فيه.
وقال السهيلى وابن دحية: إن نُظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهاب الرجس عنه ولكونه عند الذهاب إلى ربه، وإن نُظر إلى معناه، فلوضاءته ونقائه وصفائه.
فإن قيل: ما الحكمة في شق صدره الشريف ثم ملئ إيماناً وحكمة، ولمَ لم يوجد الله تعالى ذلك فيه من غير أن يفعل فيه ما فعل؟
أجاب العارف: بأنه - صلى الله عليه وسلم - لما أعطي كثرة الإيمان والحكمة وقوى التصديق إذ ذاك، أعطي برؤية شق البطن والقلب عدم الخوف من جميع العادات الجارية بالهلاك. وهو أيضا مثل قولهم لم يولد الإنسان مختوناً، وذلك حتى يجد الإنسان ويطيع ويستنُّ، وتنصب الموالد ويأكل الناس ويتحابون.
وأما الحكمة في غسل قلبه المقدس بماء زمزم، فقيل لأن ماء زمزم يقوي القلب ويسكن الروع.
كان ذلك إعظاماً وتأهباً لما يلقى هناك، وقد جرت الحكمة بذلك في غير ما موضع مثل الوضوء للصلاة لمن كان منظفاً.
أما قوله: "ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا"، فظاهره أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء.
قال العارف ابن أبى جمرة: أفاد ذلك أنهم كانوا يمشون في الهواء، وقد جرت العادة بأن البشر لا يمشون في الهواء، لا سيما وقد كان راكباً على دابة من ذوات الأربع، لكن لما أن شاءت القدرة ذلك كان، فكما بسط الله تعالى لهم الأرض يمشون عليها، كذلك يمشون في الهواء، كل ذلك بيد قدرته، لا ترتبط قدرته تعالى بعادة جارية. وقد سئل - صلى الله عليه وسلم - حين أخبر عن الأشقياء الذين يمشون على وجوههم يوم القيامة فقال -صلى الله عليه وسلم-: "الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم قادر أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم".
وقد قيل: إن الحكمة في الإسراء به راكباً، مع القدرة على طي الأرض له، إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيساً له بالعادة، في مقام خرق العادة، لأن العادة جرت على أن الملك إذا استدعى من يختص به بعث إليه بمركوب سنيّ يحمله عليه في وفادته إليه. وذكر في حبِّ الناس لأفلام الكاوبوي أن بطله الثاني حصان.
والحكمة في كون البراق دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، ولم يكن على شكل الفرس، إشارة إلى أن الركوب كان في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة. وقد وقع في خاطري (كاتب السطور) أن الخيل من الخيلاء ولا يجوز أن يختال عبد على فرس يفترس المسافات أو جواد يجود في حضرة الجواد. ويناسب الجدة والغرابة فهو حيوان لا مثيل له بين الحيوانات لانفراد الرحلة.
وذكره بقوله: أبيض، باعتبار كونه مركوباً، أو عطفاً على لفظ البراق. واختلف في تسميته بذلك، فقيل: من البريق.
وفي حديث ابن مسعود في الفتح: إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه وإذا هبط ارتفعت يداه. وفي رواية لابن سعد عن الواقدى بأسانيده: له جناحان. قال الحافظ ابن حجر: ولم أرها لغيره.
وعند الثعلبي - بسند ضعيف - عن ابن عباس، في صفة البراق: له خدٌ كخدِ الإنسان (السانتورس عند الإغريق) وعرف كعرف الفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنب كالبقر، وكان صدره ياقوتة حمراء. وفي رواية أبي سعد في "شرف المصطفى": فكان الذي أمسك بركابه جبريل وبزمام البراق ميكائيل.
وفي رواية معمر عن قتادة عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بالبراق ليلة أسرى به مسرجاً ملجماً، فاستصعب عليه، فقال جبريل للبراق معاتباً: ما حملك على هذا، ما ركبك خلق قط أكرم على الله منه، قال: فارفضَّ عرقاً، ويخاطب البراق مرة بالتذكير وورد مرات بالتأنيث، ومرات بالتذكير، وقيل لا هو ذكر ولا أنثى.
واختلفت الأقاويل في جبريل هل كان قائداً أم سائراً أم دليلاً، وأن الدابة كانت تضطرب بأذنيها، فيعاتبها جبريل، ويمر النبي بامرأة حاسر هي الدنيا في التأويل، وعجوز هو إبليس في التأويل، ويمرُّ أقوام ويسمع أصواتاً ويصلي بالأنبياء إماماً، ويربط البراق بالحلقة، ويقدم له جبريل الخمر واللبن، فيختار اللبن، فيقول اخترت الفطرة.
وفي تعليل تقديم جبريل الخمرة لضيف السماوات العلى، وهي محرّمة، قيل إنها لم تكن محرمة وقتها، وقيل إنها خمرة الجنة، وإن شرب الخمرة سيقال عندها: كذب الفؤاد ما رأى، وليس ما كذب الفؤاد ما رأى.
في الإسراء والمعراج الأنبياء يتنافسون في مرضاة الله والسبق إليه، والنقاش احتدَّ على هذه الصلاة في بيت المقدس، أنفل أم فرض، ونقاش على الحلقة التي نقب جبريل بها الصخرة فخرقها، وربط البراق. وفيها فائدة اعقل وتوكل، أو لمشابهة فعل البشر. وقيل إن في إلانة الحجر إكرامٌ للنبي عليه الصلاة والسلام الذي ألان لأخيه داود الحديد.
وفي صفة المعراج:
"أُتي بالمعراج ولم أر قط شيئاً أحسن منه"، وهو الذي يمد إليه الميت عينيه إذا احتضر، فأصعدنى صاحبي فيه حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء. وفي رواية كعب: فوضعت له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب حتى عرج هو وجبريل، وإن قيل لمَ ذهب مرّة وفضة مرّة، نقول لأن الإنسان يحبُّ التنويع، وقد اشتهت اعتماد الرميكية المشي على الطين.
وفي "شرف المصطفى": أنه أتى بالمعراج من جنة الفردوس، وأنه منضد عن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة. وهذا يشبه المركبة الفضائية، أو غرفة المصعد (الأسانسير).
وكلما رقيا في سماء، سئل جبريل: من؟ قال: جبريل (وفيها أدب الإسلام ولم يقل: أنا). وفي السؤال دهشة أهل السماء من وفادة الضيف: أرسل إليه، أبعث؟ والترحيب بالنبي من بعد تحية الإسلام: مرحبا بك ومرحبا به، بصيغة الغائب وهي أكرم.
والسؤال عن مراتب الأنبياء:
إن في السماء الأولى آدم، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم، وفيها أقوال وروايات.
لمَ كان هؤلاء الأنبياء - عليهم السلام - في السماوات دون غيرهم من الأنبياء؟ وما وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء تخصه؟ ولمَ كان في السماء الثانية بخصوصها اثنان.
فأما آدم - عليه السّلام - فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض، بما سيقع لنبينا - صلى الله عليه وسلم - من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألفه من الوطن، ثم كانت عاقبة كل منهما أن يرجع إلى وطنه الذي خرج منه.
وبعيسى ويحيى - عليهما السلام - على ما وقع له أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم على البغي عليه، وإرادتهم السوء به.
وبيوسف، بما وقع له من إخوته على ما وقع لنبينا - صلى الله عليه وسلم - من قريش، من نصبهم الحرب له، وإرادتهم إهلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك يوم الفتح بقوله لقريش: "أقول لكم كما قال يوسف: لا تثريب عليكم".
وعن وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء: أن الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا لأنه أول الأنبياء وأول الآباء، وهو الأصل، ولأجل تأسيس النبوة بالأبوة. وأما عيسى فإنما كان في السماء الثانية لأنه أقرب الأنبياء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ولا انمحت شريعة عيسى - عليه السّلام - إلا بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولأنه ينزل في آخر الزمان لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على شريعته ويحكم بها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أولى الناس بعيسى"، فكان في الثانية لأجل هذا المعنى.
وإنما كان يحيى - عليه السّلام - معه هناك لأنه ابن خالته، وهما كالشيء الواحد، فلأجل التزام أحدهما بالآخر كانا هناك معاً.
وإنما كان يوسف - عليه السّلام - في السماء الثالثة، لأن على بشارة حسنه تدخل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الجنة، فأُري له هناك لكي يكون ذلك بشارة له - صلى الله عليه وسلم - فيسرُّ بذلك.
وإنما كان إدريس - عليه السّلام - في السماء الرابعة، لأنه هناك توفي، ولم تكن له تربة في الأرض على ما ذكر وإبراهيم في السماء القريبة من العلي القدير لأنه الخليل، ولا أحد أفضل من الخليل إلا الحبيب، والحبيب ها هو قد علا ذلك المقام، فكان الخليل فوق الكل لأجل خلته وفضله.
ووصف موسى النبي بالغلام، وفيه مدح، لا كما يقرأ هذه الأيام، فالغلام هو الفتى.
وفي حديث مالك بن صعصعة: "فلما جاوزته - يعنى موسى - بكى، فنودي: ما يبكيك؟ قال: ربِ، هذا غلام بعثته بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي".
ولم يكن بكاء موسى حسداً، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان آسفاً على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجات له بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم، المستلزمة لتنقيص أجره، لأن لكل نبي بمثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه في العدد دون من اتبع نبينا - صلى الله عليه وسلم - مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة. ولو كان حسداً لتذكر موسى أنه خلع نعليه في الأرض المباركة، وعرج خاتم الأنبياء بنعله، كما أن موسى ضرب بعصاه الحجر، ونبع الماء بين أصابع النبي من غير ضرب..
وأما قول موسى - عليه السّلام -: "لأن غلاماً" ولم يقل غير ذلك من الصيغ، فإشارة إلى صغر سنة بالنسبة إليه، وفي القاموس: الغلام: الطار الشارب، والكهل ضده. وقال الخطابي: العرب تسمي الرجل المستجمع السن غلاماً، ما دامت فيه بقية من القوة.
فتح الباري: ويظهر لي أن موسى - عليه السّلام - أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا من استمرار القوة في الكهولة إلى أن دخل في أول سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعتراه في قوته نقص، حتى إن الناس في قدومه المدينة لما رأوه مردفاً أبا بكر، أطلقوا عليه اسم الشاب، وعلى أبي بكر اسم الشيخ، مع كونه في العمر أسن من أبي بكر والله أعلم، وقد ذكر ذلك في الهجرة من المقصد الأول.
وفي قصة المراجعة وتأويلها، في رواية النسائي عن أنس: فقال لي إنى يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك، وذكر مراجعته مع موسى، وفيه: فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتين فما قاموا بهما. وقال في آخره: فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك. قال: فعرفت أنها عزمة من الله فرجعت إلى موسى فقال: ارجع، فلم أرجع.
وقيل حتى ينعم بالحضور بين يدي الله، مثله مثل موسى الذي عدد صفات عصاه للاستئناس.
قال العارف ابن أبي جمرة: والحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أنه - صلى الله عليه وسلم - لما عرج به ورأى في تلك الليلة تعبد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله تعالى له ولأمته تلك العبادات كلها في ركعة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص. وكل صلاة إسراء لكل مصلٍ.
وأشار ابن أبي جمرة: إلى أن الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس إظهار الحق للمعاند، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلاً إلى البيان والإيضاح، حيث سألوه عن جزئيات من بيت المقدس كانوا رأوها، وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق أنه أسرى به إلى بيت المقدس. وإذا صح البعض لزم تصحيح الباقي، فكان ذلك سبباً لقوة إيمان المؤمنين، وزيادة في شقاء من عاند وجحد من الكافرين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
في نصوص الأمم الكبرى، رحلة جيسون الطويلة في الأوديسة مثلاً، وهي أسطورة، إلى كولخيس كشرط لاستعادة عرشه والعودة، وقد انضم معه عدد من الأبطال والمغامرين، ومنهم هرقل، والشاعر أورفيوس وغيرهم الذين يصل عددهم للخمسين. ورحلته مغامرات وخيانة زوجته له، وتنتهي بموته بسقوط عمود خشبي وبئس المصير.
والإسراء عند المسلمين حقيقة، يعود جيسون بالجزة الذهبية، ودائماً يعود المغامر بجائزة من متاع الدنيا، وهي غالباً كنز أو مهر العروس، وكانت الجائزة التي عاد بها النبي عليه الصلاة والسلام من أعظم رحلة عرفها بشر هي الصلاة، وهي أعظم جائزة.
نختم بالنظرية النسبية التي جعلت أينشتاين أكبر عقل عرفته العصور، أو هكذا شاء أولياء الأمر المعاصرون، وهي نظرية، والإسراء والمعراج حقيقة عند المسلمين، بل هي نسبية النسبية. ففي النظرية النسبية يعود بطل النظرية شاباً ليجد أحفاداً له شاخوا، ويعود النبي والزمان حاله، فهو زمن له وحده. ويمكن تأويل ذلك بالقول إن عمر النبي كثير، يبلغ آلاف السنوات الضوئية. وقد قال الله فيه: ورفعنا لك ذكرك. فالإسراء ذكر وذكرى.
twitter.com/OmarImaromar