كتب

حين تكون الميلودراما مشروعا لنهضة المجتمع.. قراءة في كتاب

كيف يمكن تحويل الميلودراما إلى عمل اجتماعي خلاق؟ كتاب يجيب- (عربي21)
كيف يمكن تحويل الميلودراما إلى عمل اجتماعي خلاق؟ كتاب يجيب- (عربي21)

الكتاب: "مسرح الشعب"
الكاتب: د. علي الراعي
الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة- 2020 

ها قد وصلنا إلى الكتاب الثالث، والأخير في هذا العمل الموسوعي، وحمل هذا الكتاب عنوان "مسرح الدم والدموع.. دراسة في الميلودراما المصرية والعالمية".

ثمة ميلودرامات جيدة، إلى جوار الميلودرامات السيئة، وقد سجَّل د. محمد مندور استخدام المسرح المصري الميلودراما في النقد الاجتماعي، بدلًا من الكوميديا؛ لأن الناس في مصر كانوا حزانى، مُثقلين بالهموم، فوجدوا في الميلودراما تنفيسًا عن أحزانهم. وقد وجدت الميلودراما لها في السينما مجالًا أوسع، وأكثر تأثيرًا، بما لا يقاس. (ص 368- 369).

في فرنسا، حدث أن وزَّع الفنانون الشجعان لفائف من الورق، على النظارة، حوت الحوار، الذي كان مفروضًا أن ينطق به الممثِّلون. وكان هذا اللون من التمثيل الممنوع أقدر على خدمة الروح الثورية، التي أشعلتها انتفاضة 1789م، من التمثيل التقليدي، القائم على جمال العبارة وأناقتها. وقد أصرَّ ذلك العصر على أن يتبنى قضية الفضيلة. وجاء جان جاك روسو، فأعلن أن المصدر الرئيسي للشر في العالم هو انعدام المساواة، ولا حل أمامنا، سوى أن نعود إلى الطبيعة؛ إلى الحالة البدائية، إلى وضع المتوحِّش النبيل. وهكذا، وُلِدت الميلودراما، أي الدراما + الميلوديا. 

وتقدَّم روسو خطوة واضحة بقضية الفضيلة، فربطها بقضية اجتماعية بارزة، هي قضية انعدام المساواة، ثم جعل الفقراء، والبسطاء، وحدهم، مستودع هذه الفضيللة. ومن أهم من كتبوا الميلودراما، تعبيرًا عن الطبقة الوسطى، الكاتب الألماني أوغيست فريدريك فرديناندفون كوتزيبيو (1761- 1819)، الذي كتب تسعًا وثمانين مسرحية، وفي مصادر أخرى، أنه وضع مائتين وثماني عشر مسرحية. (ص 372، 374، 375، 377).

في الفصل الثاني "إسماعيل عاصم وأول ميلودراما مصري"، إشارة إلى أن الميلودراما الاجتماعية المصرية، ولدت، ولادة متواضعة، على يد محام، كان مشهورًا، في زمانه، اسمه: إسماعيل عاصم، في حوالي منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر. ولطالما تمنى الشيخ سلامة حجازي أن يبث الدروس الاجتماعية، والمبادئ الأخلاقية، والعظات الوطنية، في ثوبها الوطني، وردائها القومي، فاستجاب له المؤلِّف، عاصم بيك. ولم يتقاضى الأخير أجرًا، عن مسرحيات ثلاث، قدَّمها إلى حجازي. وقد صوَّرت مسرحية "صدق الإخاء" الميلودراما المصرية، وهي في لحظة الميلاد، من رحم تراث اهتز، اهتزازًا واضحًا، بمقدم  لون ثقافي جديد. وغدا مكان الميلودراما في المسرح المصري قريبًا من مكان "حديث عيسى بن هشام" في الرواية المصرية. (ص 393، 403).

"فرح أنطون بين الطبيعة والميلودراما" هو عنوان الفصل الثالث، وكانت مسرحية "مصر الجديدة ومصر القديمة" (1913)، التي مثلتها فرق جورج أبيض، على مسرح الأوبرا، وكان أنطون قد قرأ أعمال إميل زولا، فأعجب بها، ولطالما انتخب مقاطع عرضية من الحياة، وقدمها في أعماله الفنية، كما هي. وقد انحاز أنطون إلى هذه النظرية الطبيعية، في حين رفض الصيغة الإغريقية للمسرح. وقد تورَّط أنطون في أوصاف متضاربة لمسرحيته، نبع تناقضها من حقيقة أن الكاتب لم يعي، تمامًا حقيقة ما فعل بكتابته للمسرحية. (ص 405- 407).

لقد ولدت الدراما الاجتماعية، ميلادًا صحيحًا، من بطن الرواية، وبتشجيعٍ من النظرة الطبيعية للفن، وعلى يد فنان ملتزمٍ، واسع الأفاق. (ص 414).

استغرق الفصل الرابع "عباس علام: مطالب بعرش الميلودراما" إحدى عشر صفحة من القطع الكبير، بدأت بحديث المؤلِّف عن مسرحية علام "أسرار القصور"، وكُتبت العام 1913، ومُثِّلت بعد عاميْن. وقد كُتِب على نهج المسرحية المحكمة المثيرة. فضلًا عن مسرحيته "ملاك وشيطان"، وقصد بها علام التخفيف من حرارة الميلودراما على جمهوره، بالكوميديا الهزلية، وذلك لضمان جمهور أكبر لمسرحيته. (ص 415، 416، 421).

بدأ المؤلِّف الفصل الخامس: "الهاوية، وأزمة الإقطاع المصري"، بمسرحية "الهاوية"، التي كتبها محمد تيمور، وخرجت للناس، العام 1921، عن شخصية الوارث المتلاف، المقتنع بدوره. ويزيد المؤلِّف من وضوح قضية بطله (...) ضد طبقته؛ إنه غير مخدوع بما يُظهر خاله، من نُبْل، وشهامة، بين الحين والآخر. ورأى الراعي بأن مسرحية "الهاوية" تصوِّر أزمة طبقة، إلى جوار توضيحها أزمة أفراد من هذه الطبقة، وقد استطاع تيمور أن يعالج موضوعه معالجة ذكيَّة، وقادرة. (ص 427- 435).

 

 

لا ينبغي أن نفهم بأن القرن التاسع عشر، قد أنشأ الميلودراما من العدم، بل من تراث العلم المسرحي والروائي، من عهد اليونان، على الأقل. وقد أصبح الوصف والخطابة، والنقاش، والفزع، عناصر أساسية في مسرح سيتيكا. أما في مجال الفن القصصي، فإن أعمالًا، مثل "ألف ليلة وليلة"، تحفل بكل عناصر الميلودراما.

 

 



ركَّز الراعي في الفصل السادس من كتابه الثالث: "الذبائح ميلودراما ناضجة"، وهي المسرحية التي كتبها أنطون يزبك، العام 1925، وفيها استغنى يزبك، تمامًا، عن العيوب الخارجية في البطل الميلودرامي، نسج يزبك خيوط مؤامرة مسلَّحة، يعتزم بعض الضباط القيام بها، وحين تنكشِف، ويتعرَّض الضابط للمحاكمة، يرفع همَّام، وبعض زملائه، وثائق الإدانة من دوسيه المجلس العسكري، ليخفوا معالم الجريمة، غير أن نورسكا (زوجته)، حين يموت ابنها، تسرق هذه الأوراق، وتُقدِّمها لقريب لها يعمل صحفيًا بالإسكندرية. 

وهكذا، يقع همَّام، وعشرات الضباط من أقاربه، تحت تهديد بخطر عظيم. ومسرحية "الذبائح" ـ بعد هذا ـ حافلة بأسباب القوة؛ إنها تقتفي أثر أبسن العظيم، ومن عناصر مسرحه، المواجهات الكبرى بين الشخصيات، كذلك الاستعانة بسمات فوق الواقعية. وبدا لكثير من الناس، آنذاك، أن المأساة العصرية قد وُلِدت، أخيرًا. وأن مستقبلها ـ قياسًا على القوة غير العادية للمولود ـ لا بد أن يكون زاهرًا. غير أن ما وُلِد كان ميلودراما مصرية قوية، وناضجة، بها حوار نابض، متعدِّد الطبقات، حوار درامي، يحمل المعنى، والحركة معًا، ويرقى باللغة المسرحية، إلى مستوى اللغة الفنية، القادرة، وبها فكر واضح، وموقف اجتماعي محدَّد، تُعبِّر عنه شخصيات، مرسومة بعناية، تعبيرًا يلتقط جوهر الدراما، من أخذ وعطاء. (ص 437- 448).

أعطى المؤلِّف عنوانًا للفصل السابع، أخذه من المسرحية التي أخرجها للناس، العام 1932، يوسف وهبي، وحملت اسم "أولاد الفقراء"؛ وفيها البطل الميلودرامي به بعض الشبه ببطل إسماعيل عاصم، في "صدق الإخاء"، كلاهما يبدأ شخصًا سويًا، لا يلبث أن يفقد هذه الصفة، بعد الفصل الأول، ويلتقط الراعي عيوبًا كثيرة في مسرحية وهبي، أولها أنها تعرض مشكلة اجتماعية هامة، في إطار ضيِّق، مما يهوِّن من شأن المشكلة، ويُبرزها في ضوء غير الضوء الذي تستحِقُّه، بينما الحل الصحيح لمشكلة الفقر، هو الكفاح، السياسي والاقتصادي، في سبيل إلغاء الفقر. ومع ذلك، فإن الميلودرام الاجتماعية قد كسبت شيئًا بذاته من "أولاد الفقراء"؛ هو التعرُّض المباشر لقضايا المجتمع. (ص 449- 458).

تخصَّص الفصل الثامن في مسرحية "شقة للإيجار"، وإن أضاف الراعي إلى العنوان "والثورة الشاملة". والمسرحية لفتحي رضوان (1959)، وفيها يشعر البطل (عزت) بأنه عاجز عن أن يكون قائدًا للثورة، وهو، لهذا، في موقف حرج، حقًا. ومع هذا فإن "شقة للإيجار" دراما برجوازية، عالجت مشكلة اجتماعية، علاجًا زاعقًا، رنانًا، واستعان رضوان بالميلوداما، والكوميديا، معًا، وإن كانت أول مسرحية مصرية تعانق موضوع الثورة الشاملة، وضرورتها لهذا الموضوعالحساس. (ص 459- 467).

حين كتب ميخائيل رومان مسرحيته الوحيدة "الدخان"، جعل منها علي الراعي عنوانًا للفصل التاسع، والأخير. وفيها يمس حمدي (البطل) بأنه تحوَّل من إنسان يكتب على الآلة، إلى آلة تكتب على الآلة. وعبثًا حاول حمدي أن يبحث عن هدف يُشغل به، ويُعوِّضه عن الخواء الروحي، والفكري المُمض، الذي يلاقيه في الشركة. نال التوجيهية، وانتسب للجامعة، وتخرَّج من قسم الفلسفة، ومازال الفراغ هو هو. فجرَّب السجائر، والملاهي، والخمر، والهلس، والقمار، إلى أن وقع على كتاب، فقرأ، لكنه ندم على قراءته. ذلك أن حمدي فقد إيمانه، ونسي كل كلمة في الكتاب، كما نسي إيمانه، أيضًا، ومن ثم، أخذ يدور في دوامات من الشقاء الروحي لا تنتهي. فقد حمدي إيمانه، الديني والاجتماعي، أخذ يواجه المجتمع، والعالم كله، عاريًا. لا يريد أن يكون كغيره. إنه مختلف، حريص على الاختلاف؛ إنه فرد فوضوي، ثائر على الوضع الاجتماعي، وتنتهي المسرحية، وحمدي واقف وحيدًا يتحدَّث إلى الجمهور. (ص 469 472).

اعتبر الراعي مسرحية "الدخان" محاولة جادة، ومُخلصة، لعرض مشكلة مجتمعية هامة، وهي شعور أفراد من الطبقة الوسطى الصغيرة، نالوا ثقافة عالية، في ظروف بالغة الصعوبة، بأنهم محرومون، ومضيَّعون، ومسحوقون، تحت وطأة نظام اجتماعي ظالم (ص 477).

أبى الدكتور علي الراعي أن يتركنا، دون "خاتمة"، عن "ميلودراما بلا مخدرات" عنوانًا لها، مُنهيًا بأننا لا ينبغي أن نفهم بأن القرن التاسع عشر، قد أنشأ الميلودراما من العدم، بل من تراث العلم المسرحي والروائي، من عهد اليونان، على الأقل. وقد أصبح الوصف والخطابة، والنقاش، والفزع، عناصر أساسية في مسرح سيتيكا. أما في مجال الفن القصصي، فإن أعمالًا، مثل "ألف ليلة وليلة"، تحفل بكل عناصر الميلودراما. وفي حالة الميلودراما الدموية، فثمة قدرتها على أن تحل محل التراجيديا، في اعتبار عامة الناس، وتخلِّصهم من الفزع، وإهراق الدم أمامهم، نوع من الكثارسيس الشعبي، كما قال بنتلي، وفي الميلودراما البرجوازية، الشعبية خاصة، هو القدرة على تحقيق المستحيل، ولو في الخيال. 
أما الخيال الميلودرامي، فهو جزء من الخيال، الذي يعتمده فن الرسوم المتحرِّكة. إلى ذلك، فإن كُتَّاب الميلودراما يخدمون قضية المجتمع، وقضية الانتشار المسرحي معًا، وإذا كانت الميلودراما قد خدمت المسرح البرجوازي، بأن وفَّرت له كُتَّابًا، وخلقت له تكنيكًا، وضمنت له جماهير متحمِّسة، فإنها ـ بالتأكيد ـ قادرة أن تفعل هذا، وأكثر منه، لمسرح يُوجَّه لخدمة الشعب، ويُعبِّر عن روحه، وآماله.

لذا يرى الراعي، علينا أن لا نتردد في استخدام الميلودراما لعلاج القضايا الاجتماعية. على أن نتقدَّم من هذا الهدف إلى إنشاء أعمال أخرى، أكثر عمقًا، وأوفر حظًا، في الفن المسرحي، أعمال يرضى عنها المسرح، ويُقبل عليها الناس.

***

وبعد، فأنا مدين بالاعتذار، بسبب إدارتي الظهر لأسس مراجعة الكتاب، واكتفائي بتكثيف هذا الكتاب في كبسولة، ألمَّت بمضمون الكتاب، لكنها لا تُغني عن قراءة الكتاب نفسه، بل إنها تُحرِّض على العمل لاقتنائه، وقراءته من الجِلدة للجِلدة. والله من وراء القصد.

 

إقرأ أيضا: كتاب في مكونات الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري

 

إقرأ أيضا: فنون الكوميديا من خيال الظل إلى نجيب الريحاني.. قراءة في كتاب




التعليقات (0)

خبر عاجل